حين يسكننا الوطن

خيط النور
أطالع كثيرًا «الفيسبوك» ليس لرؤية خبرٍ أو قراءة شيءٍ مفيد، بل كثيرًا ما أدور فيه في رحلةٍ بلا هدف، فقط من باب الروتين. غير أنّي اليوم مررت على مقتطفٍ من مقالٍ للباحث عمر عابدين شدّني جدًا، وجعلني أبحث عن أصله وتكملته.
يقول فيه: «إنّ أهمّ حدثٍ كشف أزمة المغترب العربي هو استقبال المجتمع المضيف له، وتطوّر وضعيته في ذلك البلد. والمغترب الذي هاجر، فصلته هجرته عن بلده الأم، لكنها لم تعطه وطنًا بديلًا… بقي مهمشًا، لا اعتبار له هنا ولا هناك». كانت تلك الكلمات بمثابة إشارةٍ أيقظت فيَّ ما أحاول كتمانه، بعيدًا عن وجه المغترب الظاهر. وحين قرأت تتمّة المقال، شعرتُ أنه لامسني تمامًا؛ فنحن هنا في غربةٍ وإن لم نُجبر عليها، إلا أن حنين الوطن يشدّ وثاقنا بقوة. فالوطن بين كفَّين يتنازعان سلطته، جرحٌ ما زال ينزف دمًا، وآخر يقطر قيحًا؛ مفارقة الموت والأرض والعِرض!
فهل يمكن للغربة أن تكون وطنًا مؤقتًا؟ أم أنها نفيٌ نعيشه بأسماءٍ مختلفة؟
وربما كنتُ أبحث في الغربة عن ذلك الوطن المؤقت، أُقنع نفسي بأن المسافة لن تغيّر الإحساس بالانتماء، وأنّ البُعد يمكن احتماله إن ظلّ الأمل بالعودة قائمًا. لكن شيئًا فشيئًا أدركتُ أن الغربة لا تمنحنا وطنًا آخر، بل تتركنا معلّقين بين فقدين.!
لطالما تمنّيت أن أعود إلى وطني في زيارةٍ ومعي أسرتي، أحدث أطفالي عن بلدتنا وحارتنا وجيران العشرة القديمة، لكن كل تلك الأحلام باتت سرابًا. صار الوطن ركامًا وأهله مشرّدون، وزوايا بيوتنا تئنّ من صدى الوحدة. الشوارع واهية، والأنس يحمل رائحة الدماء وعرق الحزن. نظنّ، في لحظة خداعٍ عابرة، أن السفر يحرّر أرواحنا، غير أننا نكتشف أن محطات السفر سراجٌ من نورٍ كاذب؛ فعندما نطأ عتبة المجهول تراود أنفسنا عن وجعها، ونستعير وجوهًا ضاحكة، نستبشر بجديدٍ نرجو أن يكون خيرًا، لكن ليست كل محطةٍ تحمل الرفقة أو الحبّ، فالرفقة يؤجّجها وجع الرحيل، والحبّ يراوده حنين الألفة.
هنا في مصر، لا أكاد أشعر بالغربة في الشوارع؛ فهي تمتلئ بنا ونمتلئ بها. كل ركنٍ فيها يقابلك بابتسامةٍ وعادةٍ طيبة، غير أنّ تلك الحميمية نتركها على باب الشقّة، حين تحيط بنا الجدران الفارغة وتبدأ الأسئلة عن الأهل. حينها تتبدّل لهجتنا إلى سودانيةٍ خالصة، كأننا نحاول أن نسمع صوت جراحنا علَّنا نبرأ من وهن الوحدة المختارة.
غير أننا مكبّلون؛ نخشى الانفراد بأنفسنا، ونرتعب من هاتفٍ يرنّ، أو خبرٍ عابرٍ على الشاشة، أو ترقّبٍ يشوبه جنونٌ مؤقّت من الضجر. وسرعان ما تحلّ محلّ البسمة غصّة، تسأل عن غائبٍ أو جارٍ أو أخٍ أو عشيرة. نقلب الهاتف في رغبةٍ مجنونة يلفّها الخوف من خبرٍ نخشى أن نسمعه، ولا أدري لماذا تصدق تكهّناتنا الحزينة دائمًا؟
ثم نعرف، بعد أشهرٍ، أن قريبًا مات، أو فُقد، أو رحل بصمت… تلك قسوة الحرب والغربة معًا.
لكن ما إن يهدأ الصخب في دواخلنا، حتى ندرك أن الغربة ليست في المكان، بل في ارتخاء الحبل الذي يربطنا بما كنّا عليه هناك. ذلك الخيط الرفيع من الذاكرة والحنين هو ما يجعلنا نحمل الوطن أينما ذهبنا، كأنّه جرحٌ لا يندمل، ولا نريد له أن يبرأ. مع الوقت ندرك أن الوطن لم يعد بيتًا نعود إليه، ولا شارعًا نحفظ زواياه، بل حالةٌ تعيش فينا.
قد نسكن أقصى الأرض، لكننا نحمل الوطن في تفاصيل صغيرة: في رائحة القهوة حين نغليها كما كانت تفعل أمهاتنا، في الأغنيات القديمة التي تباغتنا في المواصلات، في لهجةٍ نتهدّج بها دون وعي، وفي دمعةٍ تتسلل حين نسمع اسم مدينةٍ غابت عنا.
نحاول أن نقنع أنفسنا بأننا تجاوزنا الحنين، لكن الحنين لا يُتجاوز؛ هو ظلّ طويل يتبعنا حيث نذهب، يربّت على أكتافنا كلما أوهمنا الغياب أننا تحرّرنا منه. فالوطن يسكننا حتى وإن أنكرنا، لأنه أول جرحٍ تعلّمنا به معنى الفقد، وأول حبٍّ لم نُكمل حكايتنا معه.
ثم نكتشف أن كل ما نحمله من الوطن ليس سوى ظلالٍ لأيامٍ مضت.
نغلق أعيننا فنعود إلى تلك الزاوية التي لم تبرحنا يومًا، حيث كنا كما يجب أن نكون؛ مطمئنين، محاطين بالألفة التي لم نعد نجدها في المنفى.
أتذكّر بيتنا الكبير وهدوءه، رائحة شاي الصباح وضحكات أمي، صوت بائع الخضار، وشجرة النيم في حوشنا العامر بالجيران.
أحفظ ملامح بيتي وضوضاء الشارع وصوت الحياة بصخبها، وضحكاتنا والأغاني التي كانت تصدح ونحن نغني مع البلابل «قطار الشوق» في الصباحات الباكرة مع زوجي.
لكن رماد تلك الذكرى اندثر، وأنا أقف على شرفتي والبرد يحيط بعتمتنا. تتكسر أنفاسنا بحثًا عن دفءٍ يتيم، وملامح الحياة السريعة تمرّ أمام أعيننا كما الشفق، لأعود إلى ناصيتي، ولا شيء معي إلا الذكريات.
ربما لا نملك العودة، ولا نستطيع نسيان ما كان، لكننا نحمل الوطن كما نحمل أرواحنا؛ ثقيلًا وجميلًا في آنٍ واحد. نصحو كل صباحٍ على وهم التأقلم، ونغفو على وجع الفقد الذي لا يهدأ، فالغربة امتحانٌ طويل في الصبر على ما لا يُحتمل. نكتب ونتحدث ونحاول أن نبدو أقوياء، لكن بين الحرف والأنين فراغٌ لا يملؤه إلا الوطن.
فهل نعيش فعلًا ونحن بعيدون، أم أننا نؤجّل الحياة إلى حين عودةٍ لا نعرف إن كانت ستأتي؟

د. إيمان المازري

sukraelmazri@yahoo.com

عن إيمان المازري

إيمان المازري

شاهد أيضاً

قلب بين إصبعين

خيط النورقلب بين إصبعينهل يمكن لإشارة صغيرة أن تحمل كل الحب؟وهل يمكن لمشهد خاطف أن …