خطاب الأصم … رسائل حكيمة ونبراس لثورات الأُمم
يا له من مشهد! حدثني صديقي بمدرسة المؤتمر الأستاذ محمد الواثق قائلا: من كان يصدق عينيه أن يمتطي هذا الطبيب الأريب، الذي يرفل بتؤدة وحكمة ترهات الحياة وهو في زهرة شبابه، صهوة ذا المنبر الشامخ في يوم تاريخي كهذا: يوم توقيع الوثيقة التاريخية للإعلان الدستوري.
يوم تاريخي للثورة وأحد أبطالها:
هذا الرجل، وفيٌّ في خُلُقِه، جميلٌ في طباعه، بهيٌّ في طلعته، وما أجمل أنّه استهل كلمته طالبا السّماح قائلا: أتقدم بالتحيّة الخاصة لضحايا حروب نظام الإنقاذ ضد شعبنا من الشهداء والجرحى والنازحين واللاجئين وضحايا الاعتقال والتعذيب الممنهج ... (نهاية النقل). لم أستعجب أن هذا الرجل، كما أشادت أستاذة آسيا مدني قائلة: لم يرف له جفن في قول الحق وحق الشهداء ولم يجامل المجلس العسكري بل قالها صريحة. سوف نقتص للشهداء من ارتكب ذنب في حقهم (نهاية المقولة). وأكد الأصم على أن كل الجرائم التي ارتكبت ضد شعبنا تجعل من المساءلة والمحاسبة القضائية بغرض جلب العدالة الى الضحايا وأسرهم من اهم واجبات الحكومة وواجبات المؤسسات القضائية والعدلية والشرطية. ويجب أن تكلف الحكومة رسميا بإنجاز هذه الأجندة في الفترة الانتقالية المقبلة. يشير الأصم إلى أن قوى الحرية والتغيير تتمسك بإجراء تحقيق وطني وشفاف عادل وموضوعي في مجزرة القيادة العامة وتؤكد أنها ستعمل بوتيرة حثيثة حتى لا يفلت أي شخص من أولئك الذين ارتكبوا جرائم ضد الشعب السوداني منذ الثلاثين من يونيو 1989 من العقاب. وأشار إلى أن النظام المخلوع ورئيسه قد استحقا أن يدون التاريخ اسمها في سجلات الظلام الدامس ذلك أن مذكرة الاعتقال والاتهام الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق البشير ومن عمل معه تقف خير شاهد على الانتهاكات الفظيعة التي شهدها عهدهما.
الأصم وبلاغة الخطاب السياسيّ:
عجيب هذا الأصم الذي جعلني من دهشتي وسروري أصم في مجلسي ذاك، فجلست مقتعدا بساط ديواني استمع إليه منسطا ومبهورا ببلاغته وحسن قوله إذ أنه قال حقائق محزنة تدمع العين عند سماعها، وأنه شق علينا جميعنا يا سادتي في يوم عرسنا الأغر هذا، أننا افتقدنا أخوتنا وأخواتنا، أمهاتنا وآباءنا من الثوار الذين قضوا نحبهم وكانوا شعلة الثورة وأعمدة ميدان الاعتصام المجيد أمام القيادة، لم ينسهم الأصم، وأنهم عملوا طول هذه الأشهر المضنية بجهد وجد وايمان راسخ تحت حرارة الشمس ومرارة التصدي لكتائب ظل مندسة، وكان أملهم زهرة تحملها قلوبهم يمكن تلخيصها في ثلاث كلمات بسيطة: حرية، سلام وعدالة. لم يطلبوا أكثر من ذلك ناكرين للذات في حب وطن معاف. كرسوا كل جهودهم كبارا وصغارا للقضاء على نظام البشير الجائر والفاسد.
أكد الأصم بعزيمة وصمود أن العمل على العثور على من فقدته ثورتنا، من أولئك الذين خرجوا دون أن يرجعوا، هو التزام صارم وواجب متقدم على رأس أولويات قحت والسلطة الانتقالية. وما أجمل قوله حينما ختم هذه الإطلالة بكلمة: نفتح عبره صفحة جديدة ونطوي أخرى كلفتنا ثلاثة عقود من الحرب والقمع والفساد والفشل الاخلاقي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي.
ثورة ديسمبر المجيدة هي الأعظم في تاريخ البشريّة:
تحدث الأصم عن ثورة ديسمبر المجيدة التي جاءت تتويجا لعمل وكفاح وطني ونضال شاق استمر ثلاثة عقود وذلك سمة ينبغي أن يحتفي ويفتخر بها شعبنا الأبي. أهلنا يا سادتي وديعين وداعة الحمل اليافع وكرماء كرم النيل الزاخر والبحر الوافر، لكنهم وإذ بلغ بهم السيل الزبى تجدهم كالطوفان يقضي على أخضر الظلم ويابسه. لا ولن تستطيع أن تقف أمامه قوّة أيّاً كانت. وها هو العالم ذا يرى ملئ عينيه ما صنعه هؤلاء الشباب في بضع أشهر عجاف وأن هذا الشعب قادر على تحمل كل الصعاب بعزيمة ونكران ذات، حامل بين يديه سلاح "الاعتصام" و"السلميّة" حتى تخرج الثورة إلى برّ الأمان. كل العالم رأي في يومنا هذا أن ثورة السودان هي نبراس يُتقدى به بين الأمم، وها هي ذا قد سطرت كفاحها ونجاحها بمداد من نور على صفحات تاريخ الإنسانية جمعا وما اليوم إلا تتويج لذلك الكفاح السلميّ الأغر.
ثورتنا غيّرت مفهوم الثورات وعلمت العالم معنى السلميّة:
لقد شدد الأصم على نجاح ثورة ديسمبر بسلمتيها. لذلك فأنا أدعي أن الثورة السودانية غيّرت مفهوم الثورات في العالم إذ أنه ارتبط إلى ما قبل ديسمبر الماضي في ثورات تاريخ البشريّة الغابرة ارتباطا وثيقا بمصطلح "العنف الثوريّ". فحتى يومنا هذا لم تنجح ثورة أيّا كانت في قلب موازين حكم جائر أو تنقض على نظام دكتاتوريّ اللهم إلا بالعنف. لذا فالرابطة بين الكلمتين في المصطلح المذكور أعلاه راسخ ومنقوش على هذه الشاكلة في ذاكرة البشريّة جمعا. مما يعني أنه ليس من الممكن فكّ رباط الكلمتين أو بمعنى آخر أن وجود كلمة ثورة يحتمه تدخل كلمة "عنف"، لذا لا تأتي كلمة "ثورة" وإلا وقد تقدمتها كلمة "عنف". وساد هذا المفهوم حتى إشراقة ثورة ديسمبر المجيدة والتي قلبت كل الموازين. إذ أنها جعلت كلمة "سلميّة" تتقدم كلمة "ثورة" مما لم يعهده القاموس العالمي من قبل. أو بعبارة أخرى، أنها أدخلت مفهوم جديد في فلسفة الثورات مهرمنة ومناغمة بذلك التضاد بين كلمتيّ "سلميّة" و"ثورة" اللتان لم تلتقيا في سياق واحد في تاريخ البشريّة على الإطلاق وحدث ولا حرج.
دور المرأة:
أكد الأصم أن على صدر سودان الخير قد قبع خراب مريع طالت يداه كل مناحي الحياة من عيش كريم لأبنائه كما أنه عمد إلى ضرب النسيج الاجتماعي بالتفرقة الإثنية وغيرها بين أبناء الوطن الواحد على أساس عرقي، قبلي، إقليميّ، ديني أو عنصريّ، ذلك ما لم يشهده هذا البلد الأبيّ على مرّ العصور، حيث تعايشت فيه الشعوب والفرق في أمن وسلام على مدى فترات التاريخ. وهذه الهوّة التي حفرها النظام السابق تحتاج من الحكومة الانتقالية لعمل دؤوب وجهد كبير حتى تستطيع بحرفية رتق النسيج المجروح حتى يتمكن الكل من العيش تحت مظلة واحدة ينعمون تحتها بالسلام والطمأنينة والحريّة. ولن ينسى السودانيّ، كما ذكر الأصم، الإهانة الجائرة التي شهدتها حواء في عهد الإنقاذ الغاشم. فقد قُهرت عزيمتها من خلال القوانين القمعيّة وخصصت محاكم ونيابات وشرطة أولي لها مهام إهانة كرامتها وعزتها. يقول الأصم لابد من أن نفتح صفحة جديدة بشأن المرأة ونضع خلف ظهورنا كل أشكال التمييز القائم على الجنس حتى تتمكن الدولة من كفل حقوقها دستوريا وقانونيا وممارسة ذلك على صعيد الحقيقة. وأجمل ما ذكره في نظري وضع نسبة ٤٠ في المئة للمرأة كحد أدنى من مقاعد المجلس التشريعيّ.
رسالة إلى آل المؤتمر الوطنيّ:
يقولها لهم: قولوها ... الآن قد حصحص الحق وزهق الباطل وإن الباطل كان زهوقا. ذكرهم، فذكر إنما أنت مذكر، بأنهم وعلى مدى ثلاثين عاما قد اغتصبوا السلطة وكانت وسائلهم في توطيد سلطانهم تتلخص في القتل والاعتقال والتعذيب والتشريد وإلحاق الأذى بالأمّة دون ذنب جنته. وأن الأغلبية ممن ناصرهم قد وضعت رأسها في الرمل وصمتت عن هذه المظالم، فكانوا يخشون في الله لومة لائم، اسمه البشير. لخص لهم عهد البشير وسنوات الإنقاذ الذي كان هلاك بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان: ويلات، حروب داخلية، نزاعات، جوع، تشرد، امتهان الكرامات، سلب الحريات، انتشار الفساد، أكل الثروات وبيعها وهدرها ورغم كل ذلك – قالها الأصم – لن يكون الانتقام هو منهجنا بل المحاسبة والعقاب العادل أمام دولة القانون، فمن لم يرتكب جرما مشهودا أو لم يقم بعمل منظور ضرره، فندعوه لحملة بناء الوطن من جديد، فربما غفر الشعب، وغدى الأذى في صحائف النسيان فدعاهم قائلا: أنتم في النهاية من هذي البلاد وحقكم في المواطنة غير مسلوب ، ولكم أن تختاروا كيف تكفِّرون عن ما أسرفتم فيه، فحتى الصمت حين الظلم اشتراك وإسراف فيه.
رسائل هامة للعالم العربي وللبشرية أجمع:
لقد أعجبتني رسالتيه اللتان وجههما إلى جميع شعوب العالم وإلى العالم العربي خاصة. حقيقة ينبغي علينا أن نعتذر كسودانيين عن غياب دام ثلاثين سنة، غاب فيه السودان عن الساحة الدوليّة وعن أي مساهمات في المنظومة العالمية على طريق الانسانيّة. ونحن في هذه السانحة في أمسّ الحاجة أن تتعامل شعوب العالم معنا باحترام وتجلّة، فهذا الشعب قد قدم أجلّ التضحيات في سبيل الحريّة والكرامة. لقد حان للعالم أن يتعرف على هذا الشعب الأبيّ من جديد فالسودان وشعبه أهل لذلك.
استرسل الأصم في رسالته مناجيا ومخاطبا الشعوب العربية، يذكرها أولا بأن هذا البلد مهد الحضارات ومنبع الثقافات وأننا علّمنا الشعوب العربيّة معنى النضال والكفاح من أجل الحريّة ذلك منذ ستينيات الألفية المنصرمة ورغم المكائد ومناورات السياسة في غضون أشهر الثورة العجاف ها نحن نجتاز ما جاءنا من فتن ودسائس كانت ذات أغراض بغيضة، وذكر إن شعبنا لا ولن ينسى من وقف معه وسانده ولكنه كذلك سيذكر دون أدنى شك كل من وضع له العراقيل وفي النهاية متسامحا كعهده، فمن عفى وأصلح فأجره على الله.
أخيرا ختم الأصم خطابه التاريخي والعصامي بالآتي:
نؤكد أن هذا الاتفاق جاء تعبيرا عن إرادة وطنية صميمة مستندا إلى إرادة جماهيرية واسعة تمثل الضمانة الحقيقة لتنفيذ هذا الاتفاق ونتطلع إلى أن يكون هذا الاحتفال تدشينا لعهد جديد وأهداف جديدة نحن واثقون من تحقيقها. (انتهى)
حقيقة هذا خطاب تاريخي ومفخرة لكل سوداني زهقت كرامته في العقود الثلاثة الماضية. كفيت ووفيت يا د. الأصم وجعلك الله نبراسا لشباب الأمم كافة.
نشر بصحيفة أخبار اليوم في يوم الأحد الموافق ١٨/٨/٢٠١٩
Mohamed@Badawi.de