عبد الخالق محجوب: ويولد الانقلابي من الثوري (4-6)

 


 

 


أنشر هنا ورقة علمية تحاول التأسيس لعلم سياسي حول الانقلاب والحزب الشيوعي. وأريدها أن تخرج بنا من رحاب يومية التحري من نوع من قام بالانقلاب وهل عبد الخالق عارف إلخ إلى رحاب التاريخ بالنظر إلى فعل الشخص في سياق إرادات أخرى قد لا تطابق صحيح معتقده. وسترى في الورقة أن الحزب الشيوعي في آخر الستينات وأوئل السبعينات كان حزبان، بروليتاريا يدعو للتغيير الثوري عبر البرلمانية وآخر برجوازي صغير مفتون بتجارب النظم التقدمية والأفريقية يريد التغيير المعجل بالانقلاب وصوب ديمقراطية جديدة "نميرية". ومن هذا الحزب المتشاكس خرج الانقلابي من الثوري. فإلى هذا الجزء من الورقة
شهدت الفترة التي اعقبت انعقاد المؤتمر الرابع للحزب عام 1967م نشر كتابات عبد الخالق التي استردت للحزب موقفه التقليدي عن تلازم التغيير الاجتماعي والحقوق الليبرالية. ونضجت هذه الكتابات فوق نار صراعه ضد أفكار البرجوازية الصغيرة وممارساتها داخل وخارج الحزب، بل و"ظل" تلك الأفكار والممارسات كما كان يستحب هو القول. ولكن مع ذلك ساوره لوقت متأخر من عام 1968م طائف ريب في الديمقراطية من جهة نفعها للنضال الثوري في المدي الطويل. فقد ورد في كتابه " قضايا ما بعد المؤتمر الرابع 1968" حديث عن نقص الأسس المادية والثقافية لتوطد الديمقراطية البرجوازية في البلاد كما سنرى.

بعد المؤتمر الرابع: عودة الوعي

ومكّن للحزب من تلمس طريقه عائداً للعقيدة البرلمانية أنه لم يذهب في نفوره من الديمقراطية في تقرير مؤتمره الرابع إلى القطيعة النهائية معها. فتبقت له ثقة فيها بالنظر إلى عقيدته الأخرى الراسخة وهي أن الجماهير هي موئل التغيير. واستثارت هذه العقيدة فيه عناصر في الحزب قصرت التغيير على العمل المسلح المستقل أو بالجيش بعد أن سدت البرلمانية المتوحشة التي عانوا منها كل الطرق إلى الخلاص. فحمل تقرير المؤتمر الرابع، حتى في لجة تبخيسه للبرلمانية، على هذه الجماعة التي بلغ بها اليأس من العمل الجماهيري بعد الردة عن ثورة أكتوبر مبلغاً ألجأهم لطلب الخلاص في صورة من صور العمل العسكري. وهكذا فليس الذي أعاد الحزب إلى صوابه البرلماني رجاء عظيم من البرلمانية بله خشيته، متى انتصر هذا الخط العسكري العنيف، أن تتقطّع به الأسباب إلى الجماهير وتتسيد النخب. ولا يكون العمل بين الجماهير ولها إلا في البرلمانية كمناخ مثالي مجرب. وهذا ما جعل الحزب يسترد تفاؤله بالبرلمانية مما سيتعزز في اجتماع لجنته المركزية في 1968 و1969.
واستعاد الحزب تفاؤله بالديمقراطية البرجوازية كحامل لا غنى عنه للتغيير لاجتماعي بسبب تطورين هامين.
1-أسفر في اجتماع اللجنة المركزية في مارس 1968 صراع في الحزب بين الجماعة التي سماها تقرير المؤتمر الرابع "اليائسين والمغامرين" وبين الحزب حول صواب تكتيكاته. وهو الاجتماع الذي طرح فيه أعضاء باللجنة المركزية تكتيك العمل الانقلابي بديلاً عن النضال المدني. وكان أحمد سليمان، عضو اللجنة المركزية بالحزب وصديق عبد الخالق منذ عهد الطلب في القاهرة في آخر الأربعينات، سبق وعبر عن هذا الرأي في صحيفة "الأيام" ورد عليه في العلن عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب [1]. فقد دعا أحمد سليمان لإعادة السيناريو السياسي الذي تحققت به ثورة أكتوبر التي غلبت قيادة اليسار لها [2]. وكان من رأيه تشكيل حكومة وحدة وطنية على غرار تلك التي تمخضت عنها الثورة قوامها الأحزاب السياسية والنقابات واتحادات المهنيين تحظى، لكي تبقى، إلى حماية القوات المسلحة. وفي معرض رده أشار عبد الخالق إلى خطأ رفيقة في النظر إلى القوات المسلحة، المدعوة لحماية حكومة الوحدة الوطنية، كقوة متجانسة منسجمة وفوق الصراع الطبقي.
لم يُفَاجئ عبد الخالق بمشروع أحمد سليمان وجماعتة الذين أردوا استعادة ثورة اكتوبر بعد نكستها بعمل عسكري انقلابي، أي أنهم استبدلوا العمل الجماهيري الصبور بالمسارعة إلى نظام تقدمي عن طريق الانقلاب. فسبق لتقرير المؤتمر الرابع، الذي تراجع كثيراً عن الديمقراطية الليبرالية كما رأينا، التحذير من مغبة هذا اليأس من الجماهير المؤمنة بحقوقها الليبرالية. وجرى وصف حَملة فكرة الانقلاب العسكري في التقرير ب "اليائسين والمغامرين". فقال إنهم فقدوا الثقة في العمل الجماهيري الشعبي وغرقوا في لجة اليأس والاحباط واللامبالاة تحت وطأة انتكاسة ثورة اكتوبر 1964م. فهم مغامرون لقولهم ببطلان العمل السياسي المدني داعين إلى اللجوء لصورة أو أخرى من صور العمل المسلح.
2-استرد الحزب ثقته في الديمقراطية الليبرالية بقوة في اجتماع لجنته المركزية في مارس 1969. واستجد في أمره آنذاك أنه فرق بوضوح سياسي شديد بين تكتيكاته الجماهيرية من فوق الحقوق الديمقراطية البرجوازية وبين تكتيك الانقلاب العسكري الذي نسبه للبرجوازية الصغيرة.
للحزب كراهة فطرية، لو شئت، في الانقلابات العسكرية خاصة بعد تجربته خلال ست سنوات من حكم الفريق عبود حببت إليه النظام الديمقراطي كما رأينا. ولكن كرهه للانقلاب في فترة ما بعد مؤتمره الرابع (1967) ارتبط لأول مرة بنظرته وبقوة لقاعدة الانقلاب العسكري الاجتماعية في المجتمع. وهي عنده البرجوازية الصغيرة التي ترهن خلاص البلاد بسلطتها التي تأتيها على فوهة بندقية. وبدا لعبد الخالق أن البرجوازية الصغيرة، التي وصفها بالمغامرة واليأس في المؤتمر الرابع، قد استجمعت قواها في اجتماع اللجنة المركزية في مارس 1968. وجاءت بخيالها الانقلابي وحيله إلى صحن الحزب البروليتاري. فصب جام نقده في تقريره الموسوم " قضايا ما بعد المؤتمر الرابع" عليها لاستصعابها النضال لاستعادة الحقوق الديمقراطية البرجوازية في وجه البرلمان المتوحش وقواه المصممة على استئصال شأفة الشيوعية. ووجدت هذه الفئة إلهامها في النظم التقدمية العربية والأفريقية التي استغنت عن تلك الحقوق وارتكبت طريق الديمقراطية الجديدة أو الموجهة التي تغمط القوى الرجعية حقوقها السياسية. ولم تقصر هذا الغمط في الواقع على الرجعيين بل على سائر الناس كما شهدنا. فشدد الحزب في التقرير على أنه لا غنى عن الحقوق الليبرالية في سبيل تعزيز مواقع الجماهير وإعلاء دورها. ونعى على جماعة "اليائسين والمغامرين" الهروب إلى الأمام من وعثاء النضال من أجل الحقوق الليبرالية. فالقوى المغامرة اليائسة من البرجوازية الصغيرة في نظره ترى أن النضال من أجل الحقوق الديمقراطية البرجوازية لا يقود إلى شيء وأن الطريق هو الدعوة من فوق رأس البيوت للديمقراطية الجديدة وحدها [3].
ومع ذلك لم يخل تقرير 1968 من شكوك في الديمقراطية الليبرالية ساورت الحزب من جهة نفعها للنضال الثوري في المدي الطويل. فقد أعاد الحزب حديثه المعتاد عن نقص الأسس المادية والثقافية لتوطد الديمقراطية البرجوازية في البلاد. فمن الوارد بناء على ذلك ألا يسلك السودان طريق التطور الطويل البطئ تحت قيادة الطبقة البرجوازية. ويمضي التقرير إلى القول بامكانية حدوث طفرة ثورية تفتح الطريق امام التقدم والديمقراطية [4].
وعلى أية حال فقد أكد التقرير "استحالة استبدال العمل الجماهيري الدؤوب بالتكتيكات الانقلابية [5]." وكان من رأي التقرير أن من شأن الانقلاب العسكري أن يجعل قيادة الثورة الوطنية الديمقراطية في يد البرجوازية والبرجوازية الصغير. وكان الحزب قد سبق أن خَلٌص إلى أن كلا الطبقتين لا تصلحان للقيادة نظراً لأن هناك أقساماً من البرجوازية معادية للثورة من حيث المبدأ أما البراجوازية الصغيرة فتتسم بالبلبلة ويعوزها الثبات مما سيعرض النضال الثوري لآلام وتضحيات لا ضرورة لها [6]. وفي مواجهة دعاوى التكتيكات الانقلابية احتفى تقرير 1968م بالديمقراطية الليبرالية وبشر بها. فقد دعا التقرير إلى تكوين أوسع تحالف ممكن في ظل " دستور ليبرالي " بين كافة القوى المناهضة لمسودة الدستور الاسلامي لعام 1968م [7]. ويمضي التقرير في شجبه لأداة الانقلاب:
إن احلال التكتيكات الانقلابية محل العمل الجماهير يعبر عن مصالح الطبقات البرجوازية والبرجوازية الصغيرة وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية في نهاية المطاف [8].
وهذا الشجب للتكتيك الانقلابي ستتردد أصداؤه في دهاليز الحزب بعد انقلاب 1969. غير أنه سيقتص لنفسه من الحزب الذي ارتكب في لحظة وسن سياسي انقلاباً في 1971كان قد نهى عنه.



IbrahimA@missouri.edu

 

آراء