صلاح الدين أحمد عيسى أبوسارة
مختص في الموارد البشرية
SHRM-CP, MBA HRM
هذا المقال نُشِر في نسخته الأولى قبل نحو أربعة أعوام على صفحتي في “لينكدإن”، وكان موجّهًا حينها إلى مديري الموارد البشرية والشركات لمساعدتهم على استقطاب جيل زد (Generation Z) وتوظيفهم ودمجهم في بيئات العمل.
أما اليوم، وفي ظلّ ما يشهده العالم والمنطقة من اضطرابات اجتماعية وثقافية متصاعدة، فقد بات هذا الجيل في قلب المشهد العالمي لا على هامشه، نظرًا لقدرته على التعبير الرقمي والمشاركة الاجتماعية الفعّالة.
من الولايات المتحدة إلى العالم العربي، يظهر جيل زد بوصفه جيلًا يملك حسًّا أخلاقيًا جديدًا، يمزج بين الوعي الرقمي والانخراط الاجتماعي، ويدفع ثمن ذلك ضغطًا وقلقًا لم تعهده الأجيال السابقة.
فعلى سبيل المثال، شهدت الجامعات الأمريكية خلال عامي 2024 و2025 واحدةً من أوسع موجات الاحتجاج الطلابي ضد الحرب في غزة، شارك فيها طلاب من مختلف التخصصات والتيارات، متحدّين المؤسسات الجامعية والسلطات في مواقف جريئة لم تعهدها الأجيال السابقة منذ احتجاجات حرب فيتنام. لم يكن ذلك الحراك تعبيرًا عابرًا عن تعاطف إنساني، بل مثالًا على جيل يرى في العدالة والشفافية قيمًا غير قابلة للتجزئة، سواء في السياسة أو الحياة اليومية.
وفي العالم العربي، كانت المملكة المغربية نموذجًا آخر لهذا الوعي المتصاعد، حيث كان جيل زد في طليعة الحراك الاجتماعي الأخير. وهذا ليس وليد الصدفة، بل نتاج طبيعي لتنشئتهم في فضاء رقمي جعل منهم شبكة عصبية سريعة الاستجابة، ترفض الصمت وتعيد تعريف مفهوم المشاركة المجتمعية مدفوعًا برغبتهم في التغيير والتعبير عن الذات.
من هنا، رأيت أن أعيد تنقيح المقال ليكون هذه المرة موجّهًا إلى كل أب وأم، لمحاولة فك شفرة التواصل مع هذا الجيل، عسى أن يسهم في فهمه بدلًا من الاكتفاء بلومه أو التوجس منه.
جيل زد، الذي دخل ميادين العمل والاحتجاج والدراسة والحياة العامة في آنٍ واحد، ليس كتلة غامضة أو متمرّدة كما يُصوَّر أحيانًا، بل انعكاس مباشر لتحولات العصر الذي نعيشه جميعًا.
فجوة المشهد الواحد:
كتب أحد المراهقين في حسابه على “إنستغرام”:
“تناولنا الغداء في مطعم (أ) يوم السبت الماضي، المكان جميل، والديكور مدهش، والخدمة سريعة، والسلطات ممتازة، أما الأطباق الرئيسية فهي عادية.”
وأرفق ذلك بصور له مع أصدقائه وأخرى للأطباق والديكور.
ردود الأفعال جاءت مختلفة تمامًا بين الأجيال:
• الكبار رأوا في ذلك مظهرًا من مظاهر التباهي السطحي، وقال بعضهم مستنكرًا: “ما شأن الناس بطعامهم وصورهم؟”
• أما أصدقاؤه من أبناء جيله فكانت تعليقاتهم من نوع: “جميل، كنت أبحث عن مطعم كهذا”، أو “المطعم رائع لكن الأسعار ارتفعت”، أو “يناسب العائلات أكثر من الشباب.”
أي رد كان ليصدر عنك لو كنت أحد المعلقين على صورة ابنك؟
هذا المشهد البسيط يلخّص فجوة الفهم بين جيل الآباء وجيل الأبناء، أو بالأحرى بين من عاش قبل العالم الرقمي ومن وُلد في قلبه. فالآباء يرون في نشر الصور سلوكًا استعراضيًا، بينما يراه الأبناء وسيلة للتواصل وتبادل التجارب والآراء.
من هم جيل زد؟
يصنّف الباحثون البشر إلى أجيال متتابعة، يفصل بينها نحو خمسة عشر عامًا وفق الظروف الاجتماعية والاقتصادية والتقنية التي نشأوا فيها:
• جيل الطفرة السكانية أو طفرة المواليد (Baby Boomers)
• جيل “إكس” (Gen X)
• جيل الألفية (Gen Y)
• جيل زد (Gen Z): مواليد منتصف التسعينات حتى مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة
• جيل ألفا (Alpha): من وُلد بعد 2010
• جيل بيتا (Beta): من 2025 فصاعدًا
جيل زد هو أول جيل وُلد والشاشة أمامه؛ لم يكتشف التقنية كما فعل جيل الألفية، بل وجدها جاهزة تحيط به من كل جانب: في الهاتف، والمدرسة، واللعب، بل وفي بناء الهوية نفسها.
خصائص جيل زد:
- روح المشاركة والتفاعل الجماعي:
نشأوا في فضاء رقمي تفاعلي، حيث كل شيء قابل للمشاركة والتعليق والردّ. يميلون إلى العمل الجماعي والتعلّم المشترك، ويحتاجون إلى بيئات أسرية ومدرسية تسمح بالحوار لا بالإملاء. - حبّ التقييم الفوري:
يبحثون عن تغذية راجعة مستمرة لكل ما يفعلون، سواء في الدراسة أو الحياة اليومية. في عالمهم، الصمت لا يعني الحياد، بل يعني الرفض أو التجاهل. - تداخل الخاص والعام:
ما يراه الآباء إفراطًا في كشف الخصوصية، يراه الأبناء تواصلاً طبيعيًا. الحل ليس منعهم من الوجود على المنصات، بل توجيه هذا الوجود نحو وعي ومسؤولية. - التقنية جزء من كيانهم:
التكنولوجيا ليست أداةً بالنسبة لهم، بل امتداد للذات. كما تقول الدكتورة كيت يارو من جامعة “غولدن غيت”:التقنية هي اليد الثالثة أو العقل الثاني لهذا الجيل.” التعامل معها كعدو يولّد صراعًا لا فائدة منه. - التكيّف مع التغيير:
وُلدوا في عالم سريع التبدل، ولا يخشون التغيير بل يرونه طبيعيًا. يميلون إلى التغيير المستمر، فالثبات الطويل قد يشعرهم بالملل والرتابة.
التحديات التي تواجه جيل زد:
• القلق والضغط الاجتماعي: الضغط المستمر للمقارنة مع حياة الآخرين “المثالية” على السوشيال ميديا.
• تشتت الانتباه: صعوبة التركيز في عالم مليء بالإشعارات والمحفزات.
• الوحدة رغم الاتصال: إحساس بالعزلة رغم وجود مئات الأصدقاء الافتراضيين.
• الأثر الصحي: قلة النشاط البدني ومشاكل النوم المرتبطة باستخدام الشاشات.
بين الفهم واللوم:
ليس غريبًا أن يشعر بعض الآباء بأن أبناءهم يعيشون في كوكب آخر، لكن هذا “الكوكب” هو امتداد طبيعي لتطور الحياة. جيل زد لا يتمرّد عبثًا، ولا يسعى لهدم قيم الماضي، بل يحاول إعادة ترجمتها بلغة عصره، بلغة الصورة والسرعة والتفاعل اللحظي.
موضع الاحتكاك الفعلي يكون حين تتصادم هذه “الترجمة الجديدة” مع “النص الأصلي” للقيم المتوارثة. الصراع ليس دائمًا صراع هدم وبناء، بل صراع حول أولويات القيم؛ فقد يرى هذا الجيل الأولوية للحرية الفردية والتعبير اللحظي على حساب تقاليد الجماعة، وهذا ما يجب على الآباء فهمه.
إن الخصائص نفسها – خصوصًا “روح المشاركة الجماعية” وحب التقييم الفوري” – هي التي تدفعهم ليكونوا في طليعة أي حراك اجتماعي، مستعينين بالمنصات الرقمية في الحشد والتعبير السريع.
إنهم لا يحتاجون إلى وصاية بقدر ما يحتاجون إلى فهم واعتراف. وحين يشعرون بأن الكبار ينصتون إليهم حقًا، لا يردّون بالنفور، بل بالثقة والانفتاح.
جيل زد ليس صعبًا كما يُقال، بل حساسٌ وذكيٌ وسريع التعلّم، لكنه يعيش في عالمٍ أسرع من قدرتنا على استيعابه.
من المهم التحول من السؤال: “لماذا تفعل هذا؟” إلى السؤال: “ما الذي تحاول إنجازه؟”
فالتركيز على هدفهم أهم من الحكم على طريقتهم أو أداتهم.
ولكي نحافظ على دفء العلاقة بين الأجيال، علينا أن نبدّل العدسة التي ننظر بها إلى أبنائنا، لا أن نحاول تبديل أبنائنا أنفسهم. فالفهم هو أول الجسور بين الأجيال، ومن الفهم يولد الحوار، ومن الحوار تُبنى الأسرة والمجتمع.
salahabusarah@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم