كتب. د. محمد عبد الحميد استاذ مادة الحد من مخاطر الكوارث بالجامعات السودانية
wadrajab222@gmail.com
تفاجأ المهتمون والمتابعون للشأن الإنساني في السودان بقرار طرد موظفين أمميين بارزين من برنامج الأغذية العالمي (WFP)، في خطوةٍ أثارت تساؤلاتٍ عديدة حول خلفياتها ودوافعها. وقد اكتفت وزارة الخارجية بإعلان القرار دون أن تُبدي أية إشارة إلى أسبابه.
فبفرضية أن لهذا القرار مبرراتٌ أمنية أو سيادية Legitimate concerns، فإن طريقة تنفيذه (الإعلان دون إيضاح، والتوقيت الحساس) تحوله من دفاعٍ عن السيادة إلى خصمٍ منها. فلو أن الوزارة أوضحت أسبابها، لانتقل النقاش من دائرة التكهنات إلى دائرة المحاسبة على أساس المعطيات. أما هذا الغموض فيحمِلُ كثيرين على الاعتقاد بأن وراء القرار خلافاتٍ ذات طابعٍ انفعالي نزق ميز أداء الإسلاميين طوال عهد الانقاذ مع المجتمع الدولي لاسيما في المجال الإنساني. ذلك النزق الذي فاقم معاناة المتأثرين بالكوارث في شتى المناحي خاصة في الحماية وتقديم العون.
ومما يزيد الموقف تعقيداً أن القرار جاء في وقتٍ بالغ الحساسية، بعد أن أحكمت قوات الدعم السريع سيطرتها على شمال دارفور بسقوط الفاشر. فبهذا التطور الميداني، باتت الأمم المتحدة — عملياً — أمام سلطة أمرٍ واقعٍ تفرض وجودها على نطاق واسع من السودان. ومع تصاعد الخلاف بين الحكومة وبرنامج الغذاء العالمي، قد تجد الوكالات الأممية نفسها مضطرة للتعامل المباشر مع قوات الدعم السريع لتأمين مرور المساعدات، الأمر الذي سيكسب تلك القوات قدراً من الشرعية الميدانية تمهّد، بمرور الوقت، لشرعيةٍ سياسيةٍ أو قانونية. وبذلك يصبح القرار بطرد موظفي البرنامج — بدلا من أن يكون دفاعا عن السيادة — خصما من رصيدها، لأنه يضعف قدرة الدولة على الإمساك بملف المساعدات الإنسانية، ويمنح منافسها العسكري منفذاً للتقارب مع المجتمع الدولي هو في مسيس الحاجة إليه.
على عموم الأمر، عند تقييم القرار، لا بد من موازنة كفتي المكاسب والخسائر. فما الذي قد تكسبه الدولة من ورائه؟ ربما يكون الهدف إرضاء الشعور النزق عبر خطاب سيادي صارم، أو تأكيد الرفض الرمزي لأي تدخل يُعتبر مساً ب “السيادة”. ولكن هذه المكاسب ظاهرية وقصيرة الأجل.
أما الخسائر، فهي حقيقية وبعيدة المدى تتمثل في :-
· تأخير وصول المساعدات الإنسانية إلى ملايين الجياع.
· تآكل الثقة الدولية بالسودان كشريكٍ مسؤول.
· تقوية يد المنافس العسكري في الساحة الدولية.
· إضعاف الموقف التفاوضي للسودان في كل المحافل.
· الإضرار بسمعة السودان الإنسانية، ما قد يحد من استجابات المانحين في المستقبل.
وبمقارنة بسيطة، يتبين أن الخسائر تفوق المكاسب بأشواط، مما يؤكد أن القرار، حتى من منظور المصلحة الضيقة، “غير ناجع”. والأمر الأكثر إيلاماً أن هذين الموظفين المطرودين سيواصلان عملهما بكل سلاسة من أي محطة أخرى في شبكة الأمم المتحدة الواسعة. فسجلهما المهني وتأثيرهما لا يحدهما قرارٌ محلي نزق، طالما كان سجل اداؤهما مهني وفق معايير الأمم المتحدة التي تخضع موظفيها للتقييم الدوري.
ومن الناحية العملية، فإن القرار يتجاهل حقيقة أن برنامج الغذاء العالمي (WFP) لا يقدم الطعام فحسب، بل يُعدّ وفق نظام المنهج العنقودي (Cluster Approach) المنظمة القائدة والمنسق لقطاعين حيويين في الاستجابة الإنسانية هما:
- الإمداد اللوجستي الذي تعتمد عليه كل وكالات الإغاثة في نقل المساعدات عبر البلاد.
- الاتصالات في الطوارئ التي تتيح التنسيق الميداني وتبادل المعلومات بين الفرق العاملة.
كما يقدّم البرنامج تقارير دورية لمجلس الأمن عن الحالة الغذائية والأمن الغذائي في السودان، ما يجعله ليس مجرد جهة تنفيذية بل حلقة وصلٍ استراتيجية بين الميدان والمجتمع الدولي. وفي بلدٍ لا يستطيع تأمين قوت جوعاه، فإن الدخول في مواجهة مع مثل هذه الوكالة الأممية ليس من الحصافة في شيء، بل يفاقم عزلة السودان الإنسانية ويضعف موقفه التفاوضي مع المجتمع الدولي.
مهما يكن من شئ، كان الأجدر بوزارة الخارجية أن تُوضح للرأي العام مبرراتها المعلنة لإعلان الموظفين الأمميين «أشخاصًا غير مرغوب فيهم persona non grata ». فمثل هذا القرار لا يُقاس بجرأته الشكلية، ولا بمدى ما يستجيب لدعاوى السيادة الفجة، وإنما بمدى انسجامه مع المصلحة الوطنية والالتزام بالمعايير الدولية. إنّ الشفافية في هذه الحالة تُعد ترفا إداريا، بل واجبا سياسيا وأخلاقيا تجاه المتأثرين والمجتمع الدولي على السواء. فالمتابعون للشأن الإنساني في السودان لا يطالبون بمعرفة التفاصيل بدافع الفضول، وإنما لتقييم أداء الحكومة في إدارة ملف المساعدات الإنسانية، وهي بالمناسبة تعتمد على معايير صارمة تلزم المانحين والمستفيدين والحكومات المستضيفة وقياس مدى حصافتها الدبلوماسية وقدرتها على التصرّف بميزان العقل لا بردّات الفعل. والمفارقة المؤلمة أن رئيس الحكومة نفسه كان موظفاً أممياً رفيع المستوى، ما يجعل استمرار نهج العنتريات في التعامل مع المنظمات الأممية — من قبيل «الجنائية تحت جزمتي» — أمراً يبعث على القلق، ويشي بأنّ الدولة لم تتعلّم بعد كيف تمارس سيادتها بنجاعةٍ لا بمجرد صخبٍ لفظي.
إنّ السيادة في محيط التفاعل الدولي لو كان سياسبا او إنسانياً لا تُختبر في الشعارات، أو الصخب اللاهب وصببه على موظفين أمميين، وإنما في قدرة الدولة على الموازنة بين حفظ الكرامة الوطنية وصون الحياة الإنسانية. ففي بلدٍ يرزح تحت حربٍ ممتدة ومجاعةٍ تطرق الأبواب، تصبح السيادة الحقيقية مرهونة بالنجاعة لا بالمكايدة؛ بالقدرة على إدارة العلاقات الخارجية بمرونةٍ تحفظ المصلحة العامة، لا بالتصعيد الذي يعمّق عزلة السودان ويضعف قدرته على الوصول إلى من يحتاج المساعدة.
يبدو أن المعادلة التي يطرحها هذا الموقف تحتاج إلى إعادة نظر من صناع القرار: فهل نفضل سيادة هشة قوامها القرارات الانفعالية والصخب اللفظي، أم سيادة حقيقية تثبت وجودها بقدرة الدولة على إدارة الأزمة، وحفظ مصالح شعبها، والتفاوض بذكاء يحفظ الكرامة ويضمن الغذاء؟ السؤال، في ظل المعطيات الراهنة، ليس عن إجابة نظرية، بل عن مسؤولية تاريخية أمام شعب يدفع الثمن. إنّ طرد موظفي برنامج الأغذية العالمي في هذا التوقيت لا يمكن التصفيق له لأنه ليس موقفا سياديا بقدر ما هو مؤشر على ارتباك في فهم السيادة ذاتها — إذ تختزلها السلطة في قرارٍ انفعالي بينما جوهرها يكمن في حسن التقدير، والتمييز بين العدوّ والخصم، وبين من يطعم الجائع ومن يستثمر في جوعه. ففي النهاية، تبقى السيادة بين المجاعة والنجاعة معادلةً دقيقةً لا يحتمل الخطأ فيها سوى مزيدٍ من الضياع الإنساني والسياسي معاً.
د. محمد عبد الحميد
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم