ذكرى اكتوبر 1964 و نواح المثقف الملحمي … بقلم: طاهر عمر

 


 

 


حالة المجتمع السوداني اليوم تنطبق عليه مقولة أن الافكار القديمة قد ماتت والأفكار الجديدة لم تولد بعد. و كذلك هي حالة تسود العالم بأجمعه و هي أن العالم يتخلق ليولد من جديد. و هناك من الاقتصاديين أكثر تشاؤم يقولون أن العالم يسير باتجاه أن يكون كمن يرقص على حافة الهاوية وستكون هناك كثير من المجتمعات غير قادرة على التأقلم على ما يسود العالم من قيم جديدة وستكون هناك مجتمعات لا تستطيع ترتيب بيتها من الداخل و ستكون على مثل هذه الحالة الى ما لا نهاية أي ستكون مجتمعات خارج التاريخ لا يمكن أن تكون معادلة الحرية والعدالة ما ينظم فيها صراع الفرد مع المجتمع من أجل أن تكون العدالة فضيلة اجتماعية و ليست فضيلة فردية.
ونلاحظ هذه الحالة قد أصبحت أكثر حدة في المجتمعات التقليدية كحالة المجتمع السوداني أي حالة عدم القدرة على ترتيب البيت من الداخل وقد ظهرت بوادرها في المجتمعات الحديثة في انتخاب الشعبوي مقابل النخبوي و خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو كما فاز ماكرون متخطيا أحزاب سياسية كانت مسيطرة على المشهد السياسي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية و رغم ذا مازال الطريق طويل أمام فرنسا من أجل أن تخرج من الهيمنة الاقتصادية لألمانيا على اقتصاد الاتحاد الأوروبي.
و هناك من الاقتصاديين من يقول أن لا مخرج لفرنسا من هيمنة المانيا على الاقتصاد الاوروبي إلا بخروج فرنسا من الاتحاد الاوروبي كما خرجت بريطانيا وحينها تكون فكرة الحماية الاقتصادية ممكنة وهي الآن أي فكرة الحماية الاقتصادية تعتبر ممر إلزامي من أجل انقاذ الاقتصاد الفرنسي من التبعية للاقتصاد الالماني. أو أن تغير ألمانيا من ثقافة الأسرة الجذعية و عدم ايمانها بقضية المساوة فيما يتلعق بالميراث داخل الأسرة و هنا ينام سر سياسات التقشف الاقتصادي التي تفرضها ألمانيا على أعضاء الاتحاد الاوروبي و بسببها قد حطمت ألمانيا دول الجنوب الأوروبي.
نعم ألمانيا وثقافة الأسرة الجذعية و ظلالها على السياسة كما يؤكد ايمانويل تود كانثروبلوق في فكرة البناء الأسري و ظلاله على السياسة لها أثرها على السياسة و هي سر فرض ألمانيا لسياسات التقشف على اقتصاد الاتحاد الاوروبي انها روح سلطة الأب و ميراث التسلط. ايمانويل تود و عبر فكرة البناء الاسري يصل الى السر الكامن في قيام الشيوعية في الاتحاد السوفيتي و الصين و هو أن البناء الاسري في روسيا والصين هو تجسيد لفكرة الاسرة الجذعية و هذا هو السر في قيام نظم شمولية تمثلها الشيوعية البغيضة في الاتحاد السوفيتي و الصين قبل أن تتخذ الصين من السياسات الرأسمالية دينمو جديد يجر ماكنة الشيوعية العاطبة في الصين و ما تزال الصين تنتظر الاصلاح السياسي الذي يواكب مسيرتها الاقتصادية فالصين ينتظرها الكثير من أجل أن تلحق بركب الانسانية.
عند ايمانويل تود أن البناء الأسري المنعكس في الاسرة النووية في كل من فرنسا و انجلترى جعلهما أن تكونا في مناء من قيام نظم شمولية كما ظهرت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي و الصين و النازية في ألمانيا فالشيوعية و النازية كنظم شمولية بغيضة لا يمكن أن تظهر إلا في مجتمعات يسود فيها بناء الاسرة الجذعية كما في ألمانيا و الاتحاد السوفيتي و الصين. ايمانويل تود فيلسوف و مؤرخ و انثروبولوق قد تنباء بسقوط الاتحاد السوفيتي في عام 1976 في كتابه السقوط النهائي و من حينها قد أصبح يلقب بالفيلسوف النبي.
هذا الفيلسوف النبي نجد له صلة قرابة مع عالم اجتماعي فلسطيني جدير بالاحترام و هو هشام شرابي و هشام شرابي في حديثه عن سلطة الأب وميراث التسلط نجد أن أفكاره تتطابق مع ايمانويل تود في فكرة الأسرة الجذعية و جذور الاستبداد الاجتماعي والاستبداد السياسي الذي يؤخر الانعتاق الثقافي الذي يقود بدوره الانعتاق السياسي.
في مطلع التسعينات من القرن المنصرم قدم هشام شرابي في كتابه النقد الحضاري للمجتمع العربي فكرا يعالج به علل العقل العربي الهارب الى الماضي أو في ايمان نخبه بالايدولوجيات المتحجرة و انتقد لجؤ النخب الى الغيب هروبا من آلام الراهن وعلل أن أسباب الاستبداد السياسي و الاجتماعي ناتجة من ثقافة سلطة الأب و ميراث التسلط. ففي هذا الكتاب يخصص بابا كاملا عن معنى الحداثة و يولي أهمية الى لغة النقد الحضاري. فهشام شرابي انتقد أفكاره و استعاد مساره وقد أصبح متقدم على صديقه ادوارد سعيد الذي لم يلحق به إلا في كتابه الاخير ذو النزعة الانسانية.
و نجد أن عالم الاجتماع التونسي الطاهر لبيب يهتم بفكر هشام شرابي و يقف على ضفافه كثيرا. و الطاهر لبيب أمثاله قليلين من علماء الاجتماع في العالم العربي. فالطاهر لبيب و هشام شرابي لا ينطبق عليهم قول أحد علماء الاحتماع حينما نعى حالة علم الاجتماع في العالم العربي و قال اذا ما اختفى كل علماء الاجتماع من العالم العربي أن ذلك لا يؤثر في العالم العربي لا سلبا ولا ايجاب ولكن أظن أن ذلك القول لا ينطبق على هشام شرابي كعالم اجتماع جدير بالاحترام و لا على الطاهر لبيب الذي يقول بدوره أن لا مستقبل ذهبي ينتظر علم الاجتماع فى العالم العربي لان المجتمع غير مهئ لذلك. و الطاهر لبيب نفسه في نعيه لهشام شرابي قد ركز على مفصل مهم يقوم عليه هشام شرابي و هو أن هشام شرابي كان له هاجس انتاج المعنى.
انتاج المعنى الذي يتحدث عنه الطاهر لبيب لا نجده في كتابات المثقف الملحمي السوداني في احتفاله بذكرى ثورة اكتوبر و قد تخطت النصف قرن و مازالت كتابات النخب السودانية لم تعكس إلا أفكار المثقف الملحمي كما حدده الطاهر لبيب و لم يصدر منها إلا النواح كما تحدث عنه داريوش شايغان. نعم كتابات الاحتفال بذكرى ثورة اكتوبر 1964 تفتقر الى هاجس انتاج المعنى ومازالت كتابات تنشغل بخلق العبارة وليست مشغولة بريادة الفكرة كما يقول عالم الاجتماع العراقي على الوردي و هنا يلتقي علي الوردي في فكرة ريادة الفكرة مع انتاج المعنى للطاهر لبيب.
احتفاء النخب السودانية بثورة اكتوبر السودانية نمطي يظهر عقل المثقف الفقيه الذي يقوم باعادة انتاج الماضي و تأبيد وصاية الأموات على الأحياء كما يقول محمد أركون. فمناصرة الماضي دليل نقص في معرفة الحاضر كما يؤكد الطاهر لبيب. وهذه الكتابات النمطية عن ثورة اكتوبر يقودها المثقف الملحمي السوداني الذي قد ظهر في حقبة الستينات و السبعينات من القرن المنصرم وفكرة البطولة الجماعية تتقدمها طوباوية قد قادت المثقف الملحمي السوداني الى الهاوية التي يقبع المجتمع السوداني اليوم في قاعها. لذلك نجد في فكرة الاحتفال باكتوبر بشكله الحالي تمثل و كما يقول الطاهر لبيب في وصف المثقف الملحمي استمرار نخب اكتوبر في السودان في المحافظة على نبرة ملحمية أي هم اليوم ملحميون دون ملحمة و أن ترديدهم لنبراتهم و شعاراتهم على مسامع الناس قد شوش على البدائل. فقد شوش مثقف الستينات والسبعينات من القرن المنصرم في السودان على المثقف الجديد الذي سيصوغ دلالات الفعل الاجتماعي ويشدها من جديد الى واقع المجتمع المتغير.
واقع المجتمع المتغير على صلة وثيقة بفلسفة التاريخ والى أي الأفكار أقرب؟ قطعا لم يك الأقرب الى الايدولوجيات المتحجرة كما يتوهم الشيوعيون السودانيون و لا في اللجؤ الى الغيب في خطاب الاتجاه الاسلامي في السودان و لكنها الأقرب الى فكرة الاقتصاد و المجتمع في فكر ماكس فيبر و المعنى التراجيدي في فكر ريموند آرون و نهاية التاريخ لفوكوياما.
و هنا يحضر اكتشاف الطاهر لبيب لغرامشي أو قل اعادة اكتشاف غرامشي من جديد في فكر الطاهر لبيب. عند الطاهر لبيب من نكد الدنيا على غرامشي أن يكون المثقف العضوي في السودان هو المثقف التقليدي و قد أصبح المثقف التقليدي أكثر عضوية من الحداثيين في ظل سيطرة الخطاب الاسلامي في السودان و هذا يرجع الى الفهم الخاطي لمفهوم المثقف العضوي في فكر غرامشي.
و كما يقول الطاهر لبيب نجد أن الشيوعيين هم الأكثر من بين الأخرين في ادخال الخلط على فكرة المثقف العضوي في فكر غرامشي حينما ذهبوا باتجاه الايدولوجية المتحجرة للشيوعية و كان من ضحايا الفهم الخاطئ لفكرة المثقف العضوي في فكر غرامشي كل من مهدي عامل و حسين مروة. فأخذ الشيوعيون العرب فكرة المثقف العضوي الخاطئة وذهابهم بها الى الأحزاب الشيوعية قد كشف ضعفهم في المجال الثقافي بعد سقوط المنظومة الاشتراكية.
و قد كشف سقوط المنظومة الاشتراكية أن المثقف في العالم العربي مازال يتقمص صورة الأديب و راجل الدين و الكاتب و هي صورة قديمة مازالت مؤثرة في عدم مجابهة المثقف للماضي السحيق و لا يستطيع الخروج من سلطة الماضي في هروبه اليه و لجؤه الى الغيب. و لهذا السبب قد تأثرت فكرة القطيعة مع الماضي و مازال الدفاع في العالم العربي عن الوسطية و الصحوة الاسلامية و المؤالفة بين الأصالة و الحداثة وكل هذه التوازنات كما فكرة الاصلاح الذي يفرغ مفهوم الثورة في فكر الطاهر لبيب.
الطاهر لبيب لم يستطيع اعادة اكتشاف غرامشي لولا ارتكازه على سوسيولوجيا الثقافة لذلك نجد أن الاحزاب الشيوعية في الغرب كانت على صلة بفكر غرامشي لانه قد كان على قطيعة مع أفكار ستالين و هذه القطيعة مع فكرة البنية التحتية و اعتماده على البنية الفوقية هي نتاج تأثره بفكر ماكس فيبر لذلك نجد أن الأحزاب الشيوعية في الغرب تقدم فكرة الاشتراكية الديمقراطية لأن فكرة انتهاء الصراع الطبقي لا يمكن أن تعمل في المجتمعات الغربية. لذلك يرى الطاهر لبيب أن فكر غرامشي قد مسخ من قبل الشيوعيين في العالم العربي و قد اصبحوا أول الضحايا لهذا المسخ أي الشيوعيين أنفسهم.
وحتى يتم اكتمال الصورة ينبغي ذكر الأنواع الاخرى للمثفين اليوم كما حددهم الطاهر لبيب في فكره فبعد المثقف الملحمي يأتي المثقف المقاول و المثقف البدائلي و المثقف التراجيدي. و يمكنك أن تضيف اليهم وهم الاسلاميين في خطابهم التجريفي و فكرة اسلامية المعرفة في تضليل يقوم به الاسلاميين السودانين في ظل نواح المثقف الملحمي الذي يشوش على البدائل التي سيصوغ المثقف الجديد دلالات الفعل الاجتماعي و يشدها من جديد الى واقع المجتمع المتغير.
و قطعا ليست أفكار الاسلاميين في لجؤهم للغيب و لا أفكار الشيوعيين في ايمانهم بالايدولوجيات المتحجرة من يستطيع ترتيب البيت من الداخل لكي يلحق المجتمع السوداني بركب الانسانية.ففي ظل الدوامة التي تعيشها الساحة الفكرية اليوم في السودان قد أصبح حال السودان بعد اتفاق نيفاشا كحال فرنسا بعد قيام الثورة الفرنسية فبعد ثلاثة سنوات كانت انتكاسة مجئ نابليون وحروبه الجانب الايجابي في حروب نابليون قد عممت شعارات الثورة الفرنسية في جميع انحاء اوروبا و من سلبياتها كانت انتكاسة للثورة الفرنسية و بعدها أحتاج المجتمع الفرنسي لعقود من أجل أن تطل فكرة الجمهورية و قيمها لترسيخ الايمان بميثاق حقوق الانسان. كذلك اليوم حال الساحة السودانية فان الحرب في دارفور و حركات دارفور قد أصبحت تلعب دور نابليون و حروبه الجانب الايجابي في حروب حركات دارفور قد عممت مفهوم فكرة السودان الجديد التي قد نادى بها جون قرنق و الجانب السلبي قد وصلت لطريق مسدود كما هو الحال في جميع الاحزاب الطائفية منها والاسلاميين وخطابهم المنغلق والشيوعيين في ايمانهم بالايدولوجيات المتحجرة.
اليوم قد أصبح الأمل معقود على الشعب السوداني في مسيرته الهادفة و واعية من أجل أن تكون قيم الجمهورية و ميثاق حقوق الانسان هي الأهداف التي لا يشوش عليها المثقف الملحمي مثقف الستينات والسبعينات من القرن المنصرم بنواحهم في احتفالاتهم النمطية بثورة اكتوبر. على الشعب السوداني أن ينتبه الى الى فكر الجهويين و فكر عقول القبائل العاجزة عن تنفس هواء الأعالي في بثهم للافكار التي تفرق على أساس العرق و الدين و الجهة و يستعد لمسيرته التي تقود الى قيم الجمهورية و ميثاق حقوق الانسان و قد يطول الطريق و الانتظار لميلاد المثقف الجديد الذي سيصوغ دلالات الفعل الاجتماعي و يشدها من جديد الى واقع المجتمع المتغير.

taheromer86@yahoo.com

 

آراء