زمني وزمن الخليفة – آياتٌ للمتأملين

كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميد
ذات ظهيرةٍ قائظة، كنت أقضي بعض احتياجاتي الأسبوعية في بقالة الحي الذي أسكنه. من بين الأرفف وقعت عيناي على وجهٍ أعرفه. كان أستاذي الذي درسني التاريخ في المدرسة الثانوية العليا في منتصف الثمانينات — وكان يجعل من الدرس نافذة نطلّ منها على الحياة. كان يستنطق الحقائق، ويفوح عشقه للتاريخ من روعة السرد والاستطراد والمقارنات. وفي لحظات التجلي وخارج اطار المنهج يثيرنا بنماذج متناقضة في الفعل والدلالة فيربط بين المنسدح حامد أبوزهانة، والشيخ فرح ودتكتوك في تراثنا الثقافي كعلامات للكسل عند أبي زهانة.. والجد والعمل عند ودتكتوك.
اقتربت منه وعرفته بنفسي، وبعد أن أعياه استدعاء الذاكرة من بين الأجيال المتلاحقة التي مرّت عليه، رحب بي بلطفه المعهود. قلت له: حسناً أني التقيتك، فلدي ما أودّ أن أناقشك حوله عن الخليفة عبد الله التعايشي.
قال بلهجةٍ مرحبة: على الرحب والسعة.
ثم استدرك كالمحذّر: أعلم أن أغلب ما وصلنا عن الخليفة إنما جاء بلسان مستشرقين أو عبر كتابٍ من أقلام الاستخبارات البريطانية. أبدل الكِيس الذي كان يحمله من يد ليد ثم قال : إذن، ما الموضوع حول الخليفة؟
قلت له: أعتقد يا أستاذ أن الخليفة عبد الله كان شخصاً “متخلّفًا”.
فغر فاه بدهشةٍ ظاهرة، وقال: وما حملك على هذا الاعتقاد؟
قلت: عندما كان الإنجليز يتقدّمون نحو السودان، كتب إليه الملك منليك الثاني مقترحا تحالفا بين الدولتين، فرفض الخليفة وقال لمنليك: أسلم أولاً
تأملني الأستاذ مليّاً، وقال بصوتٍ متعبٍ وهو يزن الكلمات في ميزان التاريخ:
—لا تحاكم الرجل بعقل زمانك، بل حاكمه بعقل زمانه.
تملّكني شعور غامض بالخذلان. كانت إجابته هادئة، لكنها كسرت شيئاً ما في دواخلي. قلت له:
—ولكن يا أستاذ، منليك كان يرى بعين التاريخ و منطق العلاقات الدولية. فدعواه كانت منطقية، بل من ضرورات البقاء، خاصةً وأن ثعالب أوروبا كانوا قد وزّعوا القارة الإفريقية في مؤتمر برلين، وتقاسموها قسمة الفيء.
رد الأستاذ بحكمة مستمدة من أعماقه: “ألم يكن الإسلام هو مصدر قوته وشرعيته؟ فكيف يتنازل عن سلاحه في لحظة الحسم؟”
أجبته بمنطق دارس العلاقات الدولية السلاح الحقيقي كان البقاء، والإسلام لم يمنع منليك من التحالف مع مسلمين آخرين ضد أهل ملته. لكن الخليفة قد حوّل الدين من جسر إلى جدار عازل.
سكت الأستاذ، كأنه لا يريد أن يمدّ الجرح أكثر.
تلك الفجوة بين زمننا وزمن العالم لم تكن يوماً تأخراً في التكنولوجيا أو التعليم، إنها تأخر الوعي قبل كل شيء.
وحين خرجنا من البقالة، ظلّ صوته يلاحقني، لا دفاعاً عن الخليفة، بل دفاعاً عن تاريخٍ كاملٍ يريد أن يظل بريئا حتى من أخطائه.
كان الأستاذ يستمع إليّ وأنا أستعرض وقائع تلك السنوات التي تمددت بين كرري وأمدرمان، ثم قال بهدوءٍ خاشع:
«لا تظلم الرجل، فقد كان يقاتل بما يملك، لا بما ينبغي أن يملك».
لكني، وقد كنت أعي تماماً ما يعنيه قوله، كنت أرى في دفاعه عن الخليفة شيئاً من الرثاء أكثر منه وعياً بالتاريخ. فالرجل لم يكن مجرد ضحيةٍ لزمانه، بل أحد صانعي تراجيديا الزمان المترنّح بين الوهم والإيمان.
رجعتُ لموقف منليك الثاني، الذي قرأ الخرائط قبل أن تُرسم، واستشعر الخطر قبل أن يقع.
عندها سكت الأستاذ، ولعلّه عضّ على شفتيه — لست أذكر على وجه التحديد. غير أني أدركت أننا لم نكن نناقش واقعةً تاريخية، وإنما نقيس الزمن بالوعي لا بالتقويم.
وفي تلك اللحظة، وأنا أتأمل ما فعل الزمن بملامح أستاذي، طافت بذهني أسماءٌ كانت تحاصر الخليفة من بعيد. وسألت نفسي:
هل يا ترى كان أستاذي يعلم أنه في ذاك الزمن كان نيتشه قد أعلن عن نفسه بجرأته المعتادة كأعظم فيلسوف. يهدم المفاهيم المطلقة بينما كان الخليفة يقاتل من أجل يقينياته؟ هنالك جاهر نيتشه بفكرته حول موت الإله بينما كان الخليفة يرسخ لدولة ثيوقراطية؟
أم هل قرأ أستاذي كتاب (أصل الأنواع) لداروين، الذي كان ينسج سردا جديدا للوجود كاد أن يقلب به الكون رأسا على عقب.. عندما قرر أن قانون الصراع يقتضي البقاء للأقوى. نفس المعادلة التي فشل الخليفة في فهمها سياسيا؟
أم هل يا تُرى قد طاف عليه طائف من إديسون الذي أغرق العالم في سنا النور حيث غير العالم بالمادة والابتكار، بينما كان عالم الخليفة يراهن على الماورائيات فقط؟
وهل تراه اطّلع على عوالم دوستويفسكي المناجية للأرواح، حيث كان الروسي العائد من الموت في سهوب سيبيريا يحفر في أعماق النفس البشرية، مصارعا بين يقين الرحمن، ونزعات الشيطان. حتى غدا مرجعاً لعلماء النفس قبل أن يكون روائياً فذاً؟
هؤلاء كانوا أنداد الخليفة ومجايليه. لم يكن العالم نائماً إذ ذاك. كان يعيد اكتشاف نفسه كل يوم. فكيف يُقال لنا ألا نحاكمه بمنطق زماننا، وقد كان زمانه نفسه يحتشد بالعباقرة؟
لكن لعلها لعنة الأزمنة المتأخرة، أن نعيش دائما في زمنٍ لا يلحق بعصره. فكأن السودان كُتب عليه أن يأتي بعد أن يُقال كل شيء، وأن يخطئ بعد أن تُكتشف القوانين، وأن يحارب بعد أن تنتهي المعارك. وأن يظل جالساً على المسرح بعد أن تُستدل الستار.
حين حاكمتُ الخليفة، لم أحاكمه بزمني، بل بزمن مجايليه؛ بزمن منليك الذي هزم الطليان في عدوة. وقرأ العالم بعيونٍ تلسكوبية، ورأى ما يُحاك له ولجيرانه، فنشد شدّ عضده بأخيه. إلا أن الخليفة أعرض ونأى بجانبه، فصار قارضاً لعرى الإسلام والوطنية معاً.
وعندما تكالبت عليه القوة الغشوم، بعد معركة النهر، يمّم شطر الغرب لعلّه يرمّم ما تبقّى من الذات حيث كانت البداية. غير أنه – واأسفاه – وقبل أن يبلغ التخوم، أخذ يستاف رائحة النهايات المحتومة، فجلس على “تبروقةٍ” مستقبِلاً القبلة.
يا إلهي، بين زمني وزمن الخليفة، آياتٌ للمتأملين.
فالتاريخ لا يكرّر نفسه كما يُقال، إنما يجرّ أذياله على وعيٍ لم يتبدّل.
في كل جيلٍ نعيد السؤال ذاته بصياغاتٍ جديدة:
كيف يمكن لبلدٍ أن يعيش دائماً بعد فوات الفكرة؟
وحين عدت إلى البيت، لم أعد أفكر في وجه أستاذي الذي شاخ، وإنما في وعينا الجماعي الذي لم يتقدم كثيراً ربما لأننا ورثة تلك الطمأنينة التي مات عليها الخليفة.
فمازلنا نستقبل القبلة ذاتها، بالطمأنينة ذاتها واليقين ذاته ونعيد وضوءنا في التاريخ ذاته، وننتظر خلاصاً لم نشارك في رسم معالمه.
د. محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com

عن محمد عبد الحميد

محمد عبد الحميد

شاهد أيضاً

نظرة أولية في بيان مجلس الأمن والدفاع – البرهان البطل التراجيدي مصرع الكرزيما والكهانة

كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميدwadrajab222@gmail.comأصدر مجلس الأمن والدفاع بيانا بعد ترقب بتاريخ 4 نوفمبر …