صراع العقل والبندقية في السودان (2)

 


 

 

 

إن قراءة الواقع و تناقضاته، و طرح أسئلة جديدة بهدف تغيير أنماط التفكير السائد، مسألة في غاية الأهمية، خاصة إن النخب السودانية، علي مختلف مشاربهم السياسية و مدارسهم الفكرية، باتوا أقرب لعقل البندقة منه إلي العقل المنتج للأفكار و المعرفة، لذلك ظل المشكل السوداني داء عضال أصاب المجتمع، و شل فيه القدرة علي الإبداع، و في المقال السابق كنت قد أكدت أن العقل السياسي الذي يدير الأزمات في السودان، إن كان في السلطة، أو في المعارضة، هو عقل خاضع لعقلية البندقية، الأمر الذي أفرز قضايا اجتماعية شائكة، هي قضايا الصراعات و النزاعات القبلية، التي تفجرت مثل مرض السرطان يصب الجسم و يعطل أجهزته، و تسبب في تعطيل التفكير العقلاني، و ساعد علي ثقافة العنف، في أن يكون السلاح هو الأداة التي تحسم قضايا الخلاف. إن ثقافة البندقية في السودان، ليست ثقافة جديدة، و لكنها برزت بقوة منذ أن جاءت الإنقاذ إلي السلطة، من خلال إعلان الجهاد، و تجنيد الشباب، و استخدام الأدوات الأيديولوجية من تعليم و أجهزة الإعلام، في نشر هذه الثقافة  الجهادية، و جعلها الأداة الوحيدة لحل مشاكل الصراع و النزاع علي السلطة، و خاصة ظهرت في مشكلة جنوب السودان. و إذا رحلنا تاريخيا، لمعرفة أسباب صعود عقل البندقية و تسيده علي الساحة السياسية، نجد قد فرض رؤيته لحل المشكلة السودانية، و لا نريد التعمق في بحور التاريخ القديم، و لنأخذ التاريخ المعاصر كبداية، نجد إن المهدية في بداية الدعوة، كانت نتاج لفكرة اشتغل عليها عقليا، حيث طرح محمد أحمد المهدي فكرة الصراع مع الحكم التركي القائم، بداية من تغيير في المفاهيم الدينية، و كانت الفكرة قوية حيث وجدت تأييدا شعبيا واسعا، من مختلف مناطق السودان، و جاءت الثورة المسلحة لكي تخدم الفكرة، فانتصرت الثورة، و لكن غاب العقل المفكر بموت الإمام المهدي، و توقف النشاط العقلي الخلاق، و غاب الفكر في قيادة الدولة، لذلك لم يحدث تقييم موضوعي للثورة بعد الانتصارات التي حققتها، و التفاف الناس حولها، و غياب العقل المفكر، كان لابد أن يملأ الفراغ الذي نتج عن هذا الغياب، فصعد عقل البندقية، الذي يعتمد علي العنف في تحقيق الأهداف، فالخليفة عبد الله التعايشي كان رجل دولة، و لكنه لم يكن مفكرا، فلم يجد غير الأدوات و المؤسسات القمعية التي تأسست بعد قيام الدولة المهدية، و سيطر عقل البندقية سيطرة كاملة، اعتمد خليفة المهدي علي الرجال الذين كانوا معروفين بالقوة و العنف في إدارة الدولة، لذلك لم تعمر الدولة المهدية، و تآكلت من داخلها، و شبت فيها الصراعات، قبل أن يأتي الغزو الثنائي الاستعماري، و لكن بقي من الدولة المهدية ثقافة العنف التي سادت في المجتمع. و إذا نظرنا لبعض التجارب العالمية، في الدول التي استطاعت أن تنهض بمجتمعاتها، و تصعد من القاع إلي القمة، و في التاريخ، تجربة الثورة الفرنسية ،التي سبقها إنتاج علم و أفكار غزيرة، كانت تنادي بالحرية و العدالة و الإصلاح، و نقد ممارسات الظلم في المجتمع، كان من أعلام التنوير مونتيسكيو و فولتير و جان جاك روسو، الذين بشروا الناس بالليبرالية، و هي الأفكار التي تبنتها الثورة الفرنسية، و حتى عندما أختلف المؤرخون في الأسباب التي أدت إلي الثورة، كان هناك الذين يعتقدون أن التنوير و الأفكار، هي التي أنتجت الثورة، و من يعتقد أن الظلم و الفقر و الاضطهاد، هو السبب الرئيسي للثورة، أيضا أكدوا إن الأفكار و التنوير هي التي هيأت المجتمع للثورة، مما يدل علي إن العقل، و النخب التي كانت تشتغل بالأفكار، هي التي خلقت التحولات العظيمة في مجتمعاتها.  و في تجربة الاتحاد السوفيتي، كان العقل هو سببا للثورة، و الثورة البلشفية عام 1917، هذه الثورة التي أقامت أول حكم ماركسي في التاريخ الإنساني، سبق قيامها أطروحات فكرية، و حوارات بين تيارات اليسار. و كان فلاديمير لينين الدور الكبير كعقل مفكر للثورة، كتب علم الاقتصاد السياسي و تاريخ حركة الفلاحين و العمال، و تطور الرأسمالية في روسيا، و أسس جريدة الاشتراكية اسكرا، إضافة لمساهماته الفكرية، التي كانت تنشر في جريدة برافدا، هذا المجهودات الفكرية، هي التي أدت إلي نجاح الثورة البلشفية، رغم إن الثورة البلشفية أسقطت قضية الديمقراطية، باعتبار إن الاعتقاد الذي كان سائدا عند الشيوعيين الروس، إن الديمقراطية نتاج المجتمع الرأسمالي، و كان نضالهم من أجل قيام ديكتاتورية البوليتاريا، و لكن العقل المفكر،هو الذي أسس دولة الاتحاد السوفيتي. و أيضا الثورة الصينية جاءت نتاج للعقل المفكر لماو سيتونج، الذي جاء بثورة البوليتاريا الثقافية عام 1966، حيث اعتقد ماو إن البرجوازية قد اخترقت الحزب الشيوعي الصيني، و نادي باجتثاثهم من الحزب من خلال ثورة يقوم بها الطلاب و الشباب، ضد القيادات الشيوعية ذات التوجهات البرجوازية، و كون الشباب و الطلاب الحرس الأحمر، الذي قام بكل الأعمال الدموية ضد ما أسماهم ماو البرجوازية، و تحولت الصين إلي مستنقع للدماء، و كانت الثورة الثقافية، تعني السيطرة علي كل الأدوات الأيديولوجية، من تعليم و صحافة و إعلام، بهدف تغيير المفاهيم و التوجهات في البناء الفوقي، الذي كانت تسيطر عليه البرجوازية، كل هذه التحولات كانت لإنتاج فكري و ثقافي، ثم تواصلت الأفكار بعد رحيل صانع الثورة في أن تحافظ الصين علي مجتمعها الشيوعي، علي أن تتبني سياسة التطور الاقتصادي الرأسمالي. و إذا رجعنا للسودان، نجد أن العقل المفكر، بدأ يبرز من جديد بعد الثورة المهدية، رغم إن ثقافة المهدية لم تمحي عن الذاكرة الجمعية، و خاصة في بعض مناطق السودان، التي لم تشهد تنمية، و لكن سياسة المستعمر في محاربة هذه الثقافة، جعلتها تتواري و لكنها لم تنتهي، فالمستعمر حرص علي تغيير العقل في المجتمع، من خلال فتح مدارس للتعليم الحديث, القائم علي التفكير، خلافا للتعليم في الخلاوي، القائم علي الحفظ، و من خلال التعليم الحديث، و تعليم اللغة الانجليزية، استطاعت النخب السودانية التي تخرجت من هذه المدارس، أنهم أطلعوا علي الثقافات الأخرى، و خاصة ما كانت تنتجه آلة الطباعة في انجلترا، و الإصدارات التي بدأت ترد إلي البلاد، ثم انتقال عدد من الطلاب السودانيين للدراسة في جمهورية مصر العربية، و رغم إن الدولة كانت تحت قبضة الاستعمار، لكنه كان يفرض هيبة الدولة، و دون محاباة لمجموعة دون الأخرى، الأمر الذي ساعد علي البناء المدنية الأكثر اتساعا من البناءات الأولية، و غابت القبلية و العشائرية بعض الوقت. هذه العوامل، التعليمية و الثقافية الجديدة، أحدثت تحولات في العقلية السودانية، و هي التي أسست مفهوم الوطنية، و خلق الوجدان المشترك، نتيجة للتطورات التي حدثت في الفنون و الآداب، و التي بدأت تنتشر في المجتمع، فكان لنادي الخرجين دورا كبيرا في تعميق هذه الثقافة العقلية، ثم مؤتمر الخريجين، و عندما تعقدت الحياة، و تقدمت المطالب، لكي تصبح صراعا مع المستعمر، بدأت تنشأ الأحزاب السياسية، كتطورات طبيعي لما حدث في المجتمع، و استجابة لمطالب النخب من أجل الحرية و الديمقراطية و الاستقلال، هذه التحولات أدت إلي تراجع عقل البندقية و العنف، و أصبح الحوار هو الوسيلة لحل المشاكل، و الوصول لتوافق وطني، قاد للاستقلال باتفاق جماعي. ظهرت البندقية مرة أخري عام 1955، عندما حاولت أن تفرض بعض النخب من جنوب السودان رؤيتها من خلال الكفاح المسلح، و معلوم إن البندقية و ثقافتها تجلب معها التدخلات الخارجية، و تعقد المشكلة و تعمقها، و تفرض شروطا للحل ليست في مصلحة البلاد، و بعد الاستقلال حدث انقلاب 17 نوفمبر الذي ذهب في اتجاه نخبة جنوب السودان، في أن يفرض حلوله من خلال البندقية، و جاءت الإنقاذ و استولت علي الدولة و مؤسساتها، و أصبح منطق القوة و شعارات البندقية تفرض نفسها علي الواقع، و في الجانب الأخر، كانت الحركة الشعبية أيضا قد فرضت سياسة البندقية، منذ أن صفي سلفاكير ميارديت قيادات الأنيانيا تنفيذا لقرارات للدكتور جون قرنق، فأصبحت البندقية هي اللغة السائدة. و الملاحظ إن العقول التي كانت تشتغل بالفكر، و هاجرت للحركة الشعبية، تنازلات طوعا عن عقليتها، و تبنت عقلية البندقية، لكي تتسق ثقافتها مع انتمائها الجديد، و كتاب الدكتور جون قرنق الذي حرره الدكتور الواثق كمير باسم " رؤية السودان الجديد" و الكتاب يحمل رؤية الدكتور الواثق أكثر ما يحمل رؤية الدكتور جون قرنق، و إذا كان الدكتور الواثق يكتب عن مبادرات، و طرحها داخل الحركة، ربما كانت قد خلقت حوارا داخليا،حول العديد من القضايا، و ربما كانت الرؤية تغيرت بعض الشيء، و الدكتور الواثق ابتعد عن مسار الحركة من قبل الانفصال، لأنه وجد إن غياب العقل المفكر يعد كارثة لقوي حاملة للسلاح، و لا تفكر إلا من خلاله، و هذا ما حدث في دولة جنوب السودان، حيث إن البندقية ألغت الفعل العقلي تماما، و أصبح السلاح هي اللغة المعروف لدي كل النخب الجنوبية. في الستينات، كانت هناك دعوة لعودة ثقافة البندقية، و كان قد طرحت داخل الحزب الشيوعي، حيث تأثرت بعض النخب بقيادة مختار عبيد بالثورة الثقافية التي حدثت في الصين، ما يسمي بثورة البوليتاريا الثقافية، ضد سيطرة البرجوازية علي الآليات التي تتحكم في البناء الفوقي للمجتمع، فطرح مختار عبيد و رفاقه أن يتبني الحزب الشيوعي طريق بكين في الثورة، و رفضت قيادة الحزب الشيوعي هذه الدعوة، لأنها كانت مدركة إن تبني عقلية البندقية تعني خيانة للعقل و الفكر، فخرجت المجموعة من الحزب. و القضية الأخرى، التي أرقت عقل البندقية، ظهور الحزب الجمهوري علي الساحة السياسية، من خلال أطروحات فكرية إسلامية، تهدف لمراجعة الفكر الإسلامي السائد، و جعل العقل أداة للتنقيب و البحث، و مراجعة للتراث الإسلامي، و قدم أطروحة جديدة، و تبني الحزب الجمهوري العقل أداة للتواصل و الإقناع، الأمر الذي أثار عليه المجموعات التي لها خصومة مع الإنتاج الفكري، و تريد أن تتحكم علي الآخرين، من خلال وسائل العنف و القمع، و لا تتردد في استخدام مؤسسات الدولة في ذلك، و أسكت صوت محمود محمد طه باستخدام أدوات الدولة، و أهم مؤسساتها الجهاز القضائي في عملية القمع، و هي انتكاسة، حقيقة و تراجع للعقل السوداني، الذي استطاع إن يفرض ذاته و التحول المدني، و لكن تناقضات الثقافة أحدثت إشكالية في إجهاضه. أنظر لثقافة البندقية، في الوقت الذي يخرج جهاز الأمن دفعة جديدة من قوات الانتشار السريع، و يقيم احتفالا بهذه المناسبة، و يتوعد فيها مدير جهاز الأمن و المخابرات، قوي التمرد، و إنهاء التمرد في كل من دارفور و جنوب كردفان و النيل الأزرق، و يؤكد إن قوات الانتشار السريع سوف تحسم كل من يتطاول علي الدولة و يزعزع أمنها، في ذات الوقت يتحدث الرئيس عن حوار و طني و جمع الصف، و يعطي الأمان لقيادات التمرد بالحضور للمشاركة في الحوار الوطني، هكذا ثقافة البندقية ثقافة متناقضة، تحاول أن تلوح بالقوة و تفرض شروطها. و نسال الله البصر و البصيرة. ملاحظة سؤال في غاية الأهمية طرحه الدكتور غازي صلاح الدين، كيف يستطيع المفكرون و المثقفون في المستقبل حماية النظام المدني دون البندقية؟ سوف نجاوب عليه في الحلقة القادمة، وع التقدير و الشكر.

و الشكر لكل الذين تواصلوا معي علي البريد الالكتروني، عن الموضوع و الذين أرسلوا انطباعاتهم، و الشكر أيضا للذين اختلفوا معي في الرأي، هذا حقهم الطبيعي، و مني كل الاحترام و التقدير لرؤاهم، أما الذين لم يجدوا في كشكولهم غير الإساءة و التجريح، و الشتيمة، لهم أيضا العفو و المغفرة، لا لوم عليهم، إن الإنسان لا يقدم إلا ما يملك، و لكل القراء التقدير و التحية. 

zainsalih@hotmail.com

 

آراء