فاشر السلطان… من التجذير إلى المجزرة

إبراهيم برسي
zoolsaay@yahoo.com

“فاشر السلطان” ليست مدينةً في الأطلس، بل وجعٌ متوارثٌ في جغرافيا الروح، حيث يتحوّل التاريخ إلى بيت عزاءٍ مفتوح ومجازٌ للسلطة حين تُصاب في ضميرها، ويفقد السلطان ظله الأخلاقي.

لقد كانت عاصمةً للعدالة والنظام الأهلي، واليوم صارت مسرحًا للفوضى ومرآةً للخيانة. وبين “التجذير” و“المجزرة” يمتدّ قوس الزمن كله… من لحظة الغرس الأولى للخطاب العنصري حتى اكتمال ثماره في الدم.

فالتجذير هنا لا يعني التأسيس الطبيعي، بل “زراعة الشرّ” بوعيٍ سياسيٍّ متدرّج: حين تُربّى الجماعة على الخوف من الأخرى، حين يُمنح القتل لغة، وتُحاط الكراهية بشرعية العقيدة، يصبح الدم نتيجةً منطقية لا حادثة. وما المجزرة إلا النطق الأخير لجذرٍ طويلٍ في باطن الأرض، غُذّي بخطاب الجبهة الإسلامية منذ عقود، وتحوّل مع الزمن إلى بنيةٍ من الوعي لا ترى النجاة إلا في إفناء المختلف.

إنّ ما حدث في الفاشر اليوم هو نهاية “زمن التجذير”، وبداية زمن الحساب. مدينةٌ كانت يومًا عاصمةً للسلطنة صارت الآن عاصمةً للوجع، ليس لأنّها اختارت ذلك، بل لأنّها حُمّلت وزر دولةٍ لم تعرف العدل يومًا، وجبهةٍ لم تكتفِ بالسلطة فحسب…

منذ استقلال السودان عام ١٩٥٦ ظلّ إقليم دارفور يقف عند تخوم الذاكرة الوطنية كأكثر المساحات هشاشةً، لا لندرة البشر، بل لندرة العدالة. عاصمة السلطنة القديمة التي امتلكت يومًا مشروعًا سياسيًا متماسكًا، تحوّلت ببطءٍ وبتواطؤٍ صامت إلى فضاءٍ لتجريب الفشل الوطني في كل أشكاله: التهميش والعنصرية وإدمان المركز على إنتاج الأطراف بوصفها “مشكلة”.

لم يكن الصراع في دارفور صراعًا بين قبائل، بل بين دولةٍ بلا خيالٍ سياسيٍّ ومجتمعاتٍ متروكةٍ لحظّها البيئي. الدولة التي وُلدت في الخرطوم كانت دولةً مركزيةً تُخفي عجزها عن التنمية خلف خطاب الوحدة، وتتعامل مع دارفور كظلٍّ لا كمكوّن. ومع مرور السنوات، تكرّست هذه اللامبالاة في سياساتٍ تنمويةٍ انتقائيةٍ جعلت الإقليم يعيش على هامش التاريخ الوطني، بينما تواصل النخب احتكار التعليم والموارد والمناصب. بذلك زُرعت بذور الغبن التي نمت وسط الجفاف وازدهرت في صحراء التفاوت.

في السبعينات والثمانينات، حين اجتمع الجفاف والتصحر والمجاعة، انهار نظام التوازن التاريخي بين المزارعين والرعاة، وانهارت معه الإدارة الأهلية التي كانت تحفظ تداخل المصالح. وزيادةٌ في أعداد الرعاة والنازحين من تشاد والنيجر لم تكن مجرد أثرٍ طبيعي، بل بداية انهيارٍ في ذلك النظام. كانت “الحواكير” — ملكيات الأرض التقليدية — تُدار وفق أعرافٍ دقيقةٍ تحفظ التداخل بين المصالح، لكنّ انهيار الإدارة الأهلية بعد الاستقلال، وقيام السلطة المركزية بتقويضها تدريجيًا، ألغى هذه الآليات الضامنة. وهكذا تحوّلت النزاعات الصغيرة بين الرعاة والمزارعين إلى نزاعاتٍ مسلّحةٍ يختلط فيها الدفاع عن الماشية بالدفاع عن الهوية.

مع عودة المقاتلين من ليبيا، دخلت أفكار “القومية العربية” القادمة من طرابلس إلى دارفور، حاملةً معها خطاب “نقاء العرق” و“الحقّ التاريخي في الأرض”. ظهرت وثيقة “تجمّع العرب” عام ١٩٨٧، وكانت إعلانًا مبكرًا لتسييس الانتماء الإثني وتغذية صراعٍ لم يعرف أحد كيف يطفئه. اندلعت الحرب الأولى بين الفور والجماعات العربية في ١٩٨٧–١٩٨٩، وحصدت آلاف الأرواح ودمّرت القرى والمزارع، وأعلنت بداية عهدٍ جديدٍ من الانقسام.

ثم جاءت لحظة ٣٠ يونيو ١٩٨٩ المشؤومة… حين أطاحت الجبهة الإسلامية بالحكم المدني الديمقراطي، لتقيم مشروعها “الكلياني” “Totalitarian” باسم “التمكين”. لم يكن الانقلاب مجرّد استيلاءٍ على السلطة، بل انقلابًا في معنى الدولة نفسها. جرى تفكيك الخدمة المدنية وإقصاء الضباط غير الموالين، وزُرعت الحركة الإسلامية في مفاصل الدولة الحسّاسة. في دارفور، اتخذ المشروع وجهين: خطابًا دعويًا يعد بالعدالة، وممارسةً قهريةً تزرع الشقاق بين القبائل وتمنح الولاء القبلي بعدًا عقائديًا.

تحت ظلّ هذا النظام، تحوّلت دارفور إلى “هامشٍ ذهنيٍّ” أكثر من كونها هامشًا جغرافيًا. استُخدم الدين لتسكين الغضب، واستُثمر الفقر لإنتاج الطاعة، وسُلّحت القبائل بحجّة الدفاع عن النفس. كانت تلك بداية “الهندسة العرقية” في السودان الحديث، يراد بها خلق توازنٍ يخدم بقاء النظام وليس استقرار المجتمع.

في منتصف التسعينات، أُعيد تقسيم دارفور إلى ثلاث ولاياتٍ جديدة، في محاولةٍ لتفتيت النفوذ التقليدي لقبائل الفور والمساليتوالزغاوة. جرى تمكين زعاماتٍ قبليةٍ عربيةٍ قريبةٍ من السلطة، وإضعاف الإدارة الأهلية التاريخية التي كانت تمثّل آلية الضبط الاجتماعي.

عام ٢٠٠٣ حمل أبناء الإقليم السلاح تحت رايات حركتي تحرير السودان والعدل والمساواة، في محاولةٍ لاستعادة صوتهم الغائب. كان تمرّدًا على التهميش، لكنّ ردّ الخرطوم لم يكن سياسيًا، بل انتقامًا جماعيًا. استُدعيت مليشيات “الجنجويد” لتقوم بالمهمة القذرة: الإبادة باسم “حماية الدولة”. خلال عامي ٢٠٠٣ و٢٠٠٤ اشتعلت الأرض كما لم تشتعل من قبل. القرى التي لم تكن تُعرف إلا على الخرائط صارت عناوين للموت: كُتم، كبكابية، طويلة، مورني، وهبيلا. أحرق الجنجويد القرى وسوّوها بالأرض. تحوّلت تلك القرى إلى رماد، والأجساد إلى خرائط للعار. قُتل مئات الآلاف، ونُزح الملايين إلى معسكراتٍ صارت أسماءها مرادفةً للفقد: كلمة، أبو شوك، زمزم…

لم يكن السلاح وحده أداة الحرب، بل الكلمة أيضًا. عبر الإعلام الرسمي والصحف الموالية، صُوّر المتمرّد كـ“عبدٍ متمرّدٍ على سيده”، و“مرتزقٍ يخدم أجندةً خارجية”. كان الخطاب وجه الرصاصة الآخر، يبرّر القتل بإسقاط إنسانية الضحية. وما حدث في رواندا عام ١٩٩٤ تكرّر هنا بلغةٍ دينيةٍ منمّقةٍ تجعل من الإبادة “جهادًا”، ومن الاغتصاب “نصرةً للعقيدة”.

وفي عام ٢٠٠٨، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرة توقيفٍ بحقّ عمر احمد البشير بتهم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، لكن الرجل ظلّ يحكم حتى سقوطه في عام ٢٠١٩. خلال تلك السنوات ظلّ الإفلات من العقاب هو القاعدة، وانتقل إرث الجنجويد إلى قوات الدعم السريع، كما انتقل خطاب الهيمنة العرقية إلى جيلٍ جديدٍ من القتلة… أكثر حداثةً، وأشدّ قسوة.

حين سقط نظام البشير في أبريل ٢٠١٩، كان يُفترض أن يسقط معه منطق الجبهة الإسلامية، لكنّ “الجثة الفكرية” للنظام بقيت تتنفّس تحت رماد الدولة، في مؤسساتٍ لم تُطهّر، وفي عقولٍ لم تُراجع. بقيت شبكة الولاءات العسكرية والمالية ممتدةً من الخرطوم إلى تخوم دارفور. ولأنّ العدالة لم تُفعل، تحوّل كلّ قاتلٍ قديم إلى مشروع قاتلٍ جديد.

قوات الدعم السريع التي خرجت من رحم الجنجويد جرى “شرعنتها” سياسيًا بعد مشاركتها في حرب اليمن، ودُمجت في الدولة كقوةٍ رسميةٍ تملك المال والسلاح والغطاء الدولي. وهكذا اكتمل ما بدأته الجبهة الإسلامية: جيشٌ موازٍ، واقتصادٌ موازٍ، وسلطةٌ خارج القانون.

وفي الخامس عشر من أبريل ٢٠٢٣ اندلعت الحرب بين الجيش والدعم السريع، وكانت دارفور أول من دفع الثمن. من الجنينة إلى نيالا، ومن كُتم إلى الفاشر، تكرّرت المأساة القديمة.

في منتصف عام ٢٠٢٣ وثّقت الأمم المتحدة مئات القتلى في غرب دارفور، بينهم نساءٌ وأطفال، قُتلوا على الهوية. وفي أكتوبر ٢٠٢٥، حين حوصرت الفاشر — آخر معاقل الجيش في الإقليم — شهد العالم واحدةً من أفظع المذابح في تاريخ السودان الحديث. قُتل أكثر من ألفٍ وخمسمائة مدني خلال ثلاثة أيام… بعضهم في الطرقات، وبعضهم في منازلهم، وبعضهم داخل المستشفى السعودي الذي اقتُحم وأُعدم فيه المرضى والأطباء والممرضين على حد سواء.

لم يكن ما حدث هناك مجرد عملٍ عسكري… كان استئنافًا للهندسة القديمة نفسها: “إعادة تشكيل الوجود” على مقاس الأيديولوجيا.

المأساة أنّ الكراهية لم تكن صدفةً، بل صناعة. منذ التسعينات تَغذّى الخطاب الشعبي على مفرداتٍ عنصريةٍ أطلقتها السلطة ثم تبنّاها الناس دون وعي: “غرابة”، “شوايقة”، “زرقة”، “عرب”. كانت تلك الكلمات هي “المنشورات الأولى” لحربٍ طويلةٍ لم تنتهِ.

وما يحدث اليوم في الفاشر هو “النسخة الأخيرة من الخطيئة الأولى”. فالجبهة الإسلامية وإن خرجت من الحكم شكلًا، ما زالت تحكم عبر خلاياها العسكرية وخطابها الذي تسلّل إلى وعي الناس كما يتسلّل الدخان إلى رئةٍ مثقوبة. القتل لم يعد يحتاج إلى مبرّر… يكفي أن يكون الآخر مختلفًا. وكلّ جثةٍ جديدةٍ توقيعٌ مؤجّلٌ على وثيقةٍ قديمةٍ كُتبت يوم قرّر الإسلاميون أن يحتكروا الله والوطن والهوية معًا.

إنّ دارفور ليست مجرّد إقليمٍ منكوب، بل مرآةٌ مكبّرةٌ لعجز السودان عن مواجهة تاريخه. وما لم تُقَلّ الحقيقة كاملةً عن دور الجبهة الإسلامية في “تجذير المجزرة”، ستظلّ كلّ فاشرٍ قادمةٍ مشروع إبادةٍ جديدة، وستظلّ الأرض “تلعق دماءها، كأنّها تتأكد من هويتها كل يوم”.

إنّ ما جرى في دارفور منذ أوّل شرارةٍ في الثمانينات وحتى مشاهد الفاشر الأخيرة ليس سوى “تاريخٍ لوعيٍ مريض”… وعيٍ صاغته الجبهة الإسلامية على مهلٍ لتجعل من العنف قانونًا طبيعيًا، ومن القهر نظامًا للنجاة.

حين نفكّر في هذه الكارثة، نكتشف أنّ المأساة لم تكن في الدم المسفوح فقط، بل في “اللغة التي جعلت سفكه ممكنًا”. كلّ مجزرةٍ تبدأ بكلمة: حين يُسلب الإنسان من اسمه ويُعاد تعريفه بوصفه خطرًا أو نجسًا… هناك تبدأ الإبادة.

الجبهة الإسلامية لم تكن سلطةً فحسب، بل “آلةً لغويةً” أفرغت الكلمات من معناها، وحوّلتها إلى أدوات قتلٍ مؤدلجة. وما زالت روحها — روح الاستعلاء الديني والعرقي — تحوم فوق سماء الخرطوم والفاشر على السواء، تبحث عن جسدٍ جديدٍ لتسكنه.

عن إبراهيم برسي

إبراهيم برسي

شاهد أيضاً

“وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر”… تأملات في هشاشة الإنسان أمام الموج

إبراهيم برسيzoolsaay@yahoo.com لا يبدأ البحر من الموج، بل من الداخل… من تلك اللحظة التي يقرر …