فاروق جيمس..سايبنا رايح وين؟

 


 

مأمون الباقر
5 September, 2015

 

في السابع والعشرين من أغسطس 2015، رحل فاروق محمد آدم، الشهير ب" فاروق جيمس". وبرحيله فقدت مدينة الأبيض - الذاكرة دوما لبنيها - واحدا من أبنائها المخلصين والشاهدين على كبريائها الذي لم ولن ينهزم أمام جحافل الظلام وجيوش القادمين الجدد من جهات الله الأربع، لا يحملون سوى طموحات دنيوية، كان لها أهل المدينة رافضون

وليسمح لي أهلي وأصدقائي في المدينة العصية على الإنهزام والإنحناء. ولتسمح لي شوارع المدينة المضاءة بألوان ساكنيها. ولتسمح شوارع الأبيض وأحياؤها وأزقتها بأسمائها القديمة المترفة ولتسمح لي دكاكينها التي تحتل موقع القلب منها، ولتسمح لي مطاعمها ومقاهيها وسوق خضارها ولحمها، أن أكشف عن معلومة قد تكون جديدة على البعض وقد تكون معروفة لدى آخرين كثر. نعم أنا من الأبيض وإليها إنتمي، بحكم تأريخ عائلتي "أسرة القاضي عربي أحمد كنين الهواري".

المعلومة هي إنني وبحكم عمل والدنا الراحل الشيخ الأستاذ الباقر موسى عثمان عربي لم أسكن - سكنى متصلة - بهذه المدينة الأنيقة إلا لفترة أربع سنوات فقط. تلك السنوات قضيت ثلاث منها وأنا طالب بمدارس كمبوني. وحين تم فصلي لأسباب     سياسية، قضيت السنة الرابعة وأنا مساعد مخزنجي بشركة إسبيرات كردفان لصاحبها الراحل محمد الحسن عبد الله يسن. بعدها غادرت المدينة طلبا للعلم تحت إلحاح رجلين قامتين يعود لهما الفضل فيما أنا فيه الآن. وكنت قبل مغادرتي لاعبا بفريق الترسانة الذي لم يقم بإلغاء قيدي بكشوفاته، ومتحدثا في منتديات المدينة، سياسية أو ثقافية أو إجتماعية. ولم تتح لي تلك الفترة القصيرة رفاهية التعرف على الكثيرين من أبناء المدينة من الذين كان يجب أن أتعرف عليهم. فمعذرة.                تلك مقدمة مهمة. فالأربع سنوات تلك كانت ذاخرة بكل ما يفيد العقل والجسم. فريق السوق كان يمتد من منزل الوالد الراحل الشاذلي أبو الحسن، والد القائد العسكري الكبير طارق الشاذلي وأستاذ علم الإجتماع بجامعات النرويج صلاح الشاذلي. وما بين منزلنا في قلب حي السوق ومنزل العم شاذلي كانت هناك منازل كثيرة. أولاد المأمون والشبوراب وأبشرش والشيخ محمد طه التيجاني وأولاده عبد الله وأحمد وإبراهيم. وبالطبع كان هناك الشاعر الفذ محمد عوض الكريم القرشي وآل خيال وآل عكاشة وكثير من الأقباط والهنود. وكان هناك منزل محمد آدم، وأولاده حسن وطلب وعلي وفاروق. وكانوا شبابا مثلنا، إلا حسن وفاروق فقد كانا يكبرانا، بالرغم من أنني لعبت لجانب حسن في فريق الترسانة ( ما زلت إلى الآن أجهل الأسباب التي منعت فاروق من اللعب لفريق الترسانة – فريق الحي). تلك كانت ولا تزال عائلة من "أولاد البلد"، وكفى.

على عكس أشقائه كان فاروق طويل القامة ولا تفارق الإبتسامة شفتيه. وكان يعشق اللهو والمرح والمقالب. لعب لنادي التحرير أيام السر أبدومة وأزهري الحلبي وعميري "الشقيق الأكبر للفنان العظيم العميري وكان لهم دكان يجاور منزل سوار الدهب". في نادي التحرير لعب وأجاد. أظنه قضى موسمين ثم رحل إلى فريق الأهلى بمدينة ود مدني. طوال تلك الفترة إلتقيته مرات قليلة، حين كنت أقضي الإجازة السنوية بمدينتي. و أستطيع أن إدعي إنه كان صديقي. ولا تزال ذكريات تلك اللقاءات عالقة بالذاكرة.

سافرت بعدها. سرقتني الغربة. قضيت سنوات طويلة وأنا خارج "شبكة السودان". وحين عدت وزرته كان يجلس على كرسي متحرك. وكان مبتسما ووجهه مضيئا. إبتسم وقال "ها أنا ذا إبتسم لك". بكيت وبكى. قبل نحو ثلاث سنوات هاتفني الصديق المناضل عثمان أبو راس ونقل لي خبر تواجد فاروق بالخرطوم. ذهبت إلى حيث كان يقيم في شقة مفروشة بحي الرياض. كان يبدو عليه إرهاق عظيم، لكنه كان يوزع الإبتسامات على الحاضرين. قال لي " عازوين يقطعوا الرجل التانية وأنا أبيت. يعني عاوزين يكسحوني". اطلق ضحكة مجلجلة قبل أن يضيف "يلقوها عند الغافل". أذكر أن نجل الصديق الأستاذ حسن عبد الله كان حاضرا. إندهشت لوجوده وهو الذي يصغر فاروق بسنوات "ضوئية". زالت دهشتي حين تأملت علاقات أبناء الأبيض, حسن عبد الله كان حاضرا في المرتين اللتين زرت فيهما فاروق بمنزلهم بالأبيض. إذن هي علاقة ممتدة. الأب صديق فاروق والإبن كذلك. غادر عائدا للمدينة الوسيمة. كنت أهاتفه بين فترة وأخرى. وكان لا يفارق تفكيري.

إذن فاروق قد رحل عن هذه الفانية. وتلك مشيئة الله. وكلنا ميتون. ولكن هذا الرحيل الذي جاء بعد مكابدة طويلة مع المرض، لا يعني أن فاروق جيمس لم يعد بيننا. روحه الشفيفة تهوم حولنا بإبتسامته تلك النقية. فاروق حي يرزق في إثنين من أرقى الفنون الإنسانية وفي واحدة من أجمل ما خلق الله. فاروق حي في المستديرة التي كانت معشوقته الأولى. فاروق حي في الفنون التشكيلية وأعمال السعف. فاروق حي في إبتسامات أطفال مدينة الأبيض وفي قلوبنا. أهناك ما هو أرقى وأجمل من هذا؟

يا فاروق سايبنا رايح وين؟        

                                                                                                             mamounelbagir@yahoo.co.uk

 

آراء