سرقة الثورة: حقيقة أم فوبيا! (ومن مآمنه يؤتى الحذر)!

 


 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

إنني أنتمي لمجموعة إسفيرية نشأت منذ بداية الإنتفاضة الجارية إسمها "حتى لا تسرق ثورة الشعب" بضم التاء، بقيادة نفر من المثقفين الوطنيين النابهين مثل البروف محمد جلال هاشم، وأجدني أفكر ليل نهار مع هذا النفر الكريم في كيفية التحوط ضد سارقي الثورات الذين ابتلت بهم جميع الانتفاضات المحلية والإقليمية والدولية على مر التاريخ.

ومن المفارقات المدهشة أن الثورة الوحيدة التى أفلتت من اللصوص ومن انقلاب الثوار على بعضهم البعض بطشاً وتصفيةً هي ثورة التحرير الأمريكية 1765/1783 التى تكللت ليس فقط باستقلال الثلاث عشرة ولاية التى تأسس عليها الإتحاد الوليد من الإستعمار البريطاني، ولكنها نجحت أثناء تلك الحرب الثورية في عقد مؤتمرات الولايات ثم المؤتمر العام بفلادلفيا الذى خرجت منه بأول دستور ديمقراطي مكتوب "من 37 صفحة" ظل يحكم بلادهم حتى الآن، (بالطبع مع الإضافات amendments اللاحقة).

ولكن، وبعد نجاح الثورة الأمريكية بعشر سنوات تفجرت الثورة الفرنسية في 1789م، وعلى الرغم من أن مرجعيتها الفكرية كانت تتماهي مع المرجعية الأمريكية المستقاة من الفلاسفة الفرنسيين جان جاك روسو ومونتيسكيو، بالإضافة لرصفائهم الإنجليز جون لوك وتوماس هوبز، وسائر مفكري التنوير، إلا أنها اتخذت مساراً مختلفاَ مليئاً بالدماء والجروح الغائرة، حتى أسميت "الثورة التى أكلت بنيها". ومن بين تلك الأجواء العاصفة برز في 1804 الإنتهازي الأكبر الدكتاتور نابليون بونابارت الذى أدخل أوروبا كلها في حروب كونية تناهت به حتى التخوم الروسية ذات الصقيع الذى أنهك جيشه، وحتى الشواطئ المصرية، وبعدها بقليل تمت هزيمته نهائياً في ووترلو عام 1815 وذهب منفياً إلى جزيرة إلبا، أي إلى مزبلة التاريخ، على الرغم من بعض إنجازاته الإيجابية مثل صياغة القوانين والدستور الديمقراطي المدني الفرنسي الذى ما زال يحكم تلك الدولة الأوروبية ذات الوزن.

والثورة المشهورة بعدئذ كانت الثورة البلشفية الروسية التى تكللت بالنصر في أكتوبر 1917م وجاءت بسكرتير الحزب الشيوعي فلاديمير لينين رئيساً للدولة الإشتراكية الوليدة، (أي أن الشيوعيين سرقوها من بدايتها)، ولكنه ما إن توفي عام 1924 حتى تحولت الثورة إلى ملك استبدادي عضود على يد جوزيف ستالين الذى صفي وبطش بمعظم رفاقه أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية، وعلى رأسهم ليون تروتسكي المفكر الأكبر والساعد الأيمن للزعيم لينين، فلاحقه ستالين وقتل أبناءه الأربعة وابنته وطفليها وزوجته، ثم لحقه قي منفاه الإختياري بالمكسيك واغتاله عام 1940. وأطلق ستالين يد الجيش الأحمر السوفيتي في دول شرق أوروبا التى كانت تحارب معه ضد نازية هتلر التوسعية، فحولها إلى دكتاتوريات شيوعية ظلت ترزح تحت الهيمنة السوفيتية حتى تحررت في بداية تسعينات القرن العشرين عبر انتفاضاتها الشعبية السلمية المخملية. وبادرت كل تلك الدول، ما عدا روسيا، بالاتفاق على دساتير ديمقراطية لبرالية، وانضمت للإتحاد الأوروبي ولحلف الناتو وضمنت لنفسها الاستدامة، (نهاية التاريخ، فى رواية فرانسيس فوكوياما)، والاستقرار والتقدم الاقتصادي وطرد أشباح الفقر.

والثورة الشعبية الأخري التى تعرضت للإختطاف كانت الثورة الإيرانية السلمية التى أطاحت بعرش الشاهنشاه محمد رضا بهلوى عام 1979، إذ قفز عليها ملالي قم بقيادة روح الله الخميني، فتخلصوا من حزب تودة الشيوعي الوقود الحقيقي للثورة ومن بقايا الجبهة الوطنية التى أسسها الدكتور محمد مصدق والدكتور حسين فاطمي في أواخر أربعينات القرن المنصرم، والتى فازت بالانتخابات، وتحدى رئيس الوزراء مصدق الإمبريالية الريطانية بتأميمه لشركة النفط الإنجليزية المسيطرة على الموارد البترولية الإيرانية حتى 1951م. وإذا بالثورة الشعبية الإيرانية تنحرف نحو إيديولوجيا الشيعة المتطرفة المخلوطة بفكر الإخوان المسلمين، وتحت أجنحة تنظيم الإخوان المسلمين الدولي.

ونحن في السودان أطحنا بدكتاتوريتين عسكريتين فى 1964 و1985، ولكن مقاليد الحكم آلت فى الحالتين للقوى الطائفية الشبيهة بملالي قم - الأنصار بقيادة الصادق المهدي والختمية بقيادة محمد عثمان الميرغني. أما الثورة الأولى فقد جاءت بحياة مولانا السيد على الميرغني، إذ توفي عليه رحمات الله عام 1968، وما كان يتدخل في شؤون الحكم والسياسة إلا من باب النصح الأبوي، وكان ذا ميول تقدمية من وحي الثورة العربية 1915 بقيادة الشريف حسين، ومن وحي الإتجاه التقدمي الذي لعبه نظام جمال عبد الناصر فى الوقوف مع حق السودان فى تقرير مصيره، وفي مساندة حركات التحرر بالجزائر والكنغو وغيرها من بلدان الشرق الأوسط وإفريقيا. وما حدث بعد انتفاضة إبريل 1985 هو الزحف الذى بدأ منذئذ للإخوان المسلمين نحو سرقة الثورة، إلى أن تكلل بانقلابهم العسكري في يونيو 1989، ثم تمكنهم من مفاصل الدولة ومصادر اقتصادها حتى يومنا هذا.

وينطلق تخوف الثوار الحاليين من سارقي الثورات، بالإضافة للتجارب المذكورة، من حقيقة أننا نعيش الآن في عالم متداخل ومترابط بشكل مريع ومكثف، ومن أننا جزء من شرق أوسط ملتهب ومتأجج، تختلط فيه عقلية القرون الوسطي الإقطاعية بالنزوع نحو محاكاة الغرب المتمدين، ويمور بالصراعات الصفرية السرمدية، وبالثنائيات الطائفية والسياسية، وبالهيمنة الإمبريالية التى تجسدها الجيوش والقواعد الغربية الأمريكية والأوروبية المبثوثة بكل المنطقة، (أضف إليها الوجود العسكري الروسي المحسوس بالآونة الأخيرة). وأينما نتلفت نجد أن الإنتفاضات الشعبية قد تعثرت وتاهت وتناثرت عروتها – في ليبيا واليمن وسوريا، ولا ننسي الصومال والعراق. وبعد ثلاثة عقود من دكتاتورية الإخوان بالسودان برزت طبقة كمبرادورية تقوم بالسمسرة للرأسماليين العرب ولرأسمالية الدولة الصينية والدولة الروسية، وأضحت لها مصالح ذات جذور ضاربة بكافة أرجاء البلاد، يهمها المحافظة عليها، ونفس الشيء ينطبق على القوى الرأسمالية التى ترضع من ثديها؛ ويبدو لي أن ذلك واضح من الموقف السلبي والتمويهي والتدليسي والتلبيسي الذى وقفه الإعلام العربي من الثورة الشعبية الراهنة، (غير مضمونة العواقب).

على كل حال، ومهما كان تخوفنا من سارقي الثورات على المستوى النظري، فإن الواقع بالشارع السوداني يقول شيئاً آخر – فالثورة مستمرة ولن تتوقف حتى ذهاب النظام، فى تحد واضح للنظام الإخواني المتكمن، ولكل أرابيبه الشرق أوسطيين. بيد أن الحصافة لا بد منها، ولا بد من نجاح الثورة أولاً. وفي سبيل ذلك، علينا ألا نوصد الأبواب في وجه من تخلى عن نظام الإخوان في الزمن الضائع وأراد أن يمسك بأهداب الثورة. لا داعي لضيق العين الروبسبري (نسبة لما حدث في الثورة الفرنسية)؛ ويمكننا بعد نجاح الانتفاضة أن نعود فنفتح الملفات المعنية التى لن يتهرب منها أي أحد من الفئران القافذة من السفينة الغارقة. ومن دواعي الحصافة كذلك الصبر على الإخوة العرب الجاهلين بشيء إسمه الثورات الشعبية، وشرح الأمر لهم بتؤدة وصبر، وطمأنتهم بأنا لن نبني نظاماً رسالياً يهدف لنشر أي رسالة خارج حدودنا – كما فعل البلاشفة عبر الأممية الشيوعية، وكما فعلت أحزاب البعث، وكا فعل النظام الشيعي الإيراني التوسعي، وكما فعل الإخوان المسلمون السودانيون المتحالفون مع إيران وتركيا وتنظيم الإخوان العالمي. نحن نريد أن نطعم شعبنا من جوع ونضعه فى سلك الشعوب المحبة للسلام والداعية فقط للتقدم الإقتصادي والتحول الاجتماعي. لا ضرر ولا ضرار ولا غدر بالجار.

ومهما يكن من أمر، فإن الخوف من سارقي الثورات يظل حقيقة موضوعية لا مفر من التعاطي معه، وفي سبيل تأمين ثورتنا الشعبية والوصول بها لبر الأمان، علينا أن نتواثق الآن على دستور أدهوكي نعبر به المرحلة الإنتقالية ذات الست سنوات، قبل أن نقوم بصياغة الدستور الدائم خلال السنوات الست المذكورة. ويمكننا الآن أن نتفق على الآلية التى تعد الترتيبات الانتقالية.

من نحن؟
نحن القوى الموجودة في الشارع الآن، القوى المعروفة بنضالها ضد نظام الإخوان بثبات طوال الثلاثة عقود المنصرمة، وهي معروفة، ولحسن الحظ ليس من بينها القوى الطائفية التى جنت على نفسها وقادها ضعفها وقصر نظرها وتكالبها للإنزواء والتقاعس والخروج من ثقوب التاريخ.
المجد معقود لواؤه بأهل السودان.
وعاش كفاح الشعب السوداني.
والسلام.

fdil.abbas@gmail.com
////////////////////

 

آراء