عن وضعية “الحكايا” الصلاح-زينيَّة أو ثُلاثيَّة الإستعارات، المثاقفات والعارضات-الطارئات: (قصة “المرايا الأخرى” مثالاً)*

 


 

إبراهيم جعفر
11 October, 2021

 

يتقوَّمُ أساسُ كتابة صلاح الزّين القصصية، فيما أحدسُ نقديّاً، على توليف جزئيَّات من تمويهات مَسَاخِرَاتِيَّة (من "مَسَاخِرْ"، كما تُفهَم في عبارة "درامات المَسَاخِرْ") ثُلاثيَّةَ البلاغة إذ تُنْشَئُ، عِنْدَ عصبِ حبالِ كُلِّ كتابةٍ مُفرَدَةٍ منها (ولا أقول "نصَّاً مُفرداً" منها) إستعاراتٌ لا تبدو الصلة فيما بين طرفيها، أو حدَّيهَا، القائمَ معناها/حسُّها عليهُمَا، وفيما بينهُمَا، إبتِدَارِيَّاً وبمجرد ضرورة كونها "استعارة"، في غالبِ تجليَّاتِهَا المَرْمُوزَة، مُباشِرَةً، شَفَّافَةً، أو شبه شفَّافَة، أو حتَّى ضِمنيَّةَ الشَّفَافِيَّة، على نحوٍ ما أو آخر، بل هي مُعْتَمَةً، وتَنَاقُضِيَّةً، عن تَقَصُّدٍ في ذلكَ يُحاولُ، بِلأيٍ مُتْعِبٍ ومُتْعَبٍ، فيما يتبدَّى في العُسرِ الإشكالي paradoxical
الواضح فيما يَتَّصِلُ بإنفاذِ الانسيابيَّة الفيضيَّة الآخذَة توَّاً بالنَّفْسِ والنَّفَسِ في كتابة صلاح الزين القصصيَّة، مع كل ما قد يُتوقَّعْ في تلك الإنسيابيَّة من توالٍ طبيعيٍّ متوالفٍ ومُتناسجٍ آناءَ القراءة، أن يبدو، مع كلِّ تقصُّدهِ ذاكَ، (فيا للإلتباس والتناقضيَّة المُضَعَّفَة ويا للنكايةِ الجليّةِ بالقارئين!)، عند منتهى أقصى تَجَسُّدٍ مرقُومٍ مُمكنٍ له، إن يكن ذلك- أنطولوجيَّاً- بِمُكنتِهِ في الأساس، تلقائيَّاً وطبيعيَّاً، في غايةِ الأمر.

إن تأخُذ، مثلاً، عن قصة "المرايا الأخرى"، (التي توسَّلْنَا بها، في عنواننا الجانبيِّ المحاط بالأقواس، كـ"مثال")، الجملة الطويلة الأولى منها ستشعُرُ، تَوَّاً، رُبّما، أو دُونَ أيِّ عَمِيْقِ تَمَعُّنٍ، أَنَّ صلاح الزين يُلافِيْنَا فيها بأنموذج قَاطِعَ الملامح الصّياغيّة (البُنائيَّة) لذاك التّركيب اللغويِّ المُعتَمْ عن تَقصُّدٍ يُحاولُ، تناقضيَّاً Paradoxically، أن يبدوا تلقائيَّاً، كما أسلفنا القولَ آنِفَاً:

"يمكن، ولضرورات إجرائية فقط، أن نستبعد طروحات المجتمع المدني وكومُونة باريس ونقول إن الحلاق هو أول من حمل المرايا لتحدق في ذاتها والوجوه لتحدق في المرايا، وبقليل من الاستبصار والروية يمكن أن ندرك سر افتتان الحلاق بالصور والأشكال التي تغطي الجدران، ومقدراته المدهشة في تمييز الصور التي يسيل لها لعاب الجدران والمرايا، من غيرها".

سؤال البداهة الجوهرية هنا- وكل تذوق نقدي لا بُدَّ له، في شَوفِيَ الفينومينولوجي الخاص بي، أن يبدأ ببداهة خاطريّة شعورية أولانيَّة أو، بمعنى اللغة الأنطولوجيّة للفلسفات الوجودية الفينومينولوجية، أصلية (Authentic)، قد تُعَمَّق، أو لا تُعَمَّق، فيما بعد، إلى مستوى رؤيا أو استبصار كينونيّ حقيقي- هو عينُ هذا السؤال: ما هي، إن كانت هي تُوجَد أصلاً، الصلة الوثيقة، في التركيب الصَّلاح-زينيَّ أعلاه، مُبَاشرةً كانت أو كنائية مضمرة أو استعارية، فيما بين الحدِّ الكلاميّ عن "طروحات المجتمع المدني" و"كومونة باريس"، من جهة، والحدِّ الكلاميّ الآخر عن براءة اختراع الحلاق، كما في زعم الراوي كُلي المعرفة، من جهة أخرى، كـ"أول حامل" للمرايا المُتَمَكِّنَةَ من– أو قُل، بشبه جملةٍ أدق، المُهيَّأ لها شأن- التمعن، بصريَّاً، في ذاتها، أولاً، ومن ثم إتاحة نفسها لتمعِّن "الوجوه"، في أنفسها، خَلَلَهَا، ثانياً؟! ما هي، بعبارة صغيرة، الصلة النَّفسَورُوحية (النفسيّة-الرُّوحيَّة) الممكنة بين ذينك الحدين؟ أليس هنالك تعسف واضح وافتعال مثاقفة زائد وغير ضروري في محاولة الربط الكتابي بين الحدين الكلاميّين إياهما في تلك الجملة أوصلها إلى حد إفساد احتمال إنجابها لأيّ صورة لأي استعارة ذات حساسيّة اجتماعية أو نفسية-روحيّة ما؟

أظنُّ أن هنالك تعسُّفَاً "مُثَاقَفَاتيَّاً" بائناً في ذلك. فأنا لا أرى أي صلة ممكنة، بمعنى أنّها ذات قيمة حسية أو تخييليّة أو نفسيروحيّة، محسوسةً ومعتبرة، على الأقل، ناهيك عن كونها عميقة، فيما بين ذينك الحدّين الصلاح-زينيَّين طبق الأصل.

إن الكتابةَ، ينبغي عليَّ أن أقولُ عندَ هذا المِفْرَقِ، إن لم تُنسَجْ من صلات وجوديّة حقيقيّة، مستبطنة أو مُسْتَشَفَّة، في ما بين حدود وأطراف جملها المتراكمة، أفقياً وعمودياً، قد لا يُعَوَّلُ عليها، إلا قليلاً أو بنسبيَّةِ مقدار لا يُشْبِعْ ولا يهبُ ملاءً، حسيَّاً كان ذاك المَلاءُ أم نفسَّياً، أو حتّى روحيَّاً، ذلكَ إن تكُنْ هي، أصلاً وجذرَاً، مُهَيَّأةً لبلوغ تخُوم الرُّوحْ!

ثُمَّ ماذا قال السَّاردُ الصلاحَ-زينيَّ، الكليَّ المعرفة، من بعد تلك الجملة الطويلة الأولى في "المرايا الأخرى"؟

"شخص تجميعي بامتياز الحلاق- الصور، الجدران، العطور المقصات، الأمشاط المارة والعربات، أطفال المدارس، شرطي المرور، عربات الإسعاف، دخان السجائر، والزبون، كلها يجمعها ويقذف بها في جوف المرآة. والمدهش أن لا المرايا تتحطم ولا الحلاق مفتون باقتناص شكله داخلها. حقاً هي علاقة غريبة- يوفر مقومات الفضيحة من غير أن يُفتَضَحَ هو."

أيضاً، أنا لا أرى، في ما هو مُقتبسٌ فَوْقَاً، أي صلة تخييل شعوريّ أخَّاذة impressive، على نحو ما أو آخر، فيما بين سمت "التجميعية" هذا، الذي فصّلهُ الرَّاوي، مثل ترزيّ عجول، على الحلاق ومرآته، وبين الحد الثاني من التركيب الكلامي الذي "يتظاهر" فيه الراوي، على نحو مَسْعَى "الحيلة المكشُوفة" (كي لا أقُل "البائخة"!)، بـ"الدهشة" من أنَّ "لا المرايا تتحطم ولا الحلاق مفتون باقتناص شكله داخلها"، ثم الحدّ الثالث، الاستنتاجي، فيما يبدو، بأن كل ذلك مؤداه، فيما يصف الراوي، "علاقة غريبة" يتمَلَّكُ الحلاقُ فيها- بمجرد حكم "توفيره" المشار إليه طيَّ الجملة الأخيرة من ذلك التركيب الكلامي- "مقومات الفضيحة من غير أن يُفتَضَحَ هو". ثم أما كان، على الأقل، أفعل انطباعاً للراوي- رغم أنه حتى إعادة النّسج تلك قد لا تفلح كثيراً في إخفاء أو، على الأقل، تخفيف، غياب ما وسمتُهُ أنا بسمت "صلة التخييل الشعوري الأخاذة" عن التركيب الكلامي/المقطع اللغوي إيّاه- أن يُبَدَّل تراص الأشياء المُفكَّك ذاك (شخص تجميعي بامتياز الحلاق- الصور، الجدران، العطور المقصات، الأمشاط المارة والعربات، أطفال المدارس، شرطي المرور، عربات الإسعاف، دخان السجائر، والزبون، كلها يجمعها ويقذف بها في جوف المرآة)، في التركيب الكلامي/المقطع اللغوي المورد آنفاً من "المرايا الأخرى"، بجملة واحدة ممتدة النَّفَس يُحسُّ فيها أكثر بالاتصال والترابط فيما بينها هي ذاتها، أولاً، ثم، ثانياً، فيما بين بينها وبين حدي الكلام اللذين تلياها: (والمدهش أن لا المرايا تتحطم ولا الحلاق مفتون باقتناص شكله داخلها. حقاً هي علاقة غريبة- يوفر مقومات الفضيحة من غير أن يُفتَضَحَ هو)؟

نجيءُ، من بعد ذلك، إلى زحمة الثلاثيات الثلاث التَّداخليّة الصلاح-زينية فيما بين الصحفي-في حال- كونه-بين-يدي الحلاق/الحلاق/المرايا؛ الصحفي- مراسيم اعترافات عرفات ورابين ببعضهما/الحلاق/المرايا؛ ثمَّ الصحفي/الحلاق-صورة الفتى المصارع والفتاة السمراء/المرايا (أيضاً) لنحاول إمعان البصر- بقدر الممكن والمُتاح من المِزاج والرؤيا- في كيفيات التصرف الكلامي في تلك الثلاثيات الثلاث عند صلاح الزين ومدى فلاح صلاح الزين الإنشائي في حبك الثلاثيات إياها، معاً، في سرد متصل الوحدة والانسجام والانسياب الشعوري مع اتخاذي مَحَكَّاً لذلك جُملة حسِّ ومعنى ما قد يُستَبْصَرُ في هذا الما-يلي الذي قلته في الصفحة الثانية من هذا النسج النقدي الفينومينولوجي: "إن الكتابةَ، ينبغي عليَّ أن أقولُ عندَ هذا المِفْرَقِ، إن لم تُنسَجْ من صلات وجوديّة حقيقيّة، مستبطنة أو مُسْتَشَفَّة، في ما بين حدود وأطراف جملها المتراكمة، أفقياً وعمودياً، قد لا يُعَوَّلُ عليها، إلا قليلاً أو بنسبيَّةِ مقدار لا يُشْبِعْ ولا يهبُ ملاءً، حسيَّاً كان ذاك المَلاءُ أم نفسَّياً أو حتّى روحيَّاً، إن تكُنْ هي، أصلاً وجذرَاً، مُهَيَّأةً لبلوغ تخُوم الرُّوحْ!"

أولاً وبدءاً، أرى، في جُملةِ ما قد أرى في هذا المُتَّصَل، أنَّ الجُّملة البادئة، في القصة القصيرة إيَّاها،
من بعد عبارة "يوفر مقومات الفضيحة من غير أن يُفتَضَحَ هو"، كان لها أن تُبدأ بها فقرة جديدة، سيَّما وأنها بادئةٌ مُتعلِّقَةٌ بالولوج- من بعد فقرة مقدمة السرد المعنى المنتهية، عِنْدِي، أو التي أرى أنَّها كان من الأوفق لها عِنْدِي أن "تُقفَل"، عند العبارة المشار إليها آنفَاً- في سرد ثلاثيات ثلاث تداخليّة فيما بين الصحفي-في حال- كونه-بين-يدي الحلاق/الحلاق/المرايا؛ الصحفي- مراسيم اعترافات عرفات ورابين ببعضهما/الحلاق/المرايا؛ ثمَّ الصحفي/الحلاق-صورة الفتى المصارع والفتاة السمراء/المرايا (أيضاً). ثُمَّ إنَّ الكلام الذي قد كُتِبَ في تِلكَ الفقرة (المنتهية بالجُّملة الطويلة البادئة بـ"انشحن جوفُها، كما عُذُوبة الرَّغبات واللُّغة" والمنتهية بـ"وَوَضْعِ صورة العارضة السَّمراء والمُصارع") مرتبكٌ وسيءٌ، بحسبِي، في صِياغتِهِ اللُّغويَّة بصورةٍ ليست هي بالمُريحة (حتى لا أقولُ "مُزعجة")، الشَّيءُ الذي يمنع انسيابه وتحسيسه الطبيعي الحي في القصة المعنية. رُبَّما كان الأفضل في هذا المُتَّصَلِ تقطيع الكلامِ إيَّاهُ على هيئةِ جُمَلٍ صغيرةِ لاهثةٍ وذلك لأنَّ المشهد الذي يُسردُهُ ذاكَ الكلام يبدو لي أنَّهُ، أوَّلاً، في حِّد ذاتِه الحِسَّيَة والنَّفسيَّة، وثانياً بموجب تركيبته السَّرديَة ذاتِهَا وما قد يبتغي "تحسيسه"- إن يجز التَّعبير- من تجربةٍ لحظيَّةٍ عابرة، أو ربما هي تجربة غير لحظيَّة وغير عابرة (ذلكم غير بيِّنٍ فيه بالنَّسبةِ ليّ!)، يُشكِّلُ مشهداً لاهثَ السَّعيٍ على مَسْلَكِ مُلاحقَةِ "تربيطِ" أيِّ علاقاتٍ مُمْكِنَةَ الحدُوث- إن تكن هي أصلاً موجودةً أو كائِنةً أو حتَّى كامنَةً فيما يتحدَّث عنه، أو قد ينطوي عليهِ، ذاكَ المشهد المعنية به ملاحظتي هذي- فيما بين أطراف ثُلاثيَّة الاستعارات، المثاقفات والعارضات-الطارئات الصَّلاح-زينيَّة التي يُشيرُ إليها عنوان خواطري النَّقديَّةِ هذي والتي تزعمُ الخواطرُ إيَّاها أنَّها "تُوجِّهُ" مُجمل وضعية "الحكايا" الصلاح-زينيَّة وذلكم على الأقلِّ في مجموعتِه القَصَصَيَّة التي تنتمي إليها القصَّةُ القصيرةُ التي هي موضوع حديثِ خواطري الحاليَّة والتي هو موسومةً باسمِ "وضعيَّةٌ ترفُو حكايا لتروي". وفضلاً عن ذلك أنا أقترحُ هنا، في إطارِ التَّقطيع واستخدام الجُّمل القصيرة المشار إليهما آنفَاً، جعل الكلام المبتدئ، في القصة القصيرة المعنيَّة، بـ"أخذ نَفَسَاً طويلاً وزفره فامتلأت" والمنتهي بـ"يقتعدُ كنبَةً رثَّة" فقرةً جديدةً ومُنفصلةً، كفقرةٍ وليس كـ"معنى" أو "إفادة"، عمَّا سبقها من كلام. كما أقترحُ، في السِّياقِ ذاتِهِ، حذف الكلام المبتدئ، في ذاتِ القصَّة القصيرة، بعبارة "لا تستطيع المرايا أن تبرز نشرة التَّاسعة ولا افتتان الحلاق بالحصى والأزمان المُتدحرجة في طُرقاتِ عُمرِهِ" والمنتهي بعبارة "انشحن جوفها، كما عذوبة الرغبات واللُّغة، بثلاثتهم: صاحب الإستديوهات، الحلاق- معشوق المرايا الأبدي- وخلفه بعضٌ من رغباتٍ تُفسِدُهَا ضرورة ترميم الجُّدران ووضع صورة العارضة السَّمراء والمُصارع"، كُلِّيَّاً، من القصَّة القصيرة إيَّاها وذلكَ لأنَّه من الممكن، في اعتبارِي الخاص، لعموم سردِها أن يُقَامَ في الزَّمانِ والمكانِ بدونِ ذاكَ الكلام جميعه، سيَّما وأنَّ الكلام المعني لا يضيفُ، بحسبِي، أيَّ شيءٍ لمُجمَلِ تجربةِ سردها الحِسِّيَّة والشِّعُوريَّة.

وفي سرديَّة محاولة تذكُّر الحلاق، ذات صباحِ، أو حلَّاقٍ، غير عادي، أو صباحٍ وحلاق غير عاديين، معاً، لمُناخِ وطعم قُبلتِهِ الأولى مع فتاةٍ في هذا العالم تبدأ تلك السِّرديَّة بجُملةٍ فاتحةٍ لا بأس بها (وإن كانت على شيءٍ من ركاكةِ التَّركيب) من ناحيةِ محاولة التَّوصيف اللغوي لصورة جواءِ الحلاق آنذاك وهي تلك الجُّملة القائلة إنَّهُ في ذاك الصَّباح، أو في صباح يوم ذاك الصَّباح، "كان الصَّباح أو الحلاق أو كلاهما غير عادي، صباح أو مِزاج يشي بمتاهة أو غِواية". غير أن السَّردِيَّة إيَّاها لا تلبث، مع بعد ذلك مباشرةً، أن تشغل نفسها، بدلاً عن تحسيسها لتجربة تلك القبلة الأولى الشِّعورية في صُورة- أو صور أو لقطات- قصصيَّة قصيرة تُجسِّدُها عينيَّاً لدى القارئ، بما أظنه حديثاً مُمِلَّاً وزائداً (بصورةٍ مُصطنعةٍ ومُقحمةٍ إقحاماً على تلك السَّرديَّة، في رأيي) عن حاجة وطاقة تكثيف تجربة القصَّة القصيرة المعنية عن مفاجأة الحلاق لنفسه، آنذاك، وهو في طريقه لمكان عمله، "مفخوخاً بالانشداد لمؤخرة شاحنة بستَّة عشر إطاراً وسيارة أخرى بأربعة إطارات" وعن محاولته حينها لما وصفته تلك القصة بالانسلال "داخل تلافيف ذاكرته المبعثرة على خمسة وأربعين عاماً وخمسة صالونات للحلاقة مبثوثة على خمس جهات وقدرها من جامعي الزَّبالة وأضعاف أضعافها من مجلات النجوم الملونة"، ثُمَّ عن إجرائه، من بعد ذلك، لما وصفته ذات القصَّة بأنَّهُ "بعض المعادلات الرياضيَّة" التي رأى "حلَّاقَها" أنَّها ذات صلة بالحديث الذي أشرتُ إليه أعلاه ووصفته بأنَّه "مُمِلٌّ وزائدٌ (بصورةٍ مُصطنعةٍ ومُقحمةٍ إقحاماً على تلك السَّرديَّة) عن حاجة وطاقة تكثيف تجربة القصَّة القصيرة المعنية".

تلك "المعادلات الرياضية"، المنتهي توصيفها، في تلك القصة القصيرة، عند جملة "تظُنُّ الحكومة، فيما يعتقد الحلاق أنَّ الزيادة في شرطة المرور والمرشحين للبرلمان يمكن أن تُوفِّر فرصاً للعمالة: حلاقين، سائقين، موظفي حماية البيئة .... إلخ"، هي أيضاً، في وجهةِ نظري، زائدةً عن حاجة سرد القصة القصيرة المعنية ومقحمةً عليها، عَسْفَاً، ومِن ثَمَّ هي مؤدِّيةً لترهُّلٍ أكثر فيها يجرى على جسدها تصلبَّاً و"تَعَسُّمَاً" في الانسياب فيه يكمن أُسُّهُ وجذره، فيما أظن، في ما سمَّيتُه، عِندَ مفتتح هذه الخواطر النَّقديَّة، "العُسرِ الإشكالي paradoxical الواضح فيما يَتَّصِلُ بإنفاذِ الانسيابيَّة الفيضيَّة الآخذَة توَّاً بالنَّفْسِ والنَّفَسِ في كتابة صلاح الزين القصصيَّة".

وترتيباً على ذلك أرى أنَّه كان من الأوفق للقاص المعني أن يدخل، مباشرةً من بعد الجُّملة القائلة "كان [ذاك] الصَّباح أو الحلاق أو كلاهما غير عادي، صباح أو مِزاج يشي بمتاهة أو غِواية" في سَردِهِ، صوناً لانسيابيَّة الحكي وتحسيسه الفنِّيِّ-الشِّعُوريِّ، على صورة صاحب الأستوديوهات الذي كان، في ذاكَ الصّباح "مُستسلماً لفتنة مقصات الحلاقة والمرايا الصَّقيلة" وعلى حديثه، "وهو متخثر بنعاسٍ يُهدهدُهُ صوت فرقعات المقص"، عن "أشياء عديدة ليس أقلها انتخابات البرلمان المقبلة"، على أن يُبقِى كلام تلك الحكاية اللاهث، من بعد ذلك، على ما كان قد صاغه عليه مُؤَلِّفُهُ (بصورةٍ لا بأس بها) حتَّى ذروة انتهائه عند الجُّملة القائلة: "انفجر رجل الإستديوهات بالضَّحك وأثنى على مهارة الحلاق وخرج وبقيت المرايا تحدق في صورة فنائها الممتد والحلاق مشغول بإعادة ترتيب عدة افتراضات وإدراجها في نسق تراتبي يقصي بعضاً منها:".
وبشأن تلك الافتراضات أحِسُّ أنَّهُ من الأوفق، صَوْنَاً لتأديةِ انسيابيَّةِ الحكي وتماسكه العضوي وتخليته، بل تجليتِهِ، عن الزَّائد فيه من الحديثِ "المُثَاقَفَاتِيِّ" الذي "يُثْقِلُهُ" بالتَّقَعُّرِ و"التَّعَسُّمِ" التَّحليليِّ غيرِ الموائمِ للتَّجسيدِ وتحسيسِ المُتَخيَّلِ السَّرديِّ الحَيِّ بِوَسَاطةِ فَنِّ، أوقُلْ "نَفَسِ"، الكلامِ السَّردِيِّ، البدءُ فيها، على سبيلِ الاقتراح، بِجُملةٍ، عِندَ بدءِ موضعها من تلكَ القصَّةِ القصيرة، تقول، مثلاً: "دَعْ عنَّا افتراضاً أوَّلِّيَّاً مُضمَرَاً ليس من نفعِ شأننا هنا التَّفَوُّهُ بخصوصهِ بأيِّ كلامٍ ممكنٍ حتَّى نُركِّز، في مَحَلِّهِ، على افتراضين آخرين الأوَّلُ منهما مُؤَدَّاهُ ضرورة وضع صورة عارضة الأزياء السَّمراء والمصارع على الجِّدار المقابل للمرأة التي تقشر من عريه وتحديق المرايا فيه، وثانيهما متعلق بارتباك، أو انضباط الجسد المساط بفحيح القبلة الأولى"، على أن يُعقَبَ ذلك، تَوَّا، بتلك الجُّملة الموضوعة بين قوسين، في القصة القصيرة إيَّاها، مع خلع قوسيها عنها وجعلها بدايةً لفقرة جديدة، أو مقطع جديد، في السَّرد المعني. وأعني بالجُّملة إيَّاها الجُّملة البادئة بـ"يجب أن نلاحظ أنَّ الحلاق قد غرق كُلِّيَّاً في هذا [ذلك] التَّوهان الجُّوّاني...." لتنتهي بـ"ومن ثّمَّ نصبح في حِلٍّ من إضافة أيَّةَ فرضيَّةٍ أخرى لا ترجيح لها في فاخورة الحلاق". ويجب أن ننبه هنا إلى أنّه ينبغي تغيير عبارة "فرضيَّة رابعة" في تلك الجُّملة بعبارة "فرضيَّة ثالثة" حتَّى يتِمُّ التَّواؤُم والتَّكامُل مع مُجمل التَّعديل السَّردي الذي اقترحته أعلاه.

وأيضاً "صَوْنَاً لتأديةِ انسيابيَّةِ الحكي وتماسكه العضوي وتخليته، بل تجليتِهِ، عن الزَّائد فيه من الحديثِ "المُثَاقَفَاتِيِّ" الذي "يُثْقِلُهُ" بالتَّقَعُّرِ و"التَّعَسُّمِ" التَّحليليِّ غيرِ الموائمِ للتَّجسيدِ وتحسيسِ المُتَخيَّلِ السَّرديِّ الحَيِّ بِوَسَاطةِ فَنِّ، أوقُلْ "نَفَسِ"، الكلامِ السَّردِيِّ"، كما "حتَّى يتِمُّ التَّواؤُم والتَّكامُل مع مُجمل التَّعديل السَّردي الذي اقترحته أعلاه"، أرى، في هذا المُتَّصَلِ، حذف جملة الكلام البادئ، في ذاكَ النثر الصلاح-زيني الذي أردادَ به صاحبه منه أن يغدو "سرداً قَصَصِيَّاً"، أو "نصَّاً قَصَّاً"، كما قد يُفضِّل هو أن يُسمِّيهِ، من "توتر الحلاق وتزنر حدَّ التشظي...." والمنتهي بجملة "بقي الافتراض الثاني والثالث يزوبعان في برية جوفه". ذلك فضلاَ عن حذف الجزء السردي من تلك القصة القصيرة الممتد فيما بين "فتوتر صاحبنا أكثر وتراجع الافتراض الثالث إلى خلف سلم الأولويات" و"أصبح الافتراض الثاني (وإن كان الحلاق يفضل كلمة الضرورة) سيد الموقف- المرايا والحلاق."

ويقتضي ذاك الحذف، بالضَّرورة الفنِّيَّة، تعديلاً آخراً في هيئة الحكي الصلاح-زيني، في قصة "المرايا الأخرى" القصيرة تلك، يبداً، من بعد عبارة تلك القصة القصيرة القائلة "ومن ثّمَّ نصبح في حِلٍّ من إضافة أيَّةَ فرضيَّةٍ أخرى لا ترجيح لها في فاخورة الحلاق"، بالجملة القائلة، في القصة القصيرة إيَّاها: "وعندما وهبت المرآة لعينيه صورة كلب رمادي يضاجع كلبة تحت عمود كهرباء مبقور من وسطه، فطن الحلاق إلى أن ما يقارب الثمان ساعات أو أكثر قد مرت منذ خروج رجل الإستديوهات الذي ترك رائحته على المرايا والمقعد، فتوتر صاحبنا أكثر وتراجع الافتراض الثالث إلى خلف سلم الأولويَّات"، ذلك، بالطبع والضرورة اللغوية والفنيَّة للحكي، مع تعديل تِلك الجُّملة على النحو التَّالي: "وعندما وهبت المرآة لعينيه صورة كلب رمادي يضاجع كلبة تحت عمود كهرباء مبقور من وسطه فطن الحلاق إلى أن ما يقارب الثمان ساعات أو أكثر قد مرت منذ خروج رجل الإستديوهات الذي ترك رائحته على المرايا والمقعد."

وبذات الضرورة الفنيّةَ المشار إليها آنفاً أرى ختم القصة القصيرة إيَّاها، مباشرةً من بعد تلك الجملة الأخيرة المعدَّلَة ("وعندما وهبت المرآة لعينيه.... إلى آخرهِ")، وفي فقرةٍ جديدةٍ، بالطَّبع، بنفسِ ختامها الذي اختاره لها مؤلِّفُهَا، أي بتِلكَ "القَفْلَة"، أو "الخَرْجَة"، إن يجز لنا هنا استعارة لغة توليف الموشَّح الأندلسي، البادئة بعبارتها القائلة: "تنمل الحلاق بخواء جوف المرايا، خاصة بعد أن قضى الكلب الرمادي وطره وركض خلف زبال ما" لكي تنتهي عِندَ عبارتها الأخيرة القائلة: "أحد المارة رأى [ذلك] المقطع الشعري معكوساً على المِرآة فأضاف كلمة "وطن" في آخر المقطع [إيَّاهُ] حتى تكتمل القصيدة، وذهب".

قد بلغت الآن ختام هذا المقال وأرى الآنَ أنَّهُ ليس لي، بعد، سوى أن أُعيدَ، وكَفَىْ، عِندَ "خَرْجَتِهِ" هذي وفي معرض تعليقي العام على هيئةِ الكتابة الصَّلاح-زينيَّة في القصة القصيرة المعنيَّة وفي مجمل كتابات صلاح الزَّين القصصيَّة-السَّرديَّة، قولي الذي سبق فيه والذي مُؤَدَّاهُ أَنَّ الكتابةَ "إن لم تُنسَجْ من صلات وجوديّة حقيقيّة، مستبطنة أو مُسْتَشَفَّة، في ما بين حدود وأطراف جملها المتراكمة، أفقياً وعمودياً، قد لا يُعَوَّلُ عليها، إلا قليلاً أو بنسبيَّةِ مقدار لا يُشْبِعْ ولا يهبُ ملاءً، حسيَّاً كان ذاك المَلاءُ أم نفسَّياً، أو حتّى روحيَّاً، ذلكَ إن تكُنْ هي، أصلاً وجذرَاً، مُهَيَّأةً لبلوغ تخُوم الرُّوحْ!".

سبتمبر 2012م-أكتوبر 2021م
إبراهيم جعفر

* نشرت قصة "المرايا الأخرى" تِلك ضمن مجموعة صلاح الزين القَصصيَّة المُسمَّاة "وضعيَّةٌ ترفو حكايا لتُرْوَىْ" التي صدرت عن دار ورد للطِّباعة والنَّشر والتَّوزيع، سورية، دمشق، 2011م.

khalifa618@yahoo.co.uk
////////////////////////

 

آراء