كيف لا
منى عبد الفتاح
والصفر هذا أصبح أحد معالم سوداننا الحبيب مثله مثل ثوابت كونية أخرى كالأخدود الأفريقي العظيم وسور الصين العظيم ، بيد أن معلمنا ليس كمثله من المعالم والعجائب إيجابية المنحى. منذ أكتوبر العام الماضي وبيتر أدوك وزير التعليم العالي يبث خوفه على التعليم العالي من التدهور المريع الذي لحق به ،والأسباب هي عوامل مثل التوسع الأفقي في التعليم العالي دون العناية بالبنية التحتية والأستاذ الجامعي المؤهل والبيئة التعليمية الصحيحة وإنشاء جامعات لأغراض غير العملية التعليمية يعرفها من هم دون بيتر أدوك منزلة علمية واختصاصاً. حتى في المجتمعات الأشد تخلفاً الضالعة في الأمية من الممكن حدوث هلع كهذا يستوجب بعدها تكريس الدورات وورش العمل للنظر فيما يمكن أن يتم بخصوص قضية حيوية كقضية التعليم لنفخ الروح فيها و إنهاضها سيرتها الأولى، أما في السودان فنكتفي بتكريس الشعارات تلو الشعارات. المنطق المقلوب يجعل في السودان أكثر من ثلاثين جامعة وخريجيها دون المستوى المطلوب من حيث الأهلية مما يفيد بأخطر كارثة إنسانية لا تقل عن كوارث الحروب فتكاً بالعقول والأجساد ، فالخريج بشهادته الشائهة التي لم تكتمل أركان جودتها وحصيلتها العلمية ، أقل ما يمكن أن تفعله به بعد حفل التخرج هو أنه سوف تتشكل لديه هموم عدم الثقة بالنفس وعدم الأمان الوظيفي. كل ذلك يلقي بظلاله على مسألة بناء الإنسان السوداني ، ويبرز أن هناك ثمة حاجة ماسة للتوازر الروحي لكي يبرز الضمير ثانية من تحت ركام الأمية وهزال التعليم في بيئة جعلت التعليم بالتقسيط والشهادة بالإيجار وإقصاء الآخر سبيلاً لها. قياس تحصيل الشهادة العليا يشكل تداخلاً متشابكاً في عقلية الشباب مع عقلية أولي الأمر وبهذا التشابك نجد أن التناقض في امتعاض الشباب من شهادة منقوصة وتهريج إدارات الجامعات ومالكيها يتماهى علناً وهو يسمم نواميس المستقبل العملي للشباب ويعيده إلى عالم الغيب الذي يتوقع أن ينتج طبيباً ميكانيكياً ، أو مهندساً بائعاً للخضر على عربة كارو ، أو خريج اقتصاد حلاقاً . وبهذا تكون ثورة التعليم العليا وقوانينها نجحت في أن تجعل من الغيب نفسه أحجية لديمومة الحال البائس هذا وتدميراً يحمل الشكل المضاد لنواميس الحياة ، بمعنى أن شهادة الخريج تملك لغة دالة على يأسه وإحباطه وقلة حيلته. بيتر أدوك يعلنها وهو لا يخشى من خطاب منتقدي ملاحظاته على حال التعليم العالي ، وخوفنا نحن من أن يصبح هذا الخطاب قدراً ومشيئة تتحدث عن إنجازات ثورة التعليم وتكابر بينما الكل متفق على أن هناك تدهور مريع طال التعليم العالي منذ عشرين عاماً مضت .وتناول هذه القضية من منظور عام أتبعه كثير من الكتاب والمحللين وذوي الشأن بالعرض والتشخيص والتحليل ،إلا أن طرح بيتر أدوك القديم الجديد قوبل بكثير من العداء الذي يرتد إلى تصنيف قائله سياسياً وطائفياً أو إلى عمليات التباس ناتجة عن سيطرة نزعة ما ، مع أن “أدوك” لم يأتِ بغريب القول وإنما هي الحقيقة الكاملة التي تشهد مطابقة الأذهان لما في الأعيان أو موافقة العقل للأشياء . أزمة التعليم العالي وتدهوره حين يكابر فيها عامة الناس فتلك طامة كبرى وحين تتجاوزهم لتصل إلى قناعات النخبة والمثقفين والمتخصصين فذلك دليل على وقوعها. عن صحيفة ” الاحداث”