من بطون كتب
sanhooryazeem@hotmail.com
قراءة اقتصادية قانونية
في توازن المصالح بين الشركات والعملاء
منبر بنيان ،،مقالات من بطون كتب
مقالنا اليوم في عالمٍ تتشابك فيه المصالح وتتعقد فيه المخاطر لضمان المشروعات الاقتصاديه ، حين يقف عقد التأمين على مفترقٍ دقيق بين العدالة والربحية، والحرية والهيمنة.
فهو من أكثر العقود حضورًا في الحياة الاقتصادية، لكنه في الوقت نفسه من أكثرها إثارةً للجدل، لأنه كثيرًا ما يُبرم بين طرف قوي يمتلك رأس المال والمعلومة (شركة التأمين)، وطرف ضعيف يحتاج إلى الأمان (المؤمن له).
ومن هنا نشأ السؤال القانوني والاقتصادي القديم المتجدد:
هل عقد التأمين عقد إذعان يُملى بشروطٍ مسبقة لا تقبل التفاوض؟ أم أنه عقد موضوعي يقوم على حرية الإرادة والتوازن في الالتزامات؟ وعليه تركنا في هذا المقال بعض المصادر والكتب القانونيه تثير بعض وجهات نظر وهدفنا الي إطالة المقال في محاوله لتخرج ببعض إضاءات هل هنالك اذعان في عقود التأمين
أولاً: مفهوم عقد الإذعان في الفقه القانوني
عقد الإذعان (Contract of Adhesion) هو العقد الذي يُبرم فيه أحد الطرفين على شروط معدّة سلفًا من الطرف الآخر، دون أن تكون للطرف الأول القدرة الفعلية على مناقشتها أو تعديلها.
ينطبق هذا التعريف على عقود المرافق العامة، كالكهرباء والنقل والاتصالات — لكنه أصبح يشمل أيضًا عقود التأمين، بسبب الطابع النموذجي لشروطها.
ويرى فقهاء القانون أن الإذعان لا يعني بالضرورة الظلم، بل هو ضرورة تنظيمية في العقود الجماعية التي يصعب فيها التفاوض الفردي.
غير أن الخطورة تكمن عندما تتحول هذه الضرورة إلى وسيلة لاستغلال الطرف الأضعف، كما يحدث حين تُدرج الشركات بنودًا غامضة أو استبعادية تحرم المؤمن له من حقوقه عند وقوع الخطر.
ثانياً: عقود التأمين… بين النظرية والتطبيق
في الواقع العملي، تختلف درجة الإذعان من دولة لأخرى ومن نظام قانوني لآخر.
ففي الدول النامية، غالبًا ما تكون عقود التأمين أحادية الاتجاه:
تفرض الشركات شروطها دون رقابة كافية أو وعي قانوني من المستهلك، مما يجعل المواطن يتردد في الثقة بقطاع التأمين.
أما في الدول المتقدمة، فرغم قوة القوانين الرقابية وشفافية الإجراءات، إلا أن الطابع الإذعاني لم يختفِ كليًا — بل اتخذ أشكالًا أكثر دقة:
كالتعقيد القانوني في الوثائق، أو كثرة الاستثناءات التي تُفقد العقد توازنه الحقيقي.
وقد كشفت محاكم في أوروبا وأمريكا عن سوابق قضائية أبطلت بنودًا وصفت بأنها “غير عادلة” (Unfair Clauses) في وثائق التأمين على الحياة أو المركبات، معتبرة أن “القبول لا يعني الرضا إذا غاب التوازن”.
وهذا ما أكّدته المحكمة العليا في بريطانيا في قضية OFT vs Abbey National (2009) حين اعتبرت البنود الغامضة في العقود المالية نوعًا من الإذعان المقنّع.
ثالثاً: مبررات شركات التأمين
من منظور الشركات، ليست هذه الممارسات كلها “مراوغة”، بل محاولة لضبط الخطر والتكلفة.
فشركة التأمين تقوم على مبدأ “احتمال الخسارة”، وأي خطأ في التقدير أو التسعير قد يؤدي إلى انهيارها المالي.
لذلك ترى أن وضع الشروط المسبقة أمر ضروري لحماية التوازن المالي للشركة.
لكن الإشكال القانوني والأخلاقي يظهر عندما تختفي الشفافية، وتتحول “إدارة الخطر” إلى “إدارة الربح” على حساب حقوق المؤمن له.
وحينئذٍ، ينقلب العقد من أداة حماية إلى أداة استغلال مشروع قانونيًا ومرفوض أخلاقيًا.
رابعاً: العدالة التعاقدية وتوازن المصالح
في فلسفة القانون المدني، تقوم العدالة التعاقدية على مبدأين:
- حرية التعاقد — أي أن يبرم الأطراف العقد بإرادتهم الحرة.
- التوازن في الالتزامات — أي أن لا يطغى طرف على آخر.
وعقود التأمين تضع هذين المبدأين في اختبارٍ صعب.
فالإرادة هنا شكلية، لأن المحتاج إلى التأمين لا يملك بديلاً واقعيًا، والتوازن هشّ لأن الشركة تحتكر المعلومات الفنية.
ومن هنا، تتدخل الدولة عبر الرقابة والإلزام التشريعي (كما في فرنسا والسويد) لضمان العدالة في الأسعار والشروط، وتوفير نماذج عقود موحدة تراعي مصلحة الطرفين.
خامساً: تجارب عالمية بين الإذعان والموضوعية
في الولايات المتحدة: فرضت لجنة التجارة الفيدرالية (FTC) عام 2015 لائحة تُلزم شركات التأمين بتوضيح جميع البنود الجوهرية بخط واضح ومبسّط، منعًا للغموض المتعمّد.
في ألمانيا: تُعدّ عقود التأمين من العقود النموذجية المنظمة بقانون خاص (VVG 2008) يضمن التوازن الكامل بين الالتزامات.
في إفريقيا: لا تزال معظم الدول تعاني ضعف الإطار الرقابي وغياب المحاكم المتخصصة في منازعات التأمين، مما يجعل العقد عمليًا عقد إذعان صرف.
في العالم العربي: تشهد بعض الدول (مثل الإمارات والسودان والمغرب) محاولات لإعادة صياغة قوانين التأمين لتشجيع الشفافية والعدالة التعاقدية، إلا أن التطبيق ما يزال محدودًا.
سادساً: التلاقي بين الاقتصاد والفقه
من زاوية فقهية، ينظر علماء الاقتصاد الإسلامي إلى عقد التأمين التجاري على أنه عقد غرر، أي فيه جهالة، بينما يُجيزون التأمين التكافلي لأنه يقوم على التبرع والتعاون لا المعاوضة الربحية.
غير أن الفقه المعاصر بدأ يرى إمكانية تكييف بعض صور التأمين التجاري إذا تحقق فيها مبدأ الشفافية والتوازن، أي إذا خرجت من دائرة الإذعان إلى دائرة العدالة التعاقدية.
سابعاً: خاتمة – بين القانون والضمير
عقد التأمين ليس مجرد ورقة قانونية، بل مرآةٌ لضمير السوق.
فحين تُقدَّم المصلحة الربحية على مبدأ العدالة، يتحول التأمين إلى مصدرٍ للظلم بدل الأمان.
وإذا استُعيد التوازن بين الطرفين عبر التشريع والرقابة والوعي، يصبح التأمين ركنًا من أركان العدالة الاقتصادية الحديثة.
ولعل السؤال الذي يواجهنا اليوم هو:
هل يمكن أن يتحقق “الربح العادل” في سوقٍ تُدار فيه العقود بين طرفٍ يملك كل شيء، وآخر لا يملك إلا حاجته إلى الأمان؟
المراجع:
- د. السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني – نظرية العقد والإرادة.
- World Bank (2022): Insurance Law and Consumer Protection.
- OECD (2023): Insurance Regulation and Fairness in Developing Economies
- Case: OFT vs Abbey National plc, UK Supreme Court (2009).
- د. أحمد عبد العظيم عبد السلام، دراسة الجدوى الاقتصادية وتقييم المشروعات.
- د. نبيل عبد الرؤوف، التأمين ودوره في الاقتصاد القومي.
عبد العظيم الريح مدثر
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم