صانع الأزمة يحلها، في ظل الحديث عن حوار وطني هل تستفيد (قحت) من درس ديسمبر الأولى؟!.

 


 

 

مقالات)نبض المهاجر الالكترونية

نقوم كل فجر نبحث عن بصيص أمل في المستقبل، ولسان الحال يقول رب شدة تنتج فرجاً ولو بعد حين، ونبيت على خيبة فوضع السودان لا يسر أصدقاءها وقد يكون مصدر فرح لأعدائها. وللسودان أعداء كثر، لكن ظلم ذوي القربى أشد مضاضة.

يطاوعنا خطاب الرثاء لحالنا ولحال البلد، فالرثاء لذيذ ويعوضنا عن الهزائم الثقيلة. لكن لن نكتب مراثي في سياق تحليل، فالوطن باق وإن خسرنا معارك كثيرة. نحتاج نقدا ذاتيا بديلا عن التعزية الخائبة، ولكن من أين نبدأ؟ من الأولى بالنقد الذاتي؟

لا يجب (نعم نحن في لغة وجوب) أن ننتظر تراجعات عقلانية ممن سرق الثورة والسلطة و(أعاد) التموقع في مراكز القرار بالحيلة والشيطنة. لدينا ما يكفي من الأدلة على تحالف هذه الفئة مع دمار البلاد والاستثمار فيه، لتخريب كل المسارات السياسية الديمقراطية التي تولدت من الثورة وعملت على بناء الديمقراطية في بلد عانى من القمع طويلا، وما استمرار سلطات الانقلاب في تمسكها بالحكم  بقوة السلاح والبطش والقمع وارهاب الناس برغم الترديء الاقتصادي والأمني إلا جملة في سياق ملف التدمير والتخريب.

يدور حديث كثير عن حوار وطني ثان للخروج من الأزمة التي تراكمت أسبابها وعمقها الانقلاب، حتى انغلقت أبواب الأمل في وجوه الناس. الداعون للحوار كثر (أنصار الثورة والديمقراطية وأعداؤها في ذات الوقت)، ولكن على أية قاعدة سيكون الحوار مع من خلق الأزمة واستثمر في اليأس والتثبيط؟ هل بقي مجال لحسن النية يقرب الأعداء من لحظة تفاوض على المستقبل؟ أقول الأعداء ولا أقول المختلفين في السياسة، فأساس طاولة الحوار الاختلاف وليس التنافي.

إني أرى عجزا مطلقا عن الخروج من حالة التنافي العدمي، والأقل تشاؤما يقولون ستتدخل الدول والوساطات والمبادرات والمحاور وسفاراتها لحلحلة الأمور، وهذا أكبر دليل على حالة التنافي بين فرقاء الوطن الواحد. لا داعي إذن لرثاء وطن مقسوم في العمق، فوجب الحديث بلغة أخرى لبناء تصورات مختلفة على صواب موقف السودانيين ضد الانقلاب.

كان أهل السودان على حق مطلق في خروجهم العفوي ضد الانقلاب، لقد كشفوا الروح الكامنة في شعب يملك وطنا ويحتاج حماة. هؤلاء هم المرجع الأخلاقي الضروري، لكن من يسعى إلى تفاوض أو يبني عملا للمستقبل؟ وهذا سبب من أسباب القوة التي لا يجب امتهانها أو التنازل عنها من أجل توافقات سياسية مؤقتة سبق تجريبها وفشلت، بل أنتجت خلاف ما بنيت عليه.

في التحليل الذي أراه سليما أخلاقيا وسياسيا إنه لا فرق بين داعش (الإرهابية) وبين مخربي الديمقراطية(الانقلابيين) في المركز، فكلاهما يعادي الديمقراطية. نعم ليس متاحا حمل السلاح ضد الذين يكيدون للديمقراطية (ولست داعية سلاح)، لكن كل تفاوض معهم على غير قاعدة (الحسم الأخلاقي) هو تنفيس لأزمتهم وتوفير حل سياسي ينقذهم مما خلقوه من كوارث مست سلامة الوطن.

نعم توجد فوارق في القوة المادية. أنصار الثورة والديمقراطية عُزّل من السلاح المادي الاقتصادي، لكنهم مسلحون بموقف سياسي أخلاقي لا ريب فيه. إن عددهم كثير لكنهم في بحثهم عن مخارج تفاوضية للأزمة القائمة يضيعون قوة موقفهم الأخلاقي والسياسي ويفتحون أبواب الاستسلام، كما كان الأمر في حوار 2019 الذي أعاد تسليم البلد لمنظومة الفساد والاستبداد(الشراكة الميتة) التي غيرت وجهها ولم تغير طبيعتها الإجرامية. أليس هذا موقفا عدميا؟ هل يبقى أنصار الثورة والديمقراطية مكتوفي الأيدي في انتظار أن يأتيهم أعداء الديمقراطية خاضعين أذلاء؟

لقد تم حوار 2019 تحت مسمى الحفاظ على الدولة وحقن الدماء ولغو كثير مماثل، لكن هذا الغطاء انكشف عن خديعة. لم يتم الحفاظ على الدولة ولم يتوقف نزيف الدماء، لقد تم الحفاظ على نظام المصالح القديمة ودعمه بما يتنافى ومطالب الثورة والناس التي آمنت بها. والذين خدعوا شركاءهم في الحوار والميثاق السابق هم الذين يطمسون معركة ثورة السودان ورمزيتها؛ لأن المفاوض المخدوع تخلى عن قوته الأخلاقية. لقد تخلى عن سلاحه، ونرى علامات على اقتراب  تنازل جديد عن هذه القوة في مواجهة صناع الأزمة.

الأزمة يحلها من صنعها أو يغرق فيها وحده، لنتوقف عن الشفقة عن دولة ليست إلا غنيمة الفاسدين. هذا التكالب على الحوار (المغشوش) طريق اضاع الثورة. طرف الحوار المخادع لا يستحق أن ننقذه، نعم إنه المسيطر الحقيقي على البلاد الآن ومن مصلحته (التي لم يدركها حق إدراكها) أن يعيش البلد ويزدهر، ففي ذلك مغنمه وهو لا يحسن تقدير فوائد الديمقراطية عليه أولا، والحوار سيوفر له مخرجا داخل الرداءة السائدة والتي خلقها بنفسه لأنه لا يفلح في التفكير خارجها. لندعه يغرق فذلك مخرج منتج لحل دائم. المبادرات التي يطرحونها ما زالت تختزل الأمر في تسويات شكلية لنزع فتيل الأزمة الطارئة، وليست الأزمة بطارئة، بل هي تراكمٌ لتركة ثقيلة تجاوزت الستة عقود، هم كانوا من صناعها ورعاتها.

الموقف الأسلم سياسيا أن نترك الأزمة تأكل صناعها، لذلك فإن التكالب على حوار وطني خطأ تكتيكي واستراتيجي، لم يتعلم شيئا من فشل حوار 2019. موازين القوة المادية متفاوتة نعم، ولكن موازين القوة الأخلاقية راجحة لمصلحة الديمقراطية وأنصارها. سيقول كثيرون إن هذا التطهر الثوري فوق الربوة يهلك البلد، ووجب الرد بسرعة: أي بلد؟ بلد مافيا مليشيا الجنجويد وآل دلقو؟ بلد التهريب وتخريب الموانئ؟ بلد توريد البصل المسرطن من مصر؟

أظن أن عقلاء كثيرين تقودهم محبة البلد والشفقة على ناسه من الفقر والخصاصة. يجب على هؤلاء أن يروا أيضا أن حالة الركود تصيب طبقة مافيا الجنجويد ومعسكر الانقلاب في مقتل، هذه المافيا تحتاج شعبا طيبا أو غبيا يقتني سلعها. إذا افتقر هذا الشعب الطيب سقطت المافيا، وهذا يجري الآن أمام أعين العالم وهو المنفذ الوحيد للخروج من الأزمة. فأنا أحد الذين يستريبون في نوايا المهرولين إلى حوارات وطنية مع عصابات المافيا. للأزمة فعل تأسيسي، لندعها تخرب لتبني بروح الثورة .

وقت المفاوضات مع المجلس العسكري كان النادي السياسي النخبوي ينظر للجماهير في باحة القيادة العامة بإستعلاء وعنجهية مثل سنابل القمح كلما كَثرت زاد زهوه بحصادٍ ميمون، لا أحد يعرف ماذا يدور في داخل غرف التفاوض وخلف الأبواب المغلقة، نراهم في الممرات يبتسمون لبعضهم أمام عدسات التصوير، كل شيء كان يطبخ بليل ولا تجد حتي الصحافة ريحه ثم يأتون للقطيع الذي يتصورنه قطيعاً للمباركة بدموع الفرح الكاذبة والاحضان المتلهفة للسلطة ثم يستلون أسيافهم الخفية لكل من يرفض بمبررات الحفاظ علي وحدة الصف وأن هذا أسلم طريق يعبر بنا، الي أن حدث لهم ما حدث، كانوا يريدون  أن يحملوا علي الأعناق كما حملنا غرور وتعالي الذين من قبلهم منذ فجر الاستقلال لكن الناس لم ولن تفعل، الشارع الذي غيبوه في في ديسمبر الأولى ولم يشركوه حتي في الرأي غيبهم في ديسمبر الثانية، الشارع الذي كانوا ينظروا اليه كأيدي تصفق لهم مازال يصفق ولكن لأحلامه ولثورته وهو ماضٍ بثبات ووعي وبسالة الي مقاصده، الشارع الذي صممتم آذانكم عنه صرتم تستمعون اليه جيداً وبوضوح، الشارع الذي قطعتم عليه ثورته استعادها وقطع عليكم أي طريق للمساومات، هذه ليست شماتة هنا لكن الشارع قد تخطاكم وتجاوزكم ونأمل أن تلتحقوا به، هذه المرارات التي علمتنا حتماً ستعلمكم ونأمل كذلك أن تنتبهوا لتفهموا الدرس جيداً لصالح مستقبل مؤسساتكم الحزبية.

     قد اتسع فتقُ الأزمةِ على راتقيهِ، وراتقوه هم الحادبون على تغيير الواقع لاستيعابهم ومن ثم استبعاد خصومهم، مجموعات سياسية واجتماعية قد تبدوا متنازعة ومتصارعة، ولكنها صاحبة مصلحة في بقاء الأمر على ما هو عليه، لكي لا تتضرر مصالحهم السياسية والإقتصادية، فهو تنازع شكلي حول تركة يختلف حظ كل منهم بقربه وبعده عن السلطة.

أما الآن يمكن الانقلاب على البرهان و من معه في اي لحظة بدون اي تكلفة سياسية، لن يكون انقلاباً على الثورة و لا على أي وضع دستوري. يعني( قحت) برغم كل ضعفها، كانت توفر نوعاً من الحماية للبرهان و حميدتي و هما  فقدا هذه الحماية.

عن زيارة البرهان للأمارات ..

يبدو أن مشاورات حول حوار سوداني- سوداني، قد انطلقت الأيام الماضية، عطفاً على تصريحات عضو المجلس السيادي السوداني ياسر العطا، الذي كشف عن مشاورات جارية بشأن عقد حوار سودانى- سودانى، مؤكداً أنه أصبح ضرورة مُلحة من أجل الحفاظ على أمن واستقرار الدولة، حسب حوار أجرته معه (الشروق).

من الممكن أن تكون زيارة البرهان للإمارات متعلقة بمبادرات وتحركات إقليمية لإنهاء الأزمة السياسية في السودان، بحسب طبيعة الوفد المرافق له تشـــير إلى أن الزيارة ذات طابع أمني وسياسي والاقتصادي. تأتي زيارة البرهان إلى الإمارات عقب زيارة حميدتي لها الشهر الماضي، الذي يعتبر مؤشراً واضحاً لوجود مشاورات أو حوار من أجل طرح تســــوية لإنهاء الأزمة السياسية في البلاد.

أن فرص نجاح التسوية الإماراتية مرتبطة بمدى قدرتها على جمع الأطراف السودانية، وبتوفير ضمانات ودعم إقليمي للتسوية. معلوم  أن تحركات الإمارات مرتبطة بمصالح إسرائيل في المنطقة، كما معلوم ايضا أن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ومناصريه يمثلون المصالح الإسرائيلية. الإمارات هي الحاضنة للتوجهات الإسرائيلية في المنطقة، والبرهان والعناصر المناصرة له يمثلون المصالح الإسرائيلية، يبدو أن الخطوة الإماراتية المرتقبة تأتي بعد فشل نصائح وفود الموساد للعسكريين باستخدام العنف المفرط في مواجهة المتظاهرين؛ أي الأسلوب الذي تعتمده إسرائيلمع المقاومة الفلسطينية، ليخمد جذوتها ويندفع في سياسة قضم الأراضي. ومن المؤكد بــــعد اتساع وتنوع أساليب المقاومة للانقلاب، (استدعت) أبــــو ظبي البرهان لمشاورات واسعة يرجح أنها ستناقش تقديم تنازلات لحركة الشارع لجهة تضرر مصالح الإمارات الخاصة بعد تصاعد الرفض الشعبي للانقلاب.

في المقابل، الــــبرهان لن يوافق على تسوية تبعده عن السلطة دون ضمانات خروج آمن، وكذلك حميدتي، أن الإمارات حال قدمت الضمانات اللازمة لهما قد تجد آذاناً مصغية، ولكن بأقل من ذلك لا يمكن. أي مبادرة أخرى لتسوية في السودان ستواجه تحديات بخصوص بقاء البرهان وحــميدتي في المشهد، أو تقديم ضمانات كافية لـــخروجهما.

أن الأزمة المتمثلة في المواجهة اليومية بين الحكام العسكريين والمواطنين، والتي تخلف شهداء وجرحى، تشكل مصدر قلق للآخرين في الداخل والخارج لجهة التطورات التي يمكن أن تنتهي إليها تلك المواجهة غير المحسوبة،أحد أوجه الأزمة الراهنة يتمثل، من جهة، في عدم استطاعة المعارضة حتى الآن إسقاط الانقلاب، فيما تعجز سلطة الانقلاب عن إدارة البلاد وإيجاد حلول ناجزة لمشكلاتها الملحة من الجهة الأخرى، لذلك فإن من المتوقع أن تبادر العديد من الجهات ذات الصلة أو ذات المصلحة، من الداخل والخارج، لتقديم مبادرات ومشاريع حلول تتسق مع مصالحها.

ولا يتعلق الأمر بعودة حمدوك فقط، وإنما بالبرنامج الذي تتم في إطاره هذه العودة، وعما إذا كان مثل هذا البرنامج يلبي مطالب الشارع الملتهب وقواه السياسية. صحيح أن المجتمع الدولي وحلفاؤه الإقليميون، في المجالين العربي والإفريقي، والذي يشعر بالقلق إزاء عدم الاستقرار الذي يعيشه السودان، يرى في حمدوك أحد مفاتيح الحل لجهة تركيز المبادرات المطروحة على استعادة الوضع الدستوري السابق لانقلاب 25 أكتوبر الماضي، حالياً هنالك مستجدات تجعل مثل هذه العودة غير مرحب بها. هناك قوى جديدة هي لجان المقاومة، ولا بد أن يكون لها مكان ضمن إعادة ترتيبات المرحلة الانتقالية، وكذلك الأمر فيما يتصل بدور العسكريين وبالشراكة معهم، هنالك تبلور مطالب جديدة منذ 25 أكتوبر لم تعد استعادة المسار الانتقالي بقيادة حمدوك تكفي للوفاء بها. في ظل (الشعارات المتشددة) التي تسود الشارع، لا يتوقع نجاح المبادرة المطروحة من قبل الإمارات، ولا تلك التي يشتغل عليها المبعوث الأممي فولكر بيرتس، بالتفاهم مع الاتحاد الإفريقي، بسبب وجود هوة واسعة تفصل بين تلك المبادرات ومطالب قوى الثورة، بما فيها تحالف قوي الحرية والتغيير ولجان المقاومة، والتي ترفض حتى التفاوض مع قادة الانقلاب في إطار تلك المبادرات، مثلما ترفض الشراكة أو إضفاء شرعية على العسكريين.

واعتقد أن تشظي القوى السياسية وعدم إنجازها لوحدتها، وانشغالها بتناقضاتها ومعاركها الثانوية، يوفر مناخاً ملائماً لتقدم تلك المبادرات، والتي ستسعى، لأجل تحقيق أي قدر من النجاح، للاستثمار في خلافات القوى السياسية، ومحاولة كسب أطراف منها. مشيراً إلى أن عدم استيعاب التطلعات الجذرية للمواطنين سيبقي الشارع ملتهباً. نجاح أي مبادرة لا بّد أن يستند، ابتداء، إلى تصفية الانقلاب، وتسليم السلطة للمدنيين، ومساءلة الانقلابيين على تقويض النظام الدستوري وإغراق البلاد في (مستنقع دماء). وتمثل وحدة قوى الثورة في جبهة عريضة تتأسس على توافق على برنامج المرحلة وفق ترتيب جديد لأولويات مهام الانتقال ووثيقة دستورية، شرطاً لا غنى عنه لاستئناف المسار الديمقراطي بقيادة مدنية.

فكأني أسمع المنقلب يقول في قصره:

 أعمق الأزمة حتى تأتوني طائعين وتعينونني عليها، فإذا لم تأتوا ستقع على رؤوسكم من بعدي، وإذا مت ظمآنا فلا نزل القطر. هل يستحق هذا الشعب هذه العذابات؟.


mido34067@gmail.com

 

آراء