في اضمحلال الطبقة الوسطى

 


 

عمر الدقير
20 November, 2017

 



يُنْسَب لأحد المسؤولين اليابانيين قوله أنَّ سِرَّ النجاح الباهر الذي حققته التجربة اليابانية هو الوجود الكمِّي والنوعي المُمَيَّز للطبقة الوسطى، التي تشكل ثلاثة أرباع السكان، والتي ظلَّت تضخُّ معرفتها وكفاءتها وحيويَّتها في شرايين المجتمع وتدفع به نحو التقدُّم في مختلف الحقول.
لا نزعم أنَّ وجود طبقة وسطى عريضة في أي مجتمع هو العامل الوحيد لتحقيق النهضة والتقدُّم وإنجاز المهام الوطنية الكبرى، لكن لا جدال في أنَّ إنحسار الطبقة الوسطى يعني انحسار دورها الهام في عملية النهوض والتقدُّم كونها أحد الروافع الأساسية للعمل الوطني ومحور الحراك الفاعل لقوى التغيير وكونها تمثل مستودعاً لقيم المجتمع وملامح ثقافته، كما هي حامل مشاعل الوعي والإستنارة ومستودع إرادة التغيير .. والوجود العريض للطبقة الوسطى في المجتمع يحافظ على نسيجه القِيَمي ويمدُّه بأسباب القوة والإبداع، كما يؤشر لوجود قَدْرٍ طيب من العدالة الإجتماعية وتكافوء الفرص ومحدودية الفوارق الطبقية، مما يساعد على تماسك المجتمع ويُجنِّبه الإضطرابات والهزّات ويوفر فرصاً عظيمة للإستقرار والتقدم. فالطبقة الوسطى تضم الكتلة البشرية التي تتمتع بالحيوية وتتمتع بمستوى تعليمي وثقافي ومهني يجعلها مؤهلة للعطاء الثَّر في شتَّى المجالات، وهي - بحكم تركيبتها ووضعها الإقتصادي الذي ينزل بها دون مستوى الثراء الفاحش ويرتفع بها فوق مستوى الفقر المعوز - الأقدر على التعبير عن آمال وآلام المجتمع ومن ثَمَّ العمل على إنجاز التغيير المنشود من خلال حراكها، في كافة المجالات، عبر التنظيمات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني كما حدث في السودان خلال تاريخه الحديث، حيث كانت الطبقة الوسطى صاحبة أدوار حاسمة في تحقيق أهمِّ المآثر والإنتصارات السياسية للشعب السوداني مثل إسقاط نظامي نوفمبر ومايو العسكريين بوسائل مدنية سلمية قبل عشرات السنين من الربيع الذي هبّت رياحه على شعوب المنطقة أوائل العقد الحالي، كما كانت منجماً للإبداع في ساحات الفنِّ والأدب والرياضة.

في وجهٍ من الوجوه، يمكن تقرير أنَّ الطبقة الوسطى هي مولود شرعي للدولة، إذ أنَّ سياسات الدولة - وتحديداً في المجال الاقتصادي والاجتماعي - هي العامل الأكثر تأثيراً في تحديد النطاق الكمِّي للطبقة الوسطى وفعاليتها .. فالدولة المهتمة بالتنمية الإقتصادية والبشرية هي مصدر أسباب المعرفة والإستنارة والرفاه المعقول - وبالتالي الفعالية والحيويَّة - لهذه الطبقة بما توفره لأفرادها من تعليمٍ وتأهيلٍ وتدريبٍ ومداخيل مادية من خلال التوظيف في دواوينها ومؤسساتها الخدمية والإنتاجية إلى جانب اهتمامها بتهيئة البيئة لتشجيع الاستثمار في قطاعات الإنتاج، الشيء الذي يتيح للأفراد مجالاً للنشاط الإقتصادي وفرص عمل في هذه القطاعات.

وفقاً لذلك، تبدو مقبولةً وجهة النظر التي تقول بأنَّ أحد أهم عوامل بقاء أنظمة الحكم المستبد جاثمة على صدور شعوبها لفتراتٍ طويلة - رغم تراكم أسباب الإنتفاض الشعبي ضدها، من ظلمٍ وكبتٍ وفسادٍ وفقرٍ ومسغبة - هو تآكل الطبقة الوسطى أو إصابتها بالضعف والهشاشة، بفعل سياسات هذه الأنظمة .. وقد لا يختلف اثنان في أنَّ دولة نظام "الإنقاذ" تقاصرت عن مسؤولياتها في الرعاية الاجتماعية والتنمية البشرية وأطلقت العنان لسياسة التمكين الحزبي ونهج التحرير الإقتصادي غير الرشيد، ولم تكتفِ بإهدار عائدات النفط في بالوعة الفساد وسوء الإدارة - بدلاً من تسخيرها لبناء قواعد إنتاجية - بل دَمَّرت ما كان موجوداً من تلك القواعد، ما أدَّى لاضمحلال الطبقة الوسطى بإفقار مجموعات كبيرة من منسوبيها، وإضعاف ما تبقى منها، حيث اضطر كثيرون لعبور البحار والمحيطات بحثاً عن أسباب عيشٍ كريم في شتات المنافي بعد أن أصبح تأهيلهم العلمي والخبراتي غير مرغوبٍ في ظِلِّ سياسة التمكين الحزبي وتفضيل الولاء على الكفاءة، ومن بقي داخل الوطن بقي مهمشاً ومحروماً من حقوقه الأساسية يستنفد جهده ووقته من أجل البقاء على حدِّ الكفاف .. وكان نتيجة ذلك فقدان الواقع السياسي والإجتماعي للوجود المؤثر للطبقة الوسطى، ولعلَّ هذا يعني فقدان أهم حواضن الحراك اللازم لإنجاز التغيير ويقدم تفسيراً مقبولاً لتعثر إنجازه رغم وفرة أسبابه الموضوعية ومحفِّزاته.

لكن مهما بلغت درجة الخلل في التوازن الإجتماعي، فإنَّ قرائن التاريخ تؤكد أنَّ الولادة الجديدة هي وعدٌ قائم لكل شعبٍ حي مهما طالت فترة المخاض وتعاظمت أوجاعه .. فالثورة الفرنسية انفجرت عام 1879 في مجتمعٍ سيطر عليه تحالف الكنيسة والإقطاع ردحاً طويلاً من الزمان وعاث فيه فساداً واستبداداً حتي وصل به إلى دركٍ سحيق من الإنحطاط .. وبعيداً عن الغوص في أعماق التاريخ، يكفي النظر لثورة 25 يناير المصرية - بصرف النظر عن مآلاتها - والتي فجّرها الشباب المصري في ذروة اليأس من التغيير بعد عقودٍ بلغ فيها الإستنقاع السياسي والإقتصادي والإجتماعي أبعد مدىً وعانت فيها القوى السياسية ومؤسسات المجتمع المدني من مشكلات بنيوية وضمور في حراكها وفعاليتها جراء عسف السلطة وسياساتها التي سحقت الطبقة الوسطى.

لذلك يخطيء نظام الإنقاذ حين يغتَّرُّ بطول أجله في السلطة ويحسب صمت الشعب رضاءً أو خنوعاً أو يحسب أنه في مأمن من رياح التغيير استناداً إلى الفكرة القائمة على قدرة مؤسسات الإستبداد والفساد على السيطرة على مفاصل المجتمع وتدجين الشعب وإدخاله في تابوت جماعي لمنع حراكه الإنساني الحر ومنع إمكانية إلتئامه في جبهة عريضة حيّة تمارس الفعل النضالي المجيد من أجل الحرية والكرامة والعدالة وكلِّ شروط الوجود الكريم .. فالشعب المنكوب بنظام حكمٍ مستبد قد يُغيَّب الكثير من أفراده عن الوعي بالظلم والفقر والحرمان من الحقوق وقد يكظم غيظه ويُلجِم غضبه ويطيل حبال الصبر، وقد "يلوذ بالصمت وهو يحاول تجميع عناصر الحركة فيه" - كما يقول رينيه ديكارت - لكنَّ ذلك كله لا يعني على الإطلاق بقاء الحكم المستبد للأبد .. فتراكم الظلم والفقر والحرمان من الحقوق لا بدّ أن يصل ببركان الغضب الشعبي إلى درجة غليانٍ يُحطِّم بها قشرة التدابير الأمنية، مهما كانت سماكتها، ويقذف بِحِمَمِهِ إلى الشوارع .. وما زالت هذه صيرورة التاريخ وخطه الذي يجري عليه، لا يحيد عنه ولا ينتهي عند حاكمٍ فرد أو حزبٍ حاكم .. فما مِن شعبٍ ظلَّ مقهوراً للأبد، وكم مِن تابوتٍ تحوّل إلى مهدٍ يضجُّ بالحياة ويزلزل عروش الطغاة.

*صحيفة "أخبار الوطن" - ١٩ نوفمبر ٢٠١٧

omereldigair@yahoo.com

 

آراء