حكومة السودان والعبث بأمن الجيران
أذاعت قناة "بي بي سي" العربية، يوم 19 يناير/كانون الثاني الجاري، أن بحثًا ميدانيًّا، بشأن النزاع في جمهورية أفريقيا الوسطى كشف أن القائمين على تجارة السلاح الدولية، غير القانونية، مسئولون عن إمداد المتمردين بالسلاح وإذكاء الصراع في تلك الدولة المضطربة. وتقول "بي بي سي" إن البحث الذي أنجزه مركز "أبحاث النزاعات المسلحة" البريطاني، والذي موّله الاتحاد الأوروبي، أظهر كيف أن بنادق مصنوعة في الصين وإيران انتهى بها المطاف في أيادي مقاتلي تحالف "السيليكا"، الذي يحارب النظام. كما أوضح البحث أن تلك الأسلحة شُحنت، في بداية الأمر، إلى السودان. ثم أعيد تجميعها، وشُحنت في طائرات من السودان، ليجري توزيعها على المتمردين في جمهورية أفريقيا الوسطى.
في سبتمبر/أيلول 2014؛ نقلت قناة "بي بي سي"، أيضًا، أن الحكومة الليبية المؤقتة طلبت من الملحق العسكري السوداني في ليبيا مغادرة البلاد، على خلفية اتهامها السودان بإرسال طائرة نقل عسكرية الى مطار معيتيقة، قرب العاصمة طرابلس، لتزويد مليشيات توصف بأنها إسلامية، بالسلاح. أما، في 26 أكتوبر/تشرين الأول 2011، فقد فاجأ الرئيس البشير الجميع، في كلمة ألقاها في احتفال جماهيري في مدينة كسلا، قرب الحدود السودانية الإريترية، في شرق السودان، بمناسبة افتتاح الطريق القاري الرابط بين السودان وإرتيريا، بقوله، إن "دعم الشعب السوداني، الإنساني أو بالسلاح، وصل إلى كل الثوار الليبيين؛ في مصراته، والجبل الغربي، والزاوية، وكل مكان في ليبيا". ولا تعليق على كشف البشير أمرًا، لا تكشف عنه الدول عادة، عندما تفعله!
في عام 2008 دخلت حركة العدل والمساواة التي تقاتل الحكومة السودانية، في إقليم دارفور، المتاخم لجمهورية تشاد، إلى مدينة أم درمان، التي تمثل الجزء الغربي من العاصمة السودانية المثلثة، عابرةً آلاف الكيلومترات، في رتلٍ ضخم، ضم أكثر من مائتي عربة مسلحة، عبر أرض مكشوفة، من دون أن يعترضها أحد. وردت الحكومة السودانية بدعم المعارضة التشادية التي تتخذ من الحدود السودانية التشادية مرتكزاً لتحركاتها، لتتوجه غربًا، من المنطقة الحدودية بين البلدين، لتدخل العاصمة التشادية، انجمينا، وتحاصر القصر الرئاسي، غير أن تلك الغزوة الثأرية، المباغتة، لانجمينا، المدعومة سودانيًا، فشلت، كما فشلت قبلها غزوة العدل والمساواة للعاصمة الخرطوم، المدعومة تشاديًّا. وصمد نظام الرئيس إدريس ديبي المسنود، فرنسيًا.
ولو رجعنا إلى الوراء قليلاً، ورصدنا مسلك حكومة الإسلاميين، في السودان، في حقبة التسعينيات، لوجدناها متسمةً بتوتراتٍ حادة، في العلاقة مع الجارتين الشرقيتين؛ إثيوبيا وإرتيريا، بلغت درجة قطع العلاقات. فالمرحلة الأولى من نظام الإنقاذ، 1989-1999، وكان يتحكم فيها الدكتور حسن الترابي، قبل إقصائه عن السلطة، اتسمت إستراتيجيتها، منذ البداية، باستهداف دول الجوار، وتغيير أنظمتها. فقد هدف إسلاميو السودان إلى "أسلمة" القرن الأفريقي، خصوصاً إثيوبيا وإرتيريا، التي يتقاسمها المسلمون والمسيحيون، مناصفة تقريبًا. فنهج التغيير الإسلامي، لدى حسن الترابي، أمميٌّ، أكثر منه قُطري. ولقد أدى تهديد السودان أمن جارتيه الشرقيتين؛ إثيوبيا، وإرتيريا، إلى احتضانهما المعارضة السودانية بشقيها؛ الشمالية المدنية وجناحها العسكري الصغير الذي لم يكن مؤثرًا، والجنوبية المسلحة، بقيادة العقيد جون قرنق، ذات الوزن العسكري الثقيل. وعمومًا، ظلت حكومة الإسلاميين في السودان، عبر ربع قرن، تدس أنفها في شؤون دول الجوار. وآخر تدخلاتها التي جرت مؤخرًا، هي التي جرت في ليبيا، وفي أفريقيا الوسطى.
التوجه الإسلامي شعارٌ فضفاضٌ، يمكن أن يحتمل طيفًا واسعًا من الممارسات، تصل، أحيانًا، إلى درجة أن تناقض بعضها، تناقضًا صريحًا. ولا اعتراض على التوجه الإسلامي، من حيث هو، وإنما على نوعية الممارسات المضرة التي يمكن أن تجري تحته. ليس كافيًا أن ترفع مجموعةٌ ما الشعار الإسلامي، لتصبح مستحقةً دعم الدول الإسلامية، أو المسلمين. ومن يريد دليلا، فلينظر إلى "طالبان"، و"القاعدة"، و"داعش"، و"بوكو حرام". بل إن المسلمين، في الأقطارٍ التي يمثلون فيها أقلية، كما في أفريقيا الوسطى، وأقطار أخرى غيرها، ربما يكون من الخير لهم، ولبلدانهم تلك، ألا يصلوا إلى الحكم بمفردهم. فمن الأفضل لهم أن يبقوا مدافعين عن حقوقهم، كأقلية، من خلال النظام القائم، بدلاً من محاولة الوصول إلى السلطة التي تخدم الأجندة الإقليمية، للقوى التي تدفعهم وتشجعهم، بأكثر مما تخدم أجندتهم الوطنية.
فشل نظام الإسلاميين في السودان، في الاحتفاظ بالجنوب الذي ظل جزءًا من السودان الكبير، منذ القرن التاسع عشر. كما فشل، عبر ربع قرن، في أن يحدث أي شيءٍ يستحق الذكر في بناء الدولة السودانية. حكامٌ هذا عطاؤهم، في بلادهم التي حكموها منفردين لربع قرن، ماذا يدفعهم لدس أنفهم في شؤون الدول الأخرى؟ ما هو شأنهم بما يجري في أي دولة أخرى، حاولوا التدخل في شؤونها، سواءً كانت إثيوبيا، أو إرتيريا، أو ليبيا، أو أفريقيا الوسطى؟ لماذا يريدون أن يجعلوا من السودان معبرًا لتجارة السلاح في أفريقيا. فهل انهارت كل الأحلام النبيلة التي ادعوها، وسقطت جميع تطلعات إقامة دولة الحق والعدل، وتحولت القلة الحاكمة التي أتت إلى الحكم رافعةً الشعار الإسلامي، بسبب الفشل الذريع لمشروعها، إلى مجرد "أداةٍ لا سياسية"، انحصر نشاطها في مجرد تمرير السلاح، مقابل المال؟
ليس من العقل، ولا من الحكمة، أن يدس نظام الحكم في السودان أنفه في مناطق لا تزال تحت قدرٍ كبيرٍ من الوصاية الفرنسية، المدعومة دوليًا. فلفرنسا مصالح قديمة في مستعمراتها القديمة، مرتبطة بالمواد الخام، خصوصاً المعادن؛ النفيس منها وغير النفيس. وليس للسودان طاقة، ولا موارد، ولا خبرة يمكن أن يصارع بها بلدًا مثل فرنسا. على الحكومة السودانية أن تتعلم من درس دارفور، وأن تسأل نفسها: لماذا بقيت دارفور جزءًا من السودان، منذ عام 1916، ولم تضطرب قط، إلا في فترة حكمهم، وتحديدًا في عام 2003، برغم أن دارفور إقليمٌجميع أهله مسلمون؟
لقد أيقن العالم، منذ مجيء الإسلاميين إلى السلطة في السودان، أنهم خطرين على استقرار الإقليم، وعلى السلم العالمي. لم يكن ذلك اتهامًا جزافيًا، وإنما بناءً على خطابهم وممارساتهم. فقد ظهرت أسماء دبلوماسيين سودانيين في تفجير نيويورك السابق لتفجيرات 11 سبتمبر. ثم كانت هناك محاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا، التي تأكد ضلوع مسؤولين سودانيين فيها. وتردد اسم السودان، أيضًا، في تفجيرات السفارات في نيروبي ودار السلام. الشاهد، بناءً على هذه الصورة التي قدمت بها الحكومة السودانية نفسها للعالم، حُوصر السودان، حتى صار قطرًا مقعدًا تمامًا.
حكومة الإسلاميين في السودان هي أسوأ من تنكّب جادة الممارسة الصحيحة، تحت دثار الشعار الإسلامي. وينبغي، على كل من يرفعون الشعار الإسلامي، في العالم، خصوصاً الذين يؤمنون بقدسية هذا الشعار، وطهارته، وطاقة وعده المستقبلية للتحضر والتمدن، أن ينفضوا أيديهم عن حكومة الإسلاميين في الخرطوم، وأن يسموا أفعالها، باسمها هي، لا باسم الإسلام.
elnourh@gmail.com
//////