رمزية غزة: سقوط الاستبداد أم اندثار العرب؟
د. عبد الوهاب الأفندي
17 July, 2014
17 July, 2014
ليس الأمر الملفت أكثر في محنة غزة وأهلها هذه الأيام هو الشلل العربي الكامل أمام العدوان البربري عليها، ولا حتى رضى أنظمة عربية -إن لم يكن تواطؤها- حياله. وليس ما يدعو للعجب كذلك دعاوى كتائب القسام بأنها قادرة على مواجهة إسرائيل عسكرياً، وهي دعوى تعطي إسرائيل المبرر للزعم بأنها تحارب جيشاً موازياً، في حين أن أطفال الحجارة في القدس أقدر على الإضرار بإسرائيل صورايخ حماس. ولعل من المناسب أن تتبع حركة حماس الغزية سنة رصيفتها في الجزائر، فتعيد تسمية نفسها: "حركة مجتمع السلم".
كل هذه أمور تستدعي التأمل، ولكن ما يستوقف المرء قبل وبعد ذلك، هو التوجه العربي العام، عند الأنظمة والشعوب معاً، إلى تكليف أضعف المستضعفين الدفاع عن شرف الأمة ومقدساتها، في حين ينصرف البقية إلى اللهو والتجارة وغيرها من متع الحياة الدنيا. ففي تعاليم الإسلام، هناك ما يسمى فرض الكفاية، أي الواجب الجماعي الواقع على عاتق كل أفراد الأمة، فيأثم الجميع إذا لم يتم الوفاء به، وذلك بخلاف فرض العين، وهو الواجب على كل فرد تحت أي ظرف. ولكن الصياغة التي يعرف بها هذا الواجب، (وهي أنه "الفرض الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين")، تشجع التواكل، وانتظار أن يتصدى غيرك للمهمة. والصحيح أن يقال إن الفرض الكفائي هو أيضاً فرض عين، بمعنى أن من واجب كل فرد أن يتأكد من أدائه، إما بالتصدي له شخصياً، أو التأكد من وجود مؤسسات تؤديه، أو ندب أو تكليف من يقوم بذلك. وأهم من ذلك، لا بد من أن تتأكد الدولة ومؤسسات القيادة الرسمية، من أن هذه الواجبات تجد دائماً من يقوم بها.
وفي كل الأمم، يقع التصدي للواجبات الجماعية أولاً وأخيراً على مؤسسات المجتمع الرسمية، ثم ثانياً على القادرين. فإذا كان من الواجب ضمان علاج المرضى والعناية باليتامى والمعوزين وتعليم النشء، فلا بد من أن تكون قيادة البلاد هي المتصدية لهذه المهام. ويأتي بعد ذلك الأغنياء والموسرين والقادرين جسمانياً. ومن غير المعقول في هذا الصدد أن يقال إن على المريض أن يعالج نفسه، وعلى الطفل اليتيم أن يوجد لنفسه منزلاً يؤويه، إلخ. وحتى غلاة المحافظين في أمريكا وبريطانيا لا يقولون بهذا القول، وإنما يرون أن منظمات المجتمع المدني، وليس الدولة، هي التي يجب أن تتصدى لهذه المهام.
وحسب الفهم الإسلامي الذي أسلفنا، فإن هذه المهام تقع على عاتق كل فرد ابتداءً، ولا صحة لما يقوله الفقهاء من أنها تسقط عنه إذا أداها الغير، لأنه لو أداها الغير بغير علمه ومساهمته فإنه يكون مع ذلك مقصراً. بل لا يكفي مثلاً أن يخرج الشخص زكاة ماله أو يتبرع لمؤسسات خيرية، بل لا بد من التأكد من أن الواجب الذي لأجله فرضت هذه المساهمات قد تم أداؤه على أكل وجه.
وهناك واجبات لا يستطيع أي فرد من الأمة أن يزعم أنها قد أديت. ومن أهم هذه الواجبات هي الدفاع عن المستضعفين من اللاجئين وضحايا القمع. فلا يستطيع شخص منا أن يأتي يوم القيامة ويزعم أنه لم يكن يعلم أن الفلسطيينين والسوريين والعراقيين يعانون هذه الأيام تحت القمع والاحتلال. وقد ابتدع العرب في هذا المجال بدعة ما سبقهم بها أحد من العالمين، وهي تكليف المستضعفين من فقراء ولاجئين ومشردين القيام بفرض الكفاية نيابة عن الأغنياء والقادرين وأصحاب ترسانات الأسلحة. وقد بدأ هذا في منتصف الستينات، عندما استسلمت الأنظمة العربية للهزيمة أمام إسرائيل، فقامت بتشكيل منظمات "فدائية" فلسطينية هدفها الأساس ستر عورات هذه الأنظمة، والتغطية على فضيحتها أمام شعوبها، خاصة وأنها كانت ما تزال تتبنى خطاب العنتريات، وتهدد إسرائيل بزوال وشيك.
وقد كانت الأنظمة تعلم قبل غيرها أن هذه الاستراتيجية لن تحقق شيئاً، لأن نفس أسباب عجز الأنظمة تعوق عمل هذه المنظمات. فإذا انطلقت عمليات فدائية من أرض عربية، فإن إسرائيل ستضرب الدولة المعنية، وهو ما حدث بالفعل. وقد دفع هذا بهذه الدول للتصدي للمنظمات بنفسها نيابة عن إسرائيل، وبهمة أكبر. مصر وسوريا لم تسمحا أصلاً لهذه المنظمات بالعمل من أراضيها، أما الأردن ولبنان فقد أنجزا في حقها ما يشرف إسرائيل.
وهكذا نجد أنفسنا اليوم في وضع مخجل بكل المقاييس، ليس للأنظمة فقط، بل لكل الشعوب. فقد دفع بساكني المخيمات في لبنان والأردن لقتال إسرائيل وحدهم، ثم عوقبوا على ذلك. واليوم أيضاً تم تكديس أفقر الفلسطينيين وأقلهم حيلة في معتقل غزة، وكلفوا نيابة عن أمة من مليار مسلم، مقاتلة إسرائيل وحدهم. ولم يكف هذا، بل حوصروا من قبل بقية العرب، وتعرضوا للشتم والاستفزاز وكافة التهم المضحكة-المبكية.
إن أفضل العرب اليوم هو من يصفق لفريق حماس في غزة، بعد أن يفرغ بالطبع من التصفيق لفريقه المفضل في مونديال البرازيل، قبل أن يقبل على مائدته الشهية، ويلتفت إلى ما تحتاجه أسرته من أسباب الترف. وقد يتبرع ببضعة دراهم لمنظمة إغاثة حتى يتخلص من وخز الضمير. أما البقية، وهم ليسوا بقلة، فيعبرون عن الشماتة في تهور حماس، ويتمنون لها هزيمة سريعة وزوال كامل، حتى لا تؤرقهم مرة أخرى صورايخ نتنياهو وتصرفهم عما اعتادوا من حياة الدعة والترف. ولا يمكن أن تبلغ أمم دركاً من الانحطاط أدنى من هذا، بحيث يكون أفضلها من يندب أضعف عناصر الأمة من المهجرين والمحاصرين للدفاع عن شرفه، وليس له شرف، وشرارها من هم أشد نكاية على هؤلاء الضعاف من العدو السافر. ولهذا السبب جاء في القرآن أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً، لأنهم هم العدو كما جاء في صحيح التنزيل.
المعضلة هي أن المنافقين وتحالف مسيلمة وابن سلول هم من يحكم في معظم العواصم العربية هذه الأيام بعد أن انتصروا في حروب الردة، وأصبحت المدينة تحت سلطانهم. وليست جريمة هؤلاء هي القعود عن نصرة غزة، ولكن في انشغالهم بالتنكيل بأهل المدينة، التي أصبحت تحت احتلال هو أشد نكاية من احتلال الفرس والرومان.
إذن غزة ليست سوى رمز لسقوط أمة بلغت من الانحطاط دركاً سحيقاً، وسقطت أخلاقياً بالتخلي عن أوجب واجباتها، وسقطت سياسياً بوقوعها في أسر أنظمة استبدادية تهين كرامتها وتسومها سوء العذاب. فلو كانت هناك شعوب ذات كرامة، على رأسها حكومات تمثلها، لكان الأوجب أن تتصدى هذه الحكومات للدفاع عن المستضعفين في فلسطين وغيرها. وقد كان العرب حتى في أيام الجاهلية قادرين على إجارة المستضعفين. وقد كان من بداية هوان الأمة تصدي دول أجنبية مثل روسيا وفرنسا وبريطانيا لحماية الأقليات في البلدان العربية، في حين لم يكن هناك سلطة مقابلة تحمي العرب والمسلمين في خارج ديارهم، بل في داخلها.
استمرار هذا الخزي والعار سيؤدي إما إلى سقوط العرب واندثارهم، عبر تمزق الدول وانهيارها، كما نشهد اليوم من تكاثر الجماعات العنيفة التي تزعم أنها تتصدى لفرض الكفاية بالدفاع عن المستضعفين، أو أنه سيؤدي إلى نهضة عربية عبر انتفاضة أحرار حقيقية تعيد الكرامة لجميع العرب، وليس لفلسطين وحدها. فإما أن تسقط أنظمة الخزي والاستبداد، وإما أن يسقط العرب، إن كان هناك سقوط أدنى مما نرى. والذي نأمله ونرجحه هو أن يسقط المستبدون الفاسدون، وينهض العرب من مرقدهم.
awahab40@hotmail.com