حتى نعلاتنا صارت كل فردة من بلد
د.عبد الله علي ابراهيم
26 August, 2013
26 August, 2013
1-حتى نعلاتنا صارت كل فردة من بلد
عبد الله علي إبراهيم
1-من الطين، ذلك الطين
ربما تنبه اللواء (م) عمر نمر، معتمد الخرطوم، إلى عدم واقعية تحريمه البناء بالجالوص بالمدينة من الآن فصاعداً تحريماً قرر معه صرف ألف بلوك أسمنت و10 جوالات أسمنت ليبني المتضرورن من سيول هذا العام بيوتاً أسمنتية. فلم تقع فكرة المعتمد موقعاً حسناً عند الناس. وسأتجاوز الهازئة من كتاب الأسافير من قالوا أن لابد لنمر مصنع بلوكات يتربح له. فقد صارت مثل هذه العبارات السمجة هي غاية عبقريتهم من نظام غلبوا فيه حيلة.
لم يقع قرار المعتمد للناس بوجهين. فهو من جهة لوم للضحية. بمعنى أنه مواصلة من طاقم الولاية البروقراطي لتحميل المتضررين وزر كارثتهم. فكانو أخذوا عليهم البناء في مجاري السيول، وسد مجاري التصريف بإلقاء الأوساخ، وردم الشوارع بعشوائية حجزت المياه. وظننا أن لوم الضحايا قد انتهى بحديث الوالي القريب بتحمل الولاية وزر الكارثة. فيكفي قوله إنهم سفلتوا الشوارع دون المعيار العالمي بكثير طلباً للرخيص برخصتو، وأنه فات عليهم تبطينها بمجار لتصريف الماء. غير أن الشجاعة خانته دون التعهد بالتحقيق مع من ورطوا الولاية في هذه المحنة التي ستدفع فيها دم قلبها لرد الأمور إلى نصابها. فلو قامت الولاية بواجبها على الوجه الأتم لما تهدمت بيع وبيوت يذكر فيها اسم الله. ولما طرأ لنا طاريء الجالوص أصلاً.
وتساءل الناس من الجهة الأخرى إن كان المعتمد قد "شاور جاره" التي صارت مجازاً في التريث قبل إطلاق القول على عواهنه. فذكّره أحدهم بأنه نسي أن يضع حساب لوازم أخرى للبناء بالبلوكات مثل الرمل والزنك الأمريكي. وجاء الناقدون للمعتمد باعتبارات محلها أهل الاختصاص في المعمار والهندسة المدنية وغيرهم ممن أذكر أنهم اجتمعوا في معهد البناء والطرق بجامعة الخرطوم منذ السبعينات. وأشاروا مثلاً إلى أن البناء بالبلوكات يستوجب تكييفاً ليس كالبناء باللبن الذي يحتمله صاحبه بغير كندشة. ناهيك عن فرض هذا البناء المكلف على سائر ذوي الدحل المحدود (أو اللادخل) بغير تفكير في الاستطاعة. وتطرق آخرون إلى صور متاحة للدولة لتهندس لبناء مختلف للقطاعات الشعبية بقيام بنك عقاري لذوي الدخل المحدود قروضه حسنة بلا فائدة وسدادها طويل المدى. وهو غير الصندوق القومي للإسكان (2001) الذي تخبط وتوارى كما شرحت ذلك مذكرة جيدة صدرت عن الحزب الديمقراطي الليبرالي. وربما رعى هذه البنك أبحاث البناء بدراسة واقع السكان وحق المسكن وتطوير مواد البناء المحلية. وشرعت في هذا التطوير مصلحة الإسكان في آخر الستينات وجربت بناء بيوت استخدمت البلوكات على ضوء تجربة المعماري المصري حسن فتحي في مساكن بحري الشعبية وعند إشلاق بوليس سوق الخرطوم الشعبي..
لا يعني أن الناس غير ملامين في بعض ما يقع من خراب للخرطوم بعد كل هجمة ماء. فسكانها قاطبة أخذوا حق التوسع في ما يليهم من أرض الحكومة قلع يد. بل يبني بعضهم ملاحقاً لبيوتهم في أرض للحكومة مجعولة للمصارف وغيرها أكبر من بيته الأصل. وسيخجل أكثرنا دون تحميل الحكومة وحدها وزر سوء الخرطوم وهرجها المعماري لأنه شريك بصورة أو أخرى في الهيصة. وسمعنا قبل اشهر عن مسؤول مكلف بمعالجة هذا الهرج الأهلي مما يسميه الأمريكان "قيصر" (مثل قيصر المخدرات الذي يكون مسؤولاً للرئيس الأمريكي مباشرة عن تنسيق سياسات محاربة مُذهبات العقل). فخرج علينا قيصرنا لإصلاح الخرطوم فتعهد وهدد . . . وفص ملح وذاب. أرجو استعادة هذا القيصر بفهم متعقل لسياسة طويلة ترد الخرطوم للرشد المعماري: سياسة للمدى الطويل خالية من التربص، تتعطل فيها البلدوزرات وينشط الحوار والتحفيز والقسط.
لنترك للمواطنين أن ينتقلوا إلى بناء بغير الطين ما استطاعوا كما يفعلون الآن بغير تنكيد وقطعيات. وليكون دأب الولاية إعانتهم كما وجدتهم (وهو ميسور) لا أن تأمرهم بوضع يريحها هي ويؤذي غمار الناس بتكليفهم ما ليس بوسعهم.
.
2-حتى نعلاتنا صارت كل فردة من بلد
لا أعرف كلمة عبرت عن حال الحكومة خلال محنة السيول الراهنة مثل كلمة "وجوم" التي جاءت عند أحد الصحفيين. فحتى إعلامها أدار كاميراته للجهة الأخرى عن المصيبة. واستغرب محمد لطيف محقاً كيف جلل الحزن التلفزيون لوفاة نفر كريم في طائرة الدلنج في عيد الفطر الماضي ولم يسعفه الحزن والمطر قد "كشف حالنا" وعرى بيوت الفقراء والمساكين من السقوف. ثم لما غلبت الدولة حيلة أقبلت تلوم الناس لخراقتهم التي كسّرت بيوتهم. ونجم الموسم في لوم الناس كان الباشمهندس حسن همت في ولاية الخرطوم. وبلغ الوجوم منه أنه أعطى رقماً جزافياً للبيوت المهدومة صححه الوالي شخصياً. وعاب على الناس بناء بيوتهم في مجرى السيول مثل مدينة الفتح في أم درمان. فتحداه معتمد أم درمان أن يثبت عند قوله. ونبه إلى أن ينظر الناس إلى إنجاز ولاية الخرطوم مثل حدائق 6 إبريل. الزول دا بصحو!. واستقل همت عدد الضحايا: فما موت 19 مواطناً في مقياس أمريكا التي يهلك فيها المئات كلما أمطرت السماء.
وكان وجوم المعارضة الرسمية في "إنتهاز" المصيبة لتبرهن للمرة الديشيليونأن حكومتنا كارثة مثل القرية المشهورة التي أنذرت أمريكا كثيراً ولم تسمع التحذير. فلم يستغرب كمال عمر هوان الناس عند حكومة فصلت الجنوب وأشعلت حرب دارفور ومن ديك وعيك. وألتزمت المعارضة في مؤتمر صحفي بفتح دارها لإيواء المتاثرين وإقامة غرفة طواريء للمتابعة والرصد. ولم يسمع أحد عن أياً من الخطتين. ولم يرد عنها ذكر لفروعها في الأحياء وتبعاتها. ولربما أحكم ما قال كمال عمر إن الحكومة ما كانت لتغيب عن المشهد كما فعلت لو شمت رائحة مظاهرة ساكت. واستغربت لياسر عرمان يطالب الحكومة بإعلان حالة طواريْ كأن الفينا ما مكفينا. وذكر في بيان عن الكارثة أن من بين الضحايا "عائلة بأكملها تتكون من 8 أفراد من جنوب السودان". وياسر لا ينسي وربما لا يغفر. رحمهم الله
لقد سبقني من هم أقرب إلى أداء "نفير" إلى تزكيتها. وأسعدني أكثر أنها تجنبت وحل "النجومية" بقولها إنها حالة سودانية وأنها غرس شبابي له جذور غراء. وهذا وعي أريحي. فبالأمس فقط كنت أقرأ عن الهئية الشبابية بأبو قوتة التي صانت مدارس القرية وأعانت في برنامجها السنوي محدودي الدخل بمدراس المنطقة بالكتب والكراسات والشنط بعد دراسة دقيقة للحالات. وقس على ذلك. وددت لو أتجهنا بكثير من إشادتنا ب"نفير" إلى الدولة لتوفير مناخ ديمقراطي أفضل لإداء الشباب ليسفر عن أنبل ما فيه خدمة للشعب. والبداية بالطبع أن يكف الأوصياء عن نقر كل تحرك شبابي بأصبع الاتهام (كمشتري البطيخ) ليعرف إن كان أحمر شيوعيا. وهذا زمان فات.
هزني موقفان بجانب عبقرية "نفير". أولاهما عزة غمار الناس في المصيبة. فهم يطولون ويعرضون. فرفض أهل الكرياب تصويرهم وهم على بأساء مجهولة. فقد سئموا أن يكون غاية عونهم صوراً في غيبة المسؤول وحتى المحسنين. الجاتنا من السما ونحن بنحملا. ما تصوورو، ما تتاجرو بينا. ما ترمو الإعانة في الأرض عشان نلقطها. أدوها لجنة الطواريء الكوناها. من الله وما بنشحد.
أما الموقف الثاني فشائب تهدم بيته ووجده الصحفي يبني راكوبة يأوي إليها عياله. نظر الرجل خلال حديثه مع الصحفي إلى حذائه: "وقال" "يا ابني حتى نعلاتنا أصبحت كل فردة من بلد".
Ibrahim, Abdullahi A. [IbrahimA@missouri.edu]