على قطار الصحبة هذه المرة مع الأديب البرليني دكتور أمير حمد وبنت الجنوب ” نانجور”

 


 

 

بقلم د. طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي
المملكة المتحدة

طفقَ قرصُ الشمس يتوارى رويداً رويداً طيّ الشفق، فارتعش الأثير إثر نسمة تهادت من الشمال، وانتعشت المحطّة المهجورة كأنّها أفاقت بعد سُبات سنين على وقع هدير عجلات القطار:
يا قطار الشمال..
يا قطار الجنوب..
يا قطاراً صدأ بلون المحطّة
نمتَ،
استرحتَ
أمام البيوت.
شيء ما في قبّة السماء،
رفع غُراب المحطّة رأسه الأقرع،
وقد تكوّم في زاوية بسقف غرفة ناظر المحطّة العجوز،
لقد ظلاّ ينتظران أوبة الحياة سدى...
طال الأمد بهما منذُ أن بارح القطار والمسافرون هذه المحطّة بلا أوبة،
وتبعهم طاقمها العجيب.
"أمير حمد"

هكذا وجدت نفسي في وحشة المسافر المبتدئ الترحال على أرض محطة مهجورة تحيطها صحراء عريضة قاحلة عدا شجيرات من السيال التي تحوطها فتبدوا في المساء كأشباح الشياطين . لا شيئ يؤنس أو يكسر صمت الوحشة عندما يسدل الليل ظلامه الدامس إلا منظر القليل من ومضات خافتة لنيران تبرق بعيداً من مضارب بدو رحل بدورها تحكي عن حياة أناس لهم إحساس وشعور مثلنا يفرحون ويسعدون ببداوتهم، يغنون بحبها، يتزوجون ويتوالدون . وأنا أبدأ رحلتي عبر هذا الترحال الذي رتبه لي هاشا باشا وهو منتظر الأديب البرليني أمير حمد، "سوداني مهاجر في بلاد الله" كرماً لصحبته فى ركوب ذلك القطار الموعود الذي ذهب شمالاً وجنوباً وربما لا يعود، فالمخاطر كثيرة ، وإن لم نكن نتعارف من قبل مع بعضنا فالأسفار تجمع الناس من غير موعد مسافرين أو مودعين ووسائلها المتنوعة كذلك تجمع المسافرين على ظهرها وبينهم الصحبة الجميلة تولد وربما تنمو فتدوم إذا صادفت ربيعا مزهرا في هذه الدنيا العجيبة متقلبة الأجواء فيكتب لها بركة الكمال والخلود.

وأنا في ذلك الموقف المدهش جالت بخاطري رحلات لا تنسى على متن عابرات البحر والبر والجو وكم لي فيها من ذكريات منها الحلو والمر وتذكرت وأنا سارح الطرف مهموما أن مثل القطار الذي ننتظره وهو يعبر كل المحطات قديمها وحديثها من حلفا حتى واو في جنوب السودان و بابنوسة في غربه الجنوبي قد أفتن به وكتب عنه الأدباء والشعراء وتغنى بقصائدهم على أرصفة المحطات المختلفة الفنانون منهم في السودان على سبيل المثال عثمان الشفيع "القطار المرَّ … مرَّ فيه حبيبي والعليّْ ما مرَّا”، والفنان سيد خليفة " القطر القطر نويت السفر ودعت حبيبي والدمع انهمر"، و ملك الطمبور النعام آدم "ودع وقام خلاني بالالام يوم الجمعة" وفي أغنية له أخرى من الزعل أيضا يقول "الله يقد مكنتك يالقطر". أما زكي عبدالكريم فكان منحاه سياحياً يزدهر إشراقاً من الآمال لملاقاة الحبيبة " يا سائق القطار قوم بينا لي بنت الشمال ودينا…..هناك يا أرقو نخلك بان وشاطئ النيل وقف ريقان" لم يذرف دموعاً بل كانت أشواقه تتسابق مع عجلات القطار لكي تصل مسرعة إلي بلد الحبيبة، لكن فات عليه أن أرقو لا يصلها القطار الذي ينتهي بدوره في مدينة كريمة

الأديب الكاتب الشاعر أمير حمد ناصر من برلين حيث يقيم، كان على الرصيف المترهل من الإهمال وعدم الصيانة ينتظرني وهو من تكرم بدعوتي لهذه الصحبة الطيبة خلال تلك الرحلة متعددة القرى والبنادر والسهول في شمال ووسط الوطن حتى الجنوب البعيد.لأول مرة يعرفني مشكوراً بنفسه (رغم أنه بالنسبة لي غني عن التعريف). فى نفس اللحظة كانت هذه الرحلة الموعودة مع روايته حائزة الإعجاب والتقدير فى ألمانيا "نانجور" التي ربما يودينا إلى مكان موطنها البعيد ذلك القطار الحاضر في مخيلتنا لكنه غائب "و القدم له رافع" والإنتظار ربما يطول . أعتقد أن الأمير شعر بأن أمزجتنا تجمعها سكك محطات الترحال وسحر الأزمان والأمكنة والنوستالجيا للأهل والأوطان لذلك قد حجز لي مقعدا من مقاعد ذلك القطار الذي نام في الطريق ونحن لا نزال في انتظاره .
بعد تبادل التحية وقفنا تجاه القبلة نترحم على روح شقيقته حافظة القرآن سناء حمد رحمها الله فقرأنا فاتحة الكتاب وسافرنا بخيالنا إلى ما وراء الأفق البعيد شأننا شأن ناظر تلك المحطة العتيقة التي تكاد أن تكون مهجورة منذ عقود في حضن صحراء منٌ صحارى السودان الشاسعة. لا شيء يفرح فكل شيء يبدو هالكا متهالكا فالناظر العجوز حكم عليه الدهر ووحشة الزمن وشؤم الحظ فظهرت تضاريس تجاعيد وجهه التي لم تختلف من تضاريس طاولة المحطة الخشبية التي يجلس أمامها وقد تعرى سطحها نتيجة طول السنين. لا أنيس لناظر المحطة سوى طائر الشؤم الغراب العجوز الذي لا يستطيع الطيران ليغادر المكان.
والله حيرني صاحبي خلال هذه الرحلة "أمير" فهو جداً قديراً في سرد الحكايات والخواطر والأحداث بمختلف أنواعها فشعرت كأنني أتجول معه في متحف كبير يكتنز بالقديم والجديد من التحف واللوحات الفنية الرائعة ذات الألوان الزاهية الجميلة المختلفة وخلالها يتجول قوم كثر تختلف سحناتهم "طوال وقصار أصحاب وغير أصحاب" .شماليون وجنوبيون "جمعهم قطران، السودانين" كانوا هم علية القوم الذين هم محور تلك الرواية . ورغم ذلك بما أن ترحالنا انحصر في السودان الكبير بخيراته خاصة البترول الذي لاحقا في هذه الرواية قد قفز بمستوى تلك المحطة البالية مبانيها ومحتوياتها إلى عالم جديد أجد نفسي في إنتقال مفاجئ إلى أبعد ما لا يدركه فهمي نتيجة إختلاط وتشابه بعض المشاهد ، مثلاً ثلج يتساقط وانا أسافر معه بخيالي إلى برلين ومن ثم يعود أمامي مشهد ونسة لناظر المحطة وسائق القطار رغم أن الناظر قد سبق ذكر انتقاله من هذه الدنيا

الرواية فيها متشابهات يتكرر ذكرها وهكذا تختلط فيها المشاهد " الفنية والاجتماعية والسياسية والثقافية والإقتصادية والحروب التي تفرق أهمها التي كانت نتيجتها فصل الجنوب الحبيب من الوطن الأم السودان . لكن رغم ما حصل تبقي المشاعر الإنسانية الصادقة بين ابناء الجنوب والشمال تتمثل في جوهر هذه الرحلة الإنسانية بقصة حب جمعت بين الجندي محمد بن الشمال مع الأبنوسية الجميلة " نانجور" الممرضة بنت الجنوب. والرواية وقصة نانجور طويلة يصعب إختزالها فى أسطر لكن كما علمت من أمير أنها ألفت قبل ظهور رواية وفيلم " وداعاً جوليا" الحائز حديثا على جوائز عديدة. نانجور قصة حب لها معنى ومغزى سياسي واجتماعي هام لكن للأسف كقطعة أدبية أو قصة واقعية قد تحدث كانت نهايتها تراجيدية فسرعان ما قتل محمد بن الشمال بعد زواجه من نانجور التي تركها تحمل منه في بطنها جنينا. قصة حب تذكرني بحب عنترة بن شداد وعبلة وقيس بن الملوح ومعشوقته ليلى. لاحظت تكرار قصة موت محمد وكذلك المحطات التي عبرتها نانجور بعد وفاة زوجها .

الرواية وصلتني "بي دي إف " وأتطلع إلى أن أراها كتاباً حقيقياً أو فيلماً يكون له صدى كبير في عالم الرواية والأدب. أرجو من الأديب القدير الكاتب المؤلف والشاعر أمير أن يعيد النظر في بعض المشاهد التي فجأة تتخلل السرد القصصي حول عالم تلك المحطة "قديمه وحديثه وكذلك تكرار مشاهد من حياة ابن محمد بعد أن كبر وما تعرض له من صعوبات . وأيضاً ما علاقة أسماء مثل " ريكادو"بهذه الرواية الذي ظهر فجأة ؟ هل هو خبير أجنبي له علاقة سابقة بتلك المنطقة المعنية بالرواية أم فقط لأن له خبرة في مجال الإغاثة ؟ أم أنه صديق لكاتب الرواية والتقيا في برلين.لماذا إهتم ريكاردو بالإستماع بشغف لتلك الأحداث في بلاد منسية في أفريقيا البعيدة؟

كما ذكرت سابقا هذه رواية مشوقة أحداثها أشبهها بمقتنيات ذلك المتحف الجميل التي تحتاج إلى بعض الترتيب لكي تكتمل الصورة الفنية ميسورة الفم والمتعة لكل زائر يدخل صالة العرض لذلك المتحف الفخم. بالنسبة لي أرى أن الرواية انتهى عرضها بعد ان توادع عن محطة القطار والتاكسي كل من ريكاردو وحامل المسودة وبدوري ونحن في قلب جوبا ودعت دكتور أمير شاكرا ومقدرا

ختام المسك:
التهنئة للأستاذ أمير على كل هذا المجهود الأدبي وحتماً سيكون له مستقبلا واعداً بكل جميل والمثير الممتع من الروايات والقصص فأرجوه أن يستمر . مع شكري وتقديري الكبير له بإهدائه لي نص روايته نانجور. خلالها يتساءل شاعراً
مَنْ أنا... يا أبي مَنْ أنا...؟
وسط أقنعةٍ كثيرةٍ
مَنْ أنا...؟
آلمني...
في قلبي يرتحلُ المنى
آنّ أن أحطّ
كسربِ طيرٍ... آب من أقصى مدارٍ لمدار
ثابت الأقدام... والأنغام
أنغامه.. بندول شطّ
كيف كانت ربقة الرحلة وطعنات الألم
ويح قلبي... من رحيل في العدم...
أي ريح تعتري هذا الشتات...
فهنا أقول له انت الأديب والشاعر المبدع و"حوار" من حيران خلوة الراحل الطيب صالح . عليك الإنطلاق في أجواء التأليف بطريقتك ولونك الخاص بك. أحس ذلك التأثر واضحاً في توظيفك لشخصيات الرواية بل حتى مدخل هذه الرواية " سحر الزمان والمكان" يذكرني بمدخل رواية موسم الهجرة إلى الشمال . كثيرون غير أمير تأثروا بأسلوب الكاتب الطيب صالح منهم زميلنا الدكتور عبدالمنعم عبدالباقي إستشاري الطب النفسي بنيوكاسل في روايته " حكايات قرية المصباح " الذي يقول في مدخلها "تستلقي قرية المصباح على جنبها بدلال بين حاشيتي النيل الأزرق و شريط الأسفلت، يهدهدها مجرى ويوقعها آخر كعجوز متصابية أدركتها السنين، ترجو طالب متعة، أوسطها مترهل وضامر طرفاها، ثديها منهدل وكرشها منبسط، وعجزها منبعج، توسد رأسها درج الغاب وتاج ضفائر الماء خمار ووشاح ، وحلتها حجر المسيد وقبة الشيخ المصباح". أيضاً لاحظت تشابه وضوح التدقيق في وصف محاسن الأنثى في كل من رواية أمير ودكتور عبدالمنعم فتذكرت رواية قرأتها خلال سنتي الأولى في الجامعة للكاتب الإيطالي ألبرتو موريفيا " The Woman of Rome" لكن الطيب طالح في روايته موسم الهجرة إلى الشمال كان في ذلك المجال يحكي على لسان بنت المجذوب. الطيب صالح يقول في مبتدأ روايته "عدت إلى أهلى يا سادتي بعد غيبة طويلة سبعة أعوام على وجه التحديد، كنت خلالها أتعلم في أوروبا. تعلمت الكثير وغاب عنى الكثير لكن تلك قصة أخرى. المهم إننى عدت وبي شوق عظيم إلى أهلى في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل سبعة أعوام وأنا أحن إليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائما بينهم فرحوا بي وضحوا حولى ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجا يذوب في دخيلتي فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة فقدته زمانا في بلاد "تموت من البرد حياتها"
شخصي الضعيف من مدرسة قدماء شعراء أغاني الحقيبة في السودان ، فيكفي عندي بلاغة الوصف تغزلاً مثلاً في " أقيس محاسنك بمن……. يالدرة المالك ثمن " فهذا يتضمن الكثير والكثير .

للكاتب أمير قصة أخرى جدا ممتعة ومرتبة أحداثها الجاذبة بعنوان "قارب من ورق" نشرت نهاية العام الماضي على منبر سودانايل. أراها تصلح لتكون رواية سينمائية. أرجو من القراء مطالعتها

عذراً للأحباب إذا شطت و ما كتبته هنا لا يعني تقليل قدر أحد بل هو مجرد إنطباع شخصي و ونسة صحبة في وقت محبط "نُبَرِّد فيه الهم بقليل من الأنس وقد انعدم للأسف ما يفرح على سطح أرض المليون ميل" .
عبدالمنعم

drabdelmoneim@gmail.com

 

آراء