صلح كرنثيا: بعض مسك الختام
سجل شعبنا سطوراً أخرى من نور فجر امس بتوقيع ممثليه وممثلي المجلس العسكري (الزئبقي) علي وثيقة الاتفاق السياسي، وتدفقت جماهيرنا جزلى في طرقات المدن والقرى؛ فهذا شعب عبقري فنان متابع ومواكب ومتفاعل ومقيم ليله كله، ولا يتزحزح قيد أنملة ولا يترجل عن قطار النضال حتى "يلقى مراده والفي نيته". ياله من شعب متفرد! ويالها من ثورة أيقونة لا شبيه لها في تاريخ البشرية! ولا شك أنها قد أصبحت سابقة سوف تسترشد بها الشعوب المغلوبة على أمرها بالمنطقة طال الزمن أم قصر. وعلى الرغم من أن الوقت لم يحن لدراسة وتحليل مسيرة هذه الثورة بالتفصيل، إلا أننا نستطيع أن نمر مرور الكرام على بعض الدروس المستفادة:-
• المقاومة السلمية هي السلاح الأشد مضاءً وكفاءةً وجدوى، منطلقة من إرث البشرية الطارف والتليد، مثل النجاحات التى حققها المؤتمر الهندي في شبه القارة بقيادة المهاتما غاندي وجواهر لال نهرو وأبو الكلام أزاد في أربعينات القرن العشرين بانتزاعهم لاستقلال بلادهم عام 1947 من الإمبراطورية البريطانية التى كانت لا تغيب عنها الشمس؛ ونجاحات ثورة السود في الولايات المتحدة في الستينات بقيادة الفيلسوف مارتن لوثر كنج جونيار؛ ونجاح حزب المؤتمر الإفريقي بقيادة نلسون مانديلا الذي فكك دولة الفصل العنصري الفاشستية البيضاء وأودعها مزبلة التاريخ. والسلمية هي سلاح الشعوب المستضعفة والمتمردة بالسواعد وأغصان النيم والحناجر فقط، في كتل بشرية موحدة ومتناغمة ومدوزنة؛ أو كما قال أبو الطيب: (لا خيل عندك تعطيها ولا مال......فليسعد النطق إن لم يسعد الحال!).
• وكذلك، فإن "سلمية سلمية" كانت أكثر فعالية من المقاومة الكلاشنكوفية التى اضطلعت بها الحركات الحاملة للسلاح منذ عام 2003، والتى لا أرضاً قطعت ولا ظهراً أبقت، وعادت بخفي حنين. أما ثورة الشباب السلمية بالعاصمة والحواضر فقد واجهت الرصاص بصدور مفتوحة وثبات غضنفري، وحققت الإنتصار في بضع شهور، وما فت في عضدها الضرب بالذخيرة الحية وسقوط مئات من شهدائها النواضر. ومن سخرية التاريخ أنهم واجهوا نفس العدو – الجنجويد - الذين فتكوا بأهل تلك الحركات وهجّروهم من ديارهم وأحالوهم إلى مجرد لاجئين ومشردين أو غرقي في البحر المتوسط - لعقدين من الزمان: (تباهي حميدتي بأنه في بضع ساعات أخلى كتم ومليط وأخريات غيرها من قاطنيها، مهدداً سكان الخرطوم بأنه سيطردهم من عماراتهم ويحيلها إلى سكن للقطط فقط)؛ ومن سخريات القدر أيضاً أن هذه العصابة الجنجويدية التى استعان بها نظام البشير لإبادة قبائل الزرقة الدارفورية، ثم استجلبها للخرطوم للقيام بتأمين نظامه ضد جيشه نفسه، كما فعل القذافي وصدام حسين، حدثت لها عملية تحوير metamorphosis وأصبحت هي ذاتها جيشاً عرمرماً ذا شوكة وموارد مادية خرافية ورتب عسكرية صدورها مرصعة بالنياشين؛ ووضعت القوات المسلحة تحت إبطها، ثم انقلبت على ولي نعمتها الدكتاتور البشير وطردته، وأصبحت هي الآمر الناهي وصاحبة القدح المعلّي، والمتفاوض والموقع بإسم الجيش مع قوى الحرية والتغيير. يالمكر التاريخ، ويا لمفاجآت وتقلبات السياسية السودانية الميلودرامية!
• ومع ذلك، خاب فأل حميدتي وجنجويده في الخرطوم؛ فلقد أراد أن يتسلل لحكم البلاد من موقعه كنائب لرئيس المجلس العسكري، من واقع الوضع الذي أورثه إياه الطاغية البائد، وبفضل إمكانياته المادية الخرافية، فأخذ يستقوى ببقايا الإدارة الأهلية وأساطين الشعوذة والدجل (مثل المدعو ودعة)، وتجمعات بروليتاريا الريف الرثة المستجلبة للمناسبات الخطابية المفتعلة، ويستقوى ببعض أطراف المعارضة الطائفية الرجعية المهزوزة القابلة للرشوة ولشق الصف وخيانة العهد وقلب ظهر المجن لرفاق الخندق الواحد؛ بيد أن السلطة التى وفرها الوجود بالمجلس العسكري والقوة العسكرية (أربعون ألف جندي جنجويدي بلبس خمسة ومسلح بالعاصمة المثلثة) والشوكة المالية، والصحافة الصفراء الموالية الموروثة من النظام البائد، والمستشارون الذين تكاثروا حوله كالنبت الشيطاني، وأجهزة الإعلام المهترئة التى واصلت دورها في ممالأة النظام الحاكم وحرق البخور لرموزه....كل ذلك لم يُجْدِ حميدتي فتيلاً، ولم يزده لدى شعب السودان إلا وبالاً ومقتاً ورغبة في التخلص منه.
• لقد تعاطف العالم كله مع الثورة السلمية السودانية، ما عدا الجهلاء وبقايا القرون الوسطي والذين ينظرون "للزولات" بدونية لاعتبارات لونية، والخاضعين لأجهزة مخابراتهم التى لا تبصر أبعد من أرنبة الأنف؛ وهذا التعاطف من القوى الحية بالعالم شكل ضغطاً مستمراً على المجلس العسكري، مشفوعاً بترغيب ملفت للنظر، مثل إعفاء السودان من ديونه الخارجية، ودعم جهوده التنموية في حالة سيادة الحكم المدني الديمقراطي. ولقد وضعت هذه الثورة بلادنا على المكان اللائق بها في خريطة العالم، وأصبحت نشرات الأخبار تتغشاها والفضائيات مشغولة بها، وصارت بنداً متواتراً بمجلسي الكنقرس الأمريكي وبالبرلمان البريطاني والأسترالي، وهلمجراً؛ وكل ذلك عبارة عن رصيد من المشاعر الإيجابية الذي سوف يتحول إلى صداقات راسخة مع الشعوب الراقية المحبة للسلام، وإلى مصالح مشتركة سوف تأخذ بيد السودان صوب التقدم الإقتصادي والتحول الإجتماعي.
على كل حال، لا يحق لنا أن نفرح تماماً بإنجاز اليوم، فما زال أمام الثوار مسودة الدستور الإنتقالي الذى سيحدد صلاحيات مجلس السيادة، والفواصل بينه وبين مجلس الوزراء، وما هي الجهة التى سوف تضطلع بالتشريع حتى قيام المجلس المعني بذلك خلال ثلاثة أشهر، إلخ. ويبدو أن هنالك مماحكات متوقعة يوم الخميس والجمعة، وربما تتواصل الاجتماعات لأطول من ذلك؛ وبصراحة، طالما ظل المطلب الأساس هو مدنية الحكم، فإن الذين يراهنون على استمرار المجلس العسكري تنفيذاً وتشريعاً إلى نهاية الفترة الإنتقالية لن يرضوا بغير ذلك، وسوف يستمرون في إيغار الصدور وتحريض البرهان وحميدتي اللذين يناوران ويكثران من الحران ومن الحديث عن تسليم السلطة فقط لجهة منتخبة؛ وذلك يعني التعجيل بالانتخابات؛ والانتخابات المكلفتة تعني عودة المؤتمر الوطني للحكم - فهو المتمدد ولابد في الدولة العميقة، وهو الممسك بفواصل الإقتصاد إلى حين إشعار آخر، وهو الخبير في تزوير الانتخابات واللف والدوران والرشي والفت في عضد القوى المعارضة,
ومن المؤكد أن مدنية الدولة وتنظيفها من سطوة الكوادر الكيزانية وتصفية جهاز الأمن وحل المليشيات أو استيعابها في القوات المسلحة...... لن تتم إذا تركنا تعيين وزيري الدفاع والداخلية للمجلس العسكري؛ ولن تتم إذا تحلي مجلس السيادة بأي نوع من الفيتو على قرارات مجلس الوزراء. هذه مشكلات مستعصية وعقبات كأداء، وسوف تتوقف لديها المفاوضات لأيام وربما أسابيع كثيرة. وفي هذه الأثناء، سيبلغ التدهور الإقتصادي حضيض الحضيض، وتتعطل الحياة، ويتعسر الموسم الزراعي؛ والقوى الرجعية المتربصة لن تدخر وسيلة للإنقضاض علي الثورة والغدر والضرب تحت الحزام، كما فعلوا في التاسع والعشرين من رمضان؛ فلقد حدث ما حدث في تلك المذبحة منذ نيف وأربعين يوماً ولم يقدم شخص واحد للمحاكمة، وكلام حميدتي صباح اليوم "للحدث" مطابق لما قاله من قبل عن حادثة 8 رمضان – (هنالك متهمون رهن الإعتقال)، بينما هم رجال خفيون invisible men لم يظهروا في الصحف أو علي شاشات التلفاز، ولم يرهم أحد رؤية العين.
هنالك أسباب عديدة تدعو للتشكك في المجلس العسكري الراهن وتبعث على عدم الإطمئنان له؛ ولكن الجمعة قاب قوسين أو أدني، فدعنا (نوصل الكضاب حدوده)، أي دعنا نفسح مجالا لحسن النية والحلم بأمل النصر، ولن نخسر شيئاً بالصبر. ولكن، أرجو أن يتأكد القريب والبعيد أن شعب السودان الثائر المزمجر بشوارعه لن يرض بغير الحكم المدني الديمقراطي كامل الدسم، أبي من أبي ورضي من رضي، وهو واثق ويعرف قدر نفسه، وليس هنالك من يملأ عينه من بني البشر، أو كما قال المتنبي: (واقفاً تحت أخمصي قدر نفسي..............................واقفاً تحت أخمصي الأنام!).
النصر معقود لواؤه بأهل السودان!
حرية سلام وعدالة، والثورة خيار الشعب!
fdil.abbas@gmail.com