كتب د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية
في الحياة الحديثة تتعدد المخاطر بصورة مذهلة، بل يمكن القول إن السمة الغالبة لعالم اليوم هي المخاطر بشتى أنواعها وأشكالها. وكما تُعرف في علم إدارة مخاطر الكوارث، فإن المخاطر هي حالة احتمالية ناشئة عن خطرٍ ما، وهي لا تُلغى ولكن يمكن تقليل أثرها إلى الحد الأدنى المقبول.
لقد تطورت رؤية العالم في التعامل مع المخاطر على نحوٍ يجعل إدراكها خطوة أولى نحو الحد منها. فعلى سبيل المثال، السيارة بوصفها منجزاً حضارياً يمكن اعتبارها خطراً في ذاتها، غير أن أدوات السلامة — من حزام الأمان إلى الكوابح والبالونات الهوائية — صُممت لتجعل المخاطر المرتبطة بها في حدود المقبول، دون أن تلغيه تماماً، إذ لم تُخترع بعد سيارة بلا مخاطر.
بهذا المعنى يمكن القول إن المخاطر جزءٌ من الحداثة، غير أن إدراكها والتعامل معها هو ما يميز المجتمع الواعي عن غيره. فعلى المستوى الرسمي، يَتوقف هذا الإدراك على مستوى وعي متخذ القرار بالمخاطر في كل ما يقرره. فالوعي بالمخاطر ليس ترفاً تقنياً، بل حالة حضارية وضرورة سياسية وتنموية في نفس الوقت. غير أن التجربة السودانية تُظهر أن هذا الوعي ظل ضعيفاً ومهملاً، إن لم يكن غائباً تماماً، في كثير من المواقف الرسمية للدولة.
ولعلّ أوضح الأمثلة على ذلك موقف السودان من السد الإثيوبي، الذي استُقبل بحماس رسمي لا يستند إلى حسابات دقيقة للمخاطر. فالسد، كمنشأة، ينطوي على مخاطر كوارث غير مقبولة، كان يمكن أن تغيّر من طبيعة الموقف السوداني لو أُجري له تقييمٌ موضوعي مبني على معايير علم الحد من مخاطر الكوارث، لا على التفكير المغرق في الأماني بالانتفاع منه. ويمكن تفصيل هذه المخاطر في التهديد المباشر للأمن المائي، والإضرار بسلامة السدود السودانية، وإطلاق يد إثيوبيا في التحكم في إيراد النهر دون اتفاقيات قانونية ملزمة، فضلاً عن حجم السد البالغ قدرة تدميرية كامنة 74 مليار متر مكعب.
على أي حال، إذا كان تجاهل هذه المخاطر الاستراتيجية في قضية سد الإثيوبي قد مثّل خطأً تأسيسياً ستظهر عواقبه عاماً بعد عام وبأشكال مختلفة، فإن تجاهل المخاطر المباشرة في قضية مطار الخرطوم يمثل مغامرة غير محسوبة تهدد الأرواح في اللحظة الراهنة. فالإصرار السياسي على إعادة فتح المطار في ظل حربٍ نشطة يكشف، مرة أخرى، عن ضعف الوعي بالمخاطر بشكل مريع. قد لا يختلف الناس على أهمية استعادة المطار لعمله، غير أن تلك الضرورة يجب أن تُدار وفق معادلةٍ دقيقة توازن بين المكسب السياسي ومبدأ السلامة. فالخطر هنا ليس افتراضياً، بل ماثل ومؤكد، ويشمل الهجمات بالمسيّرات واستهداف المنشآت الحيوية لأغراضٍ سياسية بحتة، مما يجعل تشغيل المطار قراراً ينطوي على مخاطر غير مقبولة من منظور علم إدارة مخاطر الكوارث والحد منها.
إن قرار إعادة تشغيل مطار الخرطوم، في ظل هذه البيئة، لا يمكن قراءته بمعزل عن معايير إدارة مخاطر الكوارث التي تضع في مقدمتها مبدأ عدم المغامرة في بيئة ذات مخاطر مؤكدة. فالخطر هنا لا يُقاس بالنية الوطنية ولا بالرغبة في إثبات السيطرة، بل بمدى تعرض المنشأة وقابليتها للضرر. فبنظرة عامة يمكن إجمال المخاطر في:
أولاً: موقع المطار، فالمطار يقع في قلب منطقة سكنية وتجارية كثيفة وحيوية، وأي استهداف له — حتى لو كان محدوداً — يتجاوز البعد الفني ليصبح كارثة شاملة. فالهجوم على منشأةٍ يُفترض أنها محمية بموجب القانون الدولي الإنساني (IHL) لا يعني فقط فقدان الأرواح داخل المطار، بل يمتد أثره إلى ترويع المدنيين وتأجيل عودتهم إلى ديارهم، وإضعاف الثقة في أي حديث عن استقرارٍ قادم.
ثانياً: بُعد تحويل المخاطر (Risk Transfer) وما يرتبط بذلك من تأمين. وفقاً لمنظور إدارة مخاطر الكوارث، يُعرف تحويل المخاطر بأنه الآلية التي يتم من خلالها نقل الأثر المالي للخسائر المحتملة من طرفٍ يتحمل التعرض المباشر للخطر (كشركات الطيران) إلى طرفٍ آخر أكثر قدرة على إدارتها (كشركات التأمين العالمية)، وذلك عبر اتفاقيات قانونية ومالية دقيقة. وهنا تكمن المشكلة، فشركات النقل الجوي العالمية، التي تُقيّم المخاطر بدقة متناهية وتُحدّث خرائطها التأمينية بشكل دوري ومتسارع وربما على مدار الساعة، ستجد نفسها غير قادرة على تحويل هذه المخاطر المرتفعة بشكلٍ مقبولٍ من الناحية المالية. فوجود تهديد فعلي من المسيّرات والهجمات الجوية يجعل من العبء التأميني على الطائرات والركاب أمراً بالغ الكلفة. فمجرد تصنيف المطار ضمن نطاق “منطقة نزاع نشطة” (Active war zone) يضاعف أقساط التأمين أضعافاً، ويدفع شركات الطيران في النهاية إلى الخيار الوحيد المتبقي: تجنّب المجال الجوي السوداني تماماً، وهو ما سينعكس مباشرة على سمعة السودان كمحطة ترانزيت ووصول. وحتى بعد استقرار الأوضاع، فإن استعادة الثقة قد تحتاج إلى سنوات عديدة لاستعادة الطمأنينة المؤسسية والفنية.
ثالثاً: انعدام ضمان السلامة للعاملين في المطار وسلاسل الإمداد المرتبطة بتشغيله. فسلامة العاملين شرطٌ أولي لأي تشغيل، وأي حادث — ولو بسيط — سيُفسَّر دولياً على أنه إخفاق مؤسسي في إدارة المخاطر، مما يعمِّق عزلة السودان داخل منظومة الطيران المدني الدولي.
لهذا فإن القرار الحصيف هو عدم التسرع في إعادة التشغيل قبل الوصول إلى نقطة ضمان مقبولة للمخاطر (Acceptable Risk Threshold)، أي الحد الذي يمكن فيه القول إن احتمالات حدوث مخاطر قد بلغت الحد المقبول. ويتحقق ذلك من خلال إما تأمين الأجواء بالقضاء على مصدر التهديد قضاءً مبرماً، أو عقد اتفاقية سلام شامل تجعل المطار وسائر المنشآت المدنية آمنة وقابلة للعمل.
إن فتح المطار قبل بلوغ هذه النقطة لا يعبِّر عن شجاعة وطنية، بل عن قصور مؤسسي في إدراك مستويات المخاطر، وهو ما يجعل القرار السياسي نفسه سبباً محتملاً للكوارث التي يُفترض به أن يتفاداها.
إن المفارقة الكبرى، إذن، هي أن السودان الذي عجز عن إدراك مخاطر سدٍّ وضَع السودان عملياً تحت رحمة دولة أخرى، هو نفسه الذي يتجاهل خطراً مباشراً في سمائه يمكن أن يُحدث مأساة في لحظة. وهذا التشابه في الخلل — برغم اختلاف طبيعة القرارين — يؤكد أن الإشكالية تكمن في الخلل العميق في إدراك المخاطر.
د. محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم