حرب بلا مدافع: قراءة اقتصادية في الصراع الأمريكي-الصيني

من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
الزراعة ساحة الصراع الجديدة – فول الصويا نموذجًا

منبر بنيان – مقالات من بطون كتب

مقدمة:

حين انتقلت الحرب من المصانع إلى الحقول

في الحروب الاقتصادية الكبرى، تتجه الأنظار عادة إلى الصناعات الثقيلة، المعادن النادرة، والتكنولوجيا العالية.
غير أن واحدة من أكثر ساحات الصراع تأثيرًا لم تكن عسكرية ولا صناعية… بل كانت ساحة زراعية.

فول الصويا – الحبة الصغيرة التي لا تُرى أهميتها بالعين المجردة – تحولت إلى سلاح اقتصادي عالمي، تُهدَّد به أمريكا وتناور به الصين، وتُعاد من خلاله صياغة التحالفات التجارية، وتُقاس به قدرة الدول الكبرى على إدارة الأمن الغذائي.

في عام 2018، عندما دخلت الولايات المتحدة والصين في موجةٍ مفتوحة من الرسوم الجمركية المتبادلة، ردّت بكين بخطوة صدمت واشنطن: إيقاف شراء فول الصويا الأمريكي، وهو القطاع الذي يُعدّ العمود الفقري للزراعة الأميركية وصوتًا مؤثرًا في الانتخابات.

هنا أدرك العالم أن الصراع لم يعد فقط حرب مصانع… بل حرب حقول وغذاء.

أولاً: لماذا فول الصويا مهم لهذه الدرجة؟

فول الصويا ليس مجرد محصول غذائي عادي، بل هو سلعة استراتيجية عالمية للأسباب الآتية:

يُستخدم في صناعة الأعلاف للدواجن والماشية
يدخل في صناعة الزيوت النباتية والسمن الغذائي
يدخل في صناعات دوائية وغذائية وتجميلية
هو مصدر بروتين أساسي في الصين التي تملك أكبر سوق للحوم في العالم
يمثل صادرات حيوية للمزارع الأمريكية التي تعتمد على الأسواق الخارجية

طبقًا لتقرير وزارة الزراعة الأمريكية USDA لعام 2023:

30% من إنتاج أمريكا من فول الصويا كان يُباع للصين قبل الحرب التجارية.

أكثر من 300 ألف مزرعة أمريكية تعتمد على عائدات فول الصويا.

وبالتالي…
حين تُغلق الصين الباب، تختنق الزراعة الأمريكية سياسيًا واقتصاديًا.

ثانياً: قرار الصين… صفعة اقتصادية أم مناورة استراتيجية؟

عندما فرضت إدارة ترامب رسوماً جمركية على البضائع الصينية عام 2018، كان الرد الصيني بسيطًا… لكنه مؤلم:

وقف شراء فول الصويا الأمريكي.

النتيجة كانت فورية:

انهيار الأسعار في الأسواق الأمريكية

تراكم المحصول في المخازن

احتجاجات واسعة من المزارعين

ضغوط سياسية على البيت الأبيض

تقرير مجلة The Economist – عدد نوفمبر 2019 يشير إلى أن القرار كان: اكبر ضربه سياسيه موجعه لترامب داخل الولايات الزراعيه

أي أنّ الصين استخدمت الغذاء كسلاح دبلوماسي ناجع، دون إطلاق رصاصة ولا فرض حصار.

ثالثاً: كيف عوّضت الصين النقص؟

لم تعتمد الصين على الضغط وحده، بل أعادت رسم خريطتها الزراعية عبر:

  1. التحول إلى البرازيل والأرجنتين
    فأصبحت أمريكا اللاتينية المورّد الأكبر لفول الصويا إلى بكين.
  2. التوسع الزراعي داخل الصين
    ودعم زراعة محاصيل بروتينية بديلة.
  3. زيادة المخزون الاستراتيجي
    ضمن خطة الأمن الغذائي القومي.

تقرير FAO – منظمة الأغذية والزراعة 2023 يُظهر أن:

صادرات البرازيل للصين تجاوزت صادرات أمريكا بنسبة تفوق 60%

70% من استهلاك الصين من فول الصويا يأتي الآن من أمريكا الجنوبية

أي أن الصين كسرت الاعتماد، وباتت تملك خيارًا يحصّنها من الضغط الأمريكي.

رابعاً: ماذا حدث داخل الولايات المتحدة؟

تأثرت الولايات الزراعية بشدة:

هبوط الأسعار بنسبة قاربت 30%

إفلاس آلاف صغار المزارعين

اضطرار الحكومة لشراء الفوائض بمليارات الدولارات

في 2020، قدمت واشنطن أكبر برنامج دعم زراعي طارئ في تاريخها لمواجهة خسائر الحرب التجارية.

إنه مشهد لا يتكرر إلا في الحروب…
لكن هذه «حرب بلا مدافع».

خامساً: الدرس الاقتصادي الأهم – الأمن الغذائي سلاحٌ استراتيجي

أدرك العالم أن الغذاء ليس سلعة… بل أمن قومي.

وكما تستخدم الدول النفط والغاز والمعادن للضغط السياسي…
فإنها تستخدم الغذاء بالطريقة نفسها.

الصين لم تضرب المصانع ولا البنوك الأمريكية…
بل ضربت الريف الأمريكي، حيث القوة الانتخابية للرؤساء، وحيث تتحدد نتائج السياسة.

سادساً: أين تقف الدول النامية من هذا الصراع؟

هنا تكمن الفرصة:

إفريقيا تملك أراضي زراعية خصبة
الولايات المتحدة تحتاج أسواقًا جديدة
الصين تريد تنويع مصادر الغذاء

بمعنى آخر:
الزراعة أصبحت ورقة تفاوض للعالم الثالث.

ومع ذلك، ما تزال كثير من الدول النامية تكتفي بتصدير المواد الخام بدل التصنيع الزراعي، بينما المستقبل لا يكافئ المزارع… بل يكافئ المصنع.

خاتمة: فول الصويا… حبة صغيرة بحجم دولة

من يظن أن القوى الكبرى تتحارب بالصواريخ فقط فهو مخطئ.
الحروب الحديثة تُدار بالأرقام، بالغذاء، بالأسواق، وبسلاسل الإمداد.

تحولت حبة فول الصويا إلى:

ورقة ضغط سياسية

أداة تفاوض تجارية

سلاح تأثير انتخابي

ومفتاح لأمن غذائي عالمي

في عالم تتراجع فيه الدبلوماسية ويرتفع فيه صوت الاقتصاد، يبدو أن الحقول باتت ساحات معارك صامتة لا يسمع صوتها… إلا حين يسقط المزارع.

الرأي الاستشاري

من منظور استراتيجي – على الدول النامية، ومنها السودان، أن:

توسع الاستثمار في الزراعات المرتبطة بالأعلاف والزيوت

تبني صناعات تحويلية لا تكتفي بتصدير المحصول الخام

تنشئ مخزونًا غذائيًا واستثمارًا في مزارع خارج الحدود

تستغل الصراع التجاري لصالحها عبر تحالفات زراعية

فالعالم اليوم لا يحترم من يملك الأرض فقط…
بل من يحوّل الأرض إلى قيمة، والغذاء إلى قوة، والزراعة إلى نفوذ.

المراجع

  1. USDA – United States Department of Agriculture, Soybean Trade Reports 2023
  2. The Economist Magazine, November 2019 – “Soybean: The Politest Weapon in Trade War”
  3. FAO – Food and Agriculture Organization, Global Grain Outlook 2023
  4. Brookings Institute Report: “Trade Wars and the Rural American Economy”, 2021
  5. World Bank – Agricultural Market Review, 2022

عبد العظيم الريح مدثر

عن عبد العظيم الريح مدثر

عبد العظيم الريح مدثر

شاهد أيضاً

حين انطفأت الأخلاق… أُطفئت المصابيح: هل تنهض الأمم بلا ضمير؟

من بطون كتبsanhooryazeem@hotmail.comحين انطفأت الأخلاق… أُطفئت المصابيح: هل تنهض الأمم بلا ضمير؟منبر بنيان ،، مقالات …