lualdengchol72@gmail.com
بقلم: لوال كوال لوال
جنوب السودان بين السلطة والانهيار الاقتصادي: تشخيص الأزمة السياسية بعد الاستقلال
منذ إعلان استقلال جنوب السودان في عام 2011، واجهت الدولة الوليدة تحديات سياسية هيكلية عميقة، لم تكن مجرد نزاعات مؤقتة أو خلافات عابرة، بل أزمة مركبة امتدت لتشمل كل أبعاد الحياة الوطنية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فقد جاء الاستقلال محملاً بالكثير من الآمال، لكنه في الوقت نفسه كشف هشاشة بنية الدولة الوليدة، وغياب مؤسسات قوية قادرة على إدارة التنوع والتعدد في مجتمع معقد إثنياً وقبلياً. هذه الهشاشة سرعان ما تجلت في الصراعات بين النخب السياسية والعسكرية على السلطة، وكان أبرزها الصراع بين الرئيس سلفا كير ميارديت ونائبه رياك مشار، الذي أدى إلى اندلاع حرب أهلية مدمرة عام 2013 وما تلاها من انقسامات مستمرة داخل الدولة. لم تكن هذه الخلافات مجرد صراع على المناصب أو النفوذ الشخصي، بل كانت تعبيراً عن صراع أوسع للسيطرة على موارد الدولة ومؤسساتها، وعن إعادة إنتاج جدلية المركز والهامش على المستوى الداخلي. المركز – ممثلًا بالعاصمة جوبا والنخبة الحاكمة – سيطر على الموارد الاقتصادية، بينما بقيت الولايات والمناطق البعيدة على الهامش، محرومة من الخدمات الأساسية وفرص التنمية. وبالتوازي، ظل الانتماء القبلي والولاء المجتمعي هو المحدد الأهم للسياسة، إذ لم تنجح الدولة الجديدة في بناء هوية وطنية جامعة، فازدادت الانقسامات بين المكونات، وتحوّل النزاع السياسي إلى نزاع مسلح متعدد الأبعاد الإثنية والقبلية. هذه الهويات القبلية لم تكن فقط مسألة اجتماعية، بل كانت عامل ضغط على العملية السياسية بأكملها. كل قرار أو اتفاق سياسي كان يواجه تحديات متمثلة في الولاءات القبلية والمصالح المحلية المختلفة، ما جعل تطبيق أي اتفاق سلام مهمة صعبة. وقد انعكس ذلك على الثقة بين المجتمع والدولة، إذ فقد المواطن العادي الإحساس بانتمائه الوطني، وأصبح يميل إلى الزعماء المحليين أو إلى قبيلته باعتبارها الملاذ الأكثر أماناً. هذا الاغتراب النفسي والوجداني لم يكن وليد اللحظة، بل تراكم على مدى عقود من التجربة السياسية السابقة التي اعتمدت سياسات مركزية تقصي الأطراف وتهمشها. على صعيد المؤسسات، لم تستطع الدولة أن تبني جهازًا وطنيًا قادرًا على ضبط النزاعات أو ضمان الشفافية. الجيش والأجهزة الأمنية غالبًا ما خضعت للأجندات السياسية للنخب، وتحولت إلى أدوات للصراع بدلاً من أن تكون أداة حماية للدولة والمواطنين. ضعف القضاء والإدارة العامة زاد من تفاقم الأزمة، إذ أدى إلى انتشار الفساد والمحسوبية وانعدام العدالة، ما جعل المواطنين يشعرون بأن المؤسسات الرسمية لا تعبر عن مصالحهم ولا تمثلهم. بهذا الشكل، أصبح مركز القرار هو الذي يفرض الإرادة، والهامش مجرد تابع أو مراقب، وهو ما يعيد إنتاج الانقسامات داخل الدولة نفسها. البعد الاقتصادي شكل عاملاً مركزيًا في الأزمة، حيث أن اقتصاد جنوب السودان يعتمد بشكل شبه كامل على النفط، الذي أصبح أداة للهيمنة وليس للتنمية. النخب المسيطرة في المركز احتكرت السيطرة على الموارد وعوائدها، بينما بقيت الولايات المنتجة للفقر والحرمان. النفط، بدلاً من أن يكون وسيلة لتحقيق رفاهية المواطن، أصبح وقودًا للانقسامات والصراعات، وساهم في تغذية الفساد وتعميق تبعية الأطراف على المركز. المواطن العادي لم يحصل على نصيبه العادل من التنمية، بينما المركز والأشخاص المرتبطون بالنفوذ استفادوا من الموارد بشكل مباشر، وهو ما غذى الشعور بالغبن وأسهم في استمرار النزاعات المسلحة على مستوى محلي ووطني. وعلى الرغم من توقيع اتفاقيات سلام عدة، بدءًا من اتفاقية أديس أبابا عام 2015 وصولًا إلى اتفاقية جوبا للسلام عام 2018، بقيت هذه الاتفاقيات هشة وغير كاملة التنفيذ. النخب السياسية تجاوزت التزاماتها، والقوات المسلحة ظلت منقسمة، ولم يتم تحقيق مشاركة حقيقية لكل المكونات. هذا جعل السلام هشًا، وأدى إلى استمرار النزاعات المسلحة وانعكس سلبًا على استقرار الدولة ومجتمعها. أثر الأزمة على المجتمع كان عميقًا، فقد أدى النزاع المستمر إلى نزوح ملايين المواطنين داخليًا وخارجيًا، وانتشار الفقر والجوع، وانهيار الخدمات الأساسية كالتعليم والصحة، وتفشي العنف القبلي. المجتمع فقد الثقة في الدولة، وظهر اعتماد المواطن على الزعماء المحليين أو الانتماء القبلي بدلاً من الانتماء الوطني، ما أعاد إنتاج نمط المركز والهامش على المستوى الاجتماعي أيضًا. الدولة نفسها أصبحت عاجزة عن فرض القانون أو تقديم الخدمات الأساسية، وأصبح استمرارها مهددًا إذا لم تُعالج جذور الأزمة. خلاصة التشخيص تكشف أن الأزمة السياسية في جنوب السودان أزمة مركبة تشمل صراع النخب على السلطة، وفشل بناء هوية وطنية جامعة، وضعف المؤسسات الوطنية، واحتكار الموارد الاقتصادية، وهشاشة السلام السياسي. هذه الأزمة ليست عابرة، بل أزمة هيكلية تتطلب إعادة بناء الدولة على أسس جديدة تشمل إصلاح المؤسسات، توزيع الموارد بعدالة، وإعادة صياغة الهوية الوطنية لتشمل جميع المكونات، مع إقامة عقد اجتماعي يحقق الشمولية والمشاركة الفاعلة لكل الأطراف. من دون ذلك، ستظل الدولة في دائرة العنف والانقسام، وستستمر الهشاشة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تهدد مستقبل جنوب السودان بأكمله.
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم