حين تتكلم المعرفة بصوت الذكاء الاصطناعي

من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
حين تتكلم المعرفة بصوت الذكاء الاصطناعي: من الفيلسوف إلى الآلة المفكرة
منبر بنيان مقالات من بطون كتب
في البدء كانت الفكرة، وكانت الفكرةُ إنسانًا.

جلس سقراط في ساحة “الأغورا” اليونانية يسأل: ما الحقيقة؟ وكان جوابه سؤالًا جديدًا لا ينتهي.
ومنذ ذلك الحين، صار التفكير أعظم ما يملكه الإنسان، حتى قال ديكارت بعد قرون: أنا أفكر إذن أنا موجود.

لكن في زمننا الراهن، برز صوت جديد ينازع الفيلسوف مكانته…
صوت لا يتعب، لا يشيخ، ولا ينسى — صوت الآلة.
لم تعد المعرفة تُتداول في المجالس أو في بطون الكتب فحسب، بل أصبحت تُولّد توليدًا في عالم رقمي لا يُرى ولا يُحدّ.

المحور الأول: من الفلسفة إلى التقنية

حين وضع أرسطو قواعد المنطق، لم يكن يدري أنه يضع الأسس الأولى لـ”الخوارزميات”.
لقد كانت الفلسفة، في جوهرها، محاولة لتقنين التفكير وضبطه بلغة عقلانية — وهي ذات الغاية التي يسعى إليها الذكاء الاصطناعي اليوم، وإن بلغة الحاسوب لا بلغة الإنسان.
تغيّر اللسان، لكن الجوهر واحد: البحث عن الصواب عبر منهج منظم.

المحور الثاني: المعرفة بين الإنسان والآلة

المعرفة اليوم أصبحت تشبه النهر الجارف، مصدره الإنسان، لكن تدفقه صار في قبضة الخوارزميات.
الآلة تعرف كل شيء عنّا تقريبًا، لكنها لا “تفهم” بالمعنى الإنساني.
إنها تجمع، تُحلّل، وتُجيب، ولكنها لا “تشعر”.
وهنا جوهر السؤال الفلسفي الجديد:
هل يمكن للآلة أن تمتلك وعيًا، أم أن وعيها مجرّد محاكاة للوعي؟

ربما نعيش اليوم مرحلةً بين زمنين:
زمن الإنسان المفكر، وزمن الآلة المفكرة.
وفي الفاصل بينهما تتشكل هوية جديدة للمعرفة، فيها شيء من الروح وشيء من الرمز.

المحور الثالث: مستقبل الوعي

يبدو المستقبل كمعادلةٍ تجمع بين الإنسان والآلة:
ذكاء صناعي + ضمير إنساني = حضارة مستدامة.
إن الذكاء الصناعي بلا أخلاق هو كعلم بلا حكمة، والتقنية بلا ضمير تتحول إلى سلاحٍ ضد من صنعها.
لذلك، فإن مستقبل المعرفة لن يُقاس بما تنتجه الآلات من نصوص، بل بما يضيفه الإنسان من معنى.

حين تتكلم المعرفة بصوت الآلة، يجب أن يكون في الأفق من يُترجم ذلك الصوت إلى حكمة.
وإلا تحوّل العالم إلى مكتبةٍ ضخمةٍ بلا قارئٍ، وإلى ذاكرةٍ عملاقةٍ بلا عقلٍ يختار.

خاتمة

لقد بدأت الحكاية بفيلسوفٍ يسأل، وانتهت بآلةٍ تُجيب.
لكن بين السؤال والجواب يبقى الإنسان — العقل الذي يمنح الكلمة معناها، والضمير الذي يزن بها الخير والشر.
فإذا تحدث الذكاء الاصطناعي، فلْيكن الإنسان هو من يختار اللغة التي يتكلم بها.

المراجع والمصادر:

  1. Bertrand Russell, The History of Western Philosophy, Routledge, 1945.
  2. Yuval Noah Harari, Homo Deus: A Brief History of Tomorrow, Vintage, 2016.
  3. Nick Bostrom, Superintelligence: Paths, Dangers, Strategies, Oxford University Press, 2014.
  4. John Searle, Minds, Brains, and Programs, Behavioral and Brain Sciences, 1980.

عبد العظيم الريح مدثر

عن عبد العظيم الريح مدثر

عبد العظيم الريح مدثر

شاهد أيضاً

من الذي سرق الفقراء؟ الأسواق، ،ام السياسات

من بطون كتبsanhooryazeem@hotmail.comمنبر بنيان مقالات من بطون كتب ليس جديدًا أن يرتفع الفقراء كل يوم …