سقوط الفاشر وسقوط القناع

بقلم: إدوارد كورنيليو

في خضم الحرب السودانية المتعددة الجبهات، خرج مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور، بتصريحات مثيرة للجدل عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، معلنًا ما وصفه بـ”الانتصار الكبير” في مدينة الفاشر، وموجهًا دعوة إلى “الأشقاء والأخوات في دولة جنوب السودان لرؤية الحقيقة”. في منشوره، أشار إلى أن قوات الدعم السريع “انتهت كقوة مقاتلة”، ولم يتبقَ لها سوى “الاستعانة بالمرتزقة”، مضيفًا أن من يقاتل اليوم “هم جنوبيون”، وأن “سقوط الفاشر يعني سقوط الجنوب”.

هذه التصريحات، التي تبدو للوهلة الأولى كخطاب انتصاري عسكري، تحمل في طياتها دلالات أعمق تتجاوز الحدث العسكري نفسه، وتستدعي قراءة تفكك البنية السياسية للصراع، وتكشف كيف يُستخدم الخطاب القومي كأداة لإعادة تشكيل التحالفات، وتفضح الأيديولوجيا التي تُخفي التناقضات البنيوية في السودان المعاصر.

لا يمكن فصل الحرب السودانية عن البنية التي تحكم الدولة منذ نشأتها. فالصراع بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وبين الحركات المسلحة المختلفة، ليس مجرد تنازع على السلطة، بل هو تعبير عن تناقضات بين نخب عسكرية، قبلية، واقتصادية تتصارع على الريع والموارد في ظل غياب مشروع إنتاجي حقيقي.

مني أركو مناوي، كأحد رموز الحركات المسلحة التي تحالفت مع المركز في مراحل سابقة، يمثل فصيلاً من النخبة التي تتنقل بين التمرد والسلطة وفقًا لموازين القوى. أما قوات الدعم السريع، فهي تجسيد لمشروع عسكري قائم على النهب، التجنيد غير النظامي، والارتباط بشبكات إقليمية ودولية.

في هذا السياق، فإن تصوير المقاتلين الجنوبيين كـ”مرتزقة” لا يعكس فقط موقفًا سياسيًا، بل يُستخدم كأداة لإخفاء التناقضات الحقيقية. فبدلًا من مساءلة البنية الاقتصادية التي تنتج الحرب، يُعاد إنتاج خطاب قومي يُحمّل “الآخر الجنوبي” مسؤولية العنف، ويبرئ الذات من بنية الحرب نفسها.

تصريحات مناوي حول “سقوط الفاشر يعني سقوط الجنوب” توظف خطابًا مزدوجًا: داخليًا، لتأليب سكان دارفور ضد “الآخر الجنوبي”، عبر تصويره كغريب وغازٍ، رغم أن كثيرًا من هؤلاء المقاتلين قد يكونون من مناطق حدودية متداخلة تاريخيًا، تربطها علاقات اجتماعية واقتصادية عميقة. وخارجيًا، للضغط على حكومة جنوب السودان، واتهامها ضمنيًا بالتورط في دعم الدعم السريع، ما يفتح الباب لتدويل الصراع، أو لتبرير تحالفات جديدة.

هذا الخطاب لا يسعى إلى إنهاء الحرب، بل إلى إعادة تشكيل التحالفات داخل السودان وخارجه، عبر شيطنة “الآخر”، وتبرئة الذات من ممارسات مشابهة. إنه خطاب يُخفي التناقضات البنيوية، ويُعيد إنتاج الانقسام الإثني كأداة للهيمنة.

وصف المقاتلين الجنوبيين بـ”المرتزقة” يهدف إلى نزع الشرعية عن الدعم السريع، لكنه في الوقت ذاته يتجاهل أن معظم الفاعلين في الحرب السودانية يعتمدون على تجنيد غير نظامي، بما في ذلك الحركات المسلحة والجيش نفسه. في واقع الحرب، المرتزقة ليسوا استثناءً، بل جزء من بنيتها، حيث تتحول الأجساد إلى أدوات في سوق العنف.

إن مفهوم “المرتزقة” يُستخدم لتبرير العنف المضاد، وتبرئة الذات من بنية الحرب. فكل طرف في الصراع يوظف أجساد المهمشين كوقود للحرب، بينما تتقاسم النخب العسكرية والاقتصادية الأرباح، وتُعيد إنتاج نفسها عبر العنف.

تصريحات مناوي تمثل تصعيدًا جديدًا في لهجة الخطاب تجاه جنوب السودان، لكنها أيضًا تعكس استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل التحالفات داخل السودان وخارجه. هذا التصعيد يتمثل في إعادة إنتاج خطاب قومي يهدد بإشعال صراعات إثنية جديدة، خصوصًا في المناطق الحدودية، ومحاولة عزل الدعم السريع دوليًا، عبر ربطه بجنوب السودان، ما قد يُستخدم لتبرير تدخلات خارجية، أو لتحفيز تحالفات إقليمية جديدة. كما يُحوّل الحرب من صراع على السلطة والثروة إلى صراع هوياتي، يُخفي التناقضات البنيوية، ويُعيد إنتاج الانقسام الإثني كأداة للهيمنة.

الفاشر، كمدينة رمزية في دارفور، ليست مجرد ساحة معركة، بل تمثل نقطة تقاطع بين التاريخ، الهوية، والسلطة. وسقوطها، كما يصوره مناوي، لا يعني فقط انتصارًا عسكريًا، بل يُستخدم كرمز لسقوط مشروع الدعم السريع، وربما لسقوط تحالفات إقليمية مرتبطة به. لكن هذا التصوير يُخفي حقيقة أن الحرب في السودان ليست بين “وطنيين” و”مرتزقة”، بل بين نخب تتصارع على الريع، وتُوظف الأجساد المهمشة كوقود. إنها حرب تُدار من فوق، وتُدفع أثمانها من تحت.

في ظل هذا الخطاب، تبرز الحاجة إلى وعي بديل، يُعيد تعريف الصراع على أساس المصالح الاقتصادية والاجتماعية، لا على أساس الهويات القومية أو الإثنية. فبدلًا من الانجرار وراء خطاب “المرتزقة الجنوبيين”، يجب مساءلة البنية التي تنتج الحرب، وتُعيد إنتاج النخب عبر العنف.

إن تصريحات مناوي، رغم ما تحمله من نبرة انتصار، تكشف عن أزمة أعمق: أزمة مشروع سياسي لا يستطيع أن يُنتج خطابًا جامعًا، ولا أن يُنهي الحرب، بل يُعيد إنتاجها عبر الأيديولوجيا.

التاريخ يعيد نفسه، مرة كمأساة، ومرة كمهزلة. وفي السودان، يبدو أن التاريخ يُعاد كمأساة مستمرة، ما لم يُكسر هذا النمط عبر وعي جذري، يُعيد تعريف الصراع، ويُعيد بناء مشروع سياسي بديل.

tongunedward@gmail.com

عن ادوارد كورنيليو

ادوارد كورنيليو

شاهد أيضاً

انشقاق نيال دينق نيال عن الحركة الشعبية: تفكيك لتصدّع النخبة وأزمة الدولة

بقلم: إدوارد كورنيليو في الخامس عشر من أكتوبر 2025، أعلن السياسي المخضرم نيال دينق نيال، …