تقرير أنثربولوجي
كتبتُ هذه المقالة الأولى تعليقاً على تطور المُفردات والإشكاليات المفاهيمية الذهنية المُستمرة المُتحركة غير الثابتة في الخطاب السياسي لنائب رئيس مجلس الدولة (السيادة) السابق ، منذ 2019 مُروراً بمحطة حرب 15 إبريل الخ (مسرحية التخلُص من النفوذ الإجتماعي السياسي لقائد قوة الدعم السريع).
من الدراما السياسية إلى المأساة
في خطابه الأخير من مساحة حرب الخرطوم إلى مساحة حرب كردفان الشمالية ، محاولة نقل الحرب وتوطين الصراع في إقليم شمال كردفان مُماثلاً لتوطينها ذات الصراع في دارفور على مرحلتين.
المرحلة الأولى لإستيراد الصراع من خارج الريف من المركز إلى الهامش ، من الخرطوم إلى الهامش.
الصراع في الخرطوم حول الولاء لثورة الترابي Turabism الثقافية (حالة تزاوج ثقافي بين ثورة ثقافية وإثنية سياسية ، النموذج الكتابي للوطنية الفاشية ضد قوميات أخرى منافسة) من قبل مُثقفي الزغاوة الذين كانوا موالين للترابي (المهندس الثاني لسياسات الهوية وتعبئة الأقليات في السودان الشمالي بعد عبدالرحمن المهدي).
بمجرد نجاح مسرحية إبعاده من السلطة 1999 وطرد أتباعه ، نشأت مظلومية مصطنعة سياسياً من إشكاليات وتناقضات الواقع المحلي في المديرية السابقة الإقليم الموحد لاحقاً على يد البريطانيين 1916 ، الذي اعيد إنتاج وحدته السياسية على يد نظام النميري والدكتور جعفر محمد علي بخيت.
المرحلة الثانية هي مرحلة توطين الصراع وإعادة إنتاجه ، من خلال نقل مورفولوجيا الصراع الأصلية من صحراء شمال دارفور ، إلى جنوب دارفور قبل أزيد من عقدين. الأمر الذي أدى إلى توليد روابط قنانة هامشية (مرتزقة الريف) مثلت تصدعاً ثورياً لعلاقات الإنتاج والمجاورة الإجتماعية والتعايش في الريف Rural decay.
تمثل إنتفاضة الخبز 2019 ( تمظهراً متأخراً للظاهرة الشبابية الثورية من رابطة القنانة والتبعية الطبقية الهامشية الحضرية في المدن (ترييف المدن) Suburbanization مثلت أيضاً تصدعاً ثورياً للإخاء الطبقي في المدينة ، بنحو عقدين عن ولادتها في حرب الريف السودانية في دارفور وحزام السافنا 2003.
ملاحظات :
ظاهرة مُرتزقة الريف من البروليتاريا النفطية لاحقاً الرعوية سابقاً ، ثورة شباب البادية المنسلخين عن قيم الإثنية العائلية والعشيرة الكلاسيكية والإندماج الإجتماعي ، المورد السياسي للظاهرة المدمرة للمجتمعات المسماة (قوات أم باقة) ، أدت إلى إنتاج أبعاد الحرب الحالية وموردها السياسي (نظرية المورد السياسي للصراع).
(1)مأزق أيدلوجيا إنتقامية
نقاش حول إعادة تعريف أيدلوجيا ديسمبر 2019
يمكن تعريف أيدلوجيا ديسمبر 2019 ضمن صراع الأيدلوجيات التاريخية في عملية ولادة وتشكيل الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى.
من خلال فهم ديناميات الثأر التاريخي أو الثأر السياسي من جراء ذلك. فهم سايمون فايل (ديناميات التجذر والإقتلاع) فهماً أنثربولوجيا صحيحاً.
كواحدة من الأيدلوجيات الإنتقامية المتأخرة Later Revanchist Ideologies المُتنازعة على تشكيل الشرق الأوسط و الحدود الثقافية الإجتماعية لدولة مابعد الإستعمار.
النزاع الداخلي الذي لم يجد مجاله الطبيعي وفرصته التاريخية في الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى حيث سقطت الإمبراطورية نفسها ، كما وجدت فرصة تاريخية مماثلة لنقاشه في أوربا الشرقية تحديداً مابعد هزيمة الإمبراطوريات والجمهوريات الغربية التوسعية في الحرب العالمية.
حينذاك قامت بريطانيا بقمع هذا النقاش من خلال إتفاقية سايكس بيكو ، ونزعة توحيد الحدود الإستعمارية الحديثة بالقوة Unification.
الثورة اليمنية المصرية التونسية السورية الخ حملت نفس النزعة الإنتقامية من خلال العمل على تصفية التشكيلات الإجتماعية التي سيطرت على الدولة بعد الإستقلال بما فيها من إثنيات وطوائف وأقاليم والعمل من جديد على إخضاعها وإذلالها.
ثورة ديسمبر لا تختلف عن أكتوبر التي خرجت من مدينة الأبيض في 1964 قبل أن يختطفها مثقفي الممالك الشمالية العشرة في الخرطوم بمساعدة الأقليات (غير الشمالية) داخل حدود الإقليم الشمالي ، التي أصبح يسميها الدعم السريع قوى (الفلنقاتيزم) أو التبعية Subordination.
لا تختلف كثيراً في بنيتها حيث تحالف الأقليات المدينية هذه المرة مع (روابط القنانة الهامشية) التي يُسميها الدكتور ابراهيم البدوي ثورة الشباب من البروليتاريا الحضرية المنفصلين عن مُجتمعاتهم الام (القبلية) ، عن إثنياتهم وهوياتهم الفلاحية الإثنية ، لصالح نخب كمبرادورية شاركت في كل مراحل الإستعمار (عائلات الإستعمار) مثلت في لحظة ما البرجوازية الكبيرة و الإقطاع.
قبل أن تذهب في منحىً أكثر عنفاً بتحالفها مع تشكيلات إجتماعية (إثنيات) لا مركزية الوزن الديموغرافي في الريف ، مع الأقليات الخلاسية غير المستقرة زراعياً التي يمثلها الدعم السريع ، التي كانت تمثل قلباً للمحتوى العرقي لمشروع ثورة الترابي ورافعته الإثنية في التسعينات ضد مقاومة المجتمعات الوطنية الفلاحية المستقرة زراعياً لتبشيره السياسي.
الخطاب الثوري العدمي لأيدلوجيا ديسمبر لاحقاً حرب 15 إبريل ، هو أيدلوجيا مابعد الحرب ماقبل الحرب منذ 1955 وخطاب محمود محمد طه احد مثقفي الممالك الشمالية العشرة الذين إستوطن اهله وسط السودان بمساعدة عائلات الإستعمار الإقطاعية التي يسميها الطائفية نفسها (!) ، تبحث عن التجذر enracinement من خلال ممارسة الإقتلاع deracinement ، مرة إقتلاع الطائفية من خلال الحرب ضد الجزيرة ابا والثورة المضادة (1969-1970) ومرة إقتلاع الريف والحرب غير الضرورية من ود مدني إلى النهود والدلنج بحثاً عن قائمة من الكيزان (!) , ومرة الحرب ضد المتعاونين (2023).
(2)
من أيدلوجيا ديسمبر إلى حرب 15 إبريل
أنثربولوجيا الحرب وإعادة تعريفها
أيدلوجيا إنتفاضة ديسمبر 2019 ، مُقاومتها الواقع المحلي Pre-Statehood ، وعبثها بإثنوغرافيا الوعي الاجتماعي الساكن (الخامل) غير الثوري في الريف بتركيبه الإداري الإقليمي ودون الإقليمي غير المتحفز لصيغة التغيير السياسي المطروحة في وثيقة الإتفاق الإطاري لإعادة إنتاج الهيمنة والقهر لصالح فئات إجتماعية لا يمكن بسهولة إعادة تسويقها إجتماعياً وإن كان قد تم تسويقها سياسياً في الغرب كبديل ليبرالي بسبب إرتباطها بمظالم إجتماعية طويلة ذات طابع إقطاعي في ذات الريف ، مسئولة عن صناعة هذا التجريف المُدمِّر للمجتمعات الريفية المحلية المستقرة زراعياً وشبه المستقرة زراعياً (التدمير الذاتي) في الهامش العريض (الأقاليم) ، مُتثاقل الخُطى في إصرار عنيد (تمسُك بتكرار الأخطاء) مُختبِراً للهيمنة ، هذا النزيف المُهرق بالدم المُسمى حرب 15 إبريل.
لا تختلف بذلك ولا في خصوصيتها عن النسق البنيوي نفسه ، في أيدلوجيا إنتفاضة الخبز اليمنية الشمالية فبراير 2011 ، أيدلوجيا إنتفاضة الخُبز المصرية يناير 2011 التي كانت قد تميزت بإنقساميتها منذ البداية.
فهي أيدلوجيا وعي إستباقي فائق ، منتج من خارج الواقع المحلي pre-colonial statehood situations (أوضاع ماقبل دولة الإستعمار) المذكورة من خارج الريف ولا تعبر عن همومه ومشاكله إلا جزافاً (يحتاج ذلك لإثبات طويل) ، بواسطة طبقات أرستقراطية مخملية من عائلات أسلاف الاستعمار colonial ancestors في القرن التاسع عشر بداية من مُخلفات عائلة الدفتردار إلى عائلة المهدي.
أنثربولوجيا التأييد السياسي والمعارضة
التحليل الإجتماعي عن حرب 15 إبريل ، انها صراع داخل مؤسسات الحُكم مابعد الإستعمارية (داخل منظومة الجيش) بين التشكيلات الإجتماعية المهيمنة أو الحاضرة داخل المؤسسة العسكرية للدولة التي كانت إثنيات البقارة أو وحدة إثنيات العطاوة الخ ، إلى جانب إثنيات سلطنة دارفور المنحلة الأخرى بشكل نسبي ، دائما خلال سبعين عاماً جزءاً منها.
صراع إجتماعي بين التشكيلات الإجتماعية والإثنيات المؤيدة لنظام الجبهة الإسلامية للقوميين الشماليين والإثنيات المتضررة منه.
في ذلك الصراع الإجتماعي البحت ، تدخلت قيادة الجيش النظامي الشمالي لحسمه بالقوة من خلال إنحيازه لأحد الأطراف المُساندة للنظام الإستبدادي الفاشي الشمالي والمنتفعة منه (إثنيات وسط وشمال السودان).
تحليل طبيعة مشاركة قُوة الدعم السريع في النظام السياسي للفترة الإنتقالية
واحدة من نواقص تجربة الإنتقال السياسي في (2019) ..
1- ان قوات الدعم السريع لم يتم إنشاءها عام (2013) كجسم دولة ، بالتشاور مع ناظر إثنية الرزيقات الراحل سعيد مادبو أو الناظر الحالي محمود الذي خلفه ، أو بتجاوزهما بما مثل ذلك تهديداً إجتماعياً مستقبلياً للسلم الأهلي.
2- ان الناظر محمود مادبو لم يشترط ان يكون قائد الجيش واحداً من أبناء القبيلة في الكلية الحربية والقوات المسلحة خاضعاً لقرارات مؤسسة الإدارة الأهلية التي يعاديها المُثقفين الشماليين والجنوبيين من غير سبب موضوعي ، مقابل ضمان مُشاركة قوات الدعم السريع في تأمين الفترة الإنتقالية والتوافق على أجندتها. منعاً لإنزلاق قوات الدعم السريع إلى ولاءات جديدة وصراعات جديدة.
(إلى قوة “جهادية” جديدة كما كان الجهادية السود في القرن التاسع عشر يبيعون ولائهم السياسي لمن يدفع أكثر نسبة ممكنة من الغنائم من الزبير باشا إلى التعايشي).
محمد حمدان دقلو الذي كان قد قام من قبل بسابقة سجن زعيم قبيلته (تحالف قبلي) الشيخ موسى هلال ، متسبباً في موت احد المعزيين من رجال الإدارة الأهلية تحت التعذيب (يدعي الأمير أدم خاطر) ، لا يمكنه ان يخضع لتأثير الإدارة الأهلية بسهولة أو يؤمن جانبه بسهولة ايضاً.
شارك محمد حمدان دقلو في الفترة الإنتقالية بدعوة شخصية من قائد الجيش النظامي الذي تم إختياره إجتماعياً بنفس طريقة وآلية إنتخاب قادة الجيش مابعد الإستعماري الباكستاني والنيجيري من خلال مشاورات وقف وراءها مثقفي الممالك الشمالية العشرة.
تلك الدعوة في (2019) تجاهلت ناظر قبيلة الرزيقات والتفاهم معه حول مُشاركة الأخوين دقلو المحسوبين على القبيلة والذين يحملان إسمها في تصنيف السجل المدني.
هناك تساؤل جوهري لم يتم الإجابة عليه من عائلة الناظر مادبو و عائلة الناظر بابو نمر ، إلى جانب الناظر الهادي دبكة الإبن , الناظر السنوسي , الناظر السماني الخ ، بإسم من من المكونات الإجتماعية شارك محمد حمدان دقلو في الفترة الإنتقالية؟
بإسم من من المكونات الإجتماعية إنتمى محمد حمدان دقلو الذي سجن من قبل زعيم قبيلته ، إلى مؤسسة الجيش مابعد الإستعماري السوداني؟ حيثُ لا توجد قبيلة مُسجلة في السجل المدني في السودان الشمالي تحت مسمى (أولاد جنيد)؟
هل يمكن أن يذعن قائد القوات شبه العسكرية كممثل إجتماعي ، لقرارات مؤسسة الإدارة الأهلية أو قرارات القبيلة؟ ان هي اتخذت تقديراتها المساومة السياسية أو وقف الحرب أو توجيه مسارها؟
أم أنه سيشجع هؤلاء الشباب على الإنشقاق عن مؤسسة إجماع القبيلة؟
في الوقت الذي تعرض فيه محمد حمدان دقلو لشبح محاولة الإبعاد من السلطة والتهديد من قبل قائد الجيش إستنجد بالناظر محمود مادبو (2021) لمخاطبة سياسية جاء فيها مضطرا للإدلاء بما يشبه الإعترافات المتأخرة في سجلات التحري بناءا على طلب صاحبه ، (أن محمد حمدان دقلو إبننا وأننا نحميه).
تلاعُب مثقفي الممالك الشمالية العشرة المذكورة في توجههم اليساري واليميني معاً منذ أكتوبر 1964 ، بسياسات الهوية بالتركيب الإثني للجيش ونظام التمثيل الإجتماعي للمجتمع.
تشجيعهم مُكونات القبيلة ، أبناء القبيلة Tribe boys , شباب القبيلة Tribe guys ، الإنشقاق عن زعامتها الهيراركية مسؤول عن إنتاج حرب هُويات مجتمعية عن إنتاج الحرب الأهلية في دارفور 2003 وإستمراريتها من خلال حرب 15 إبريل.
تعرضت القبيلة للإستفزاز السياسي من قيادة الجيش علنا فعلاً و معنىً بغاية دفعها للحرب (2021) ، لم يتم مشاورتها في تشكيل قوات الدعم السريع أو مشاركتها في الفترة الإنتقالية.
لكنها لا يجب أن تنزلق وراء العاطفة ، بتكرار تجربة التعايشي والمُقاول السياسي عثمان دقنة ، مع الإدارة الأهلية للقبيلة والإدارة الأهلية للإثنيات الأخرى في غرب السودان وشرقه (1885) الذين حز رؤوسهم واحداً تلوا الآخر.
(3)
معالجة الخطاب المؤسسي
وظيفة الجيش والقوات شبه العسكرية
كيف تحولت قوات الأمن إلى فصيل سياسي محارب ؟
اليسار الشمالي من خلال عرابيه ووسطاؤه ، يتحمل المسؤولية التاريخية عن كارثة الحرب من خلال تسييس قوات الدعم السريع رداً على تسييس الجيش جزئياً أو كلياً في التسعينات من قبل اليمين الشمالي أو الفاشي.
منذ سبعين عاماً ظل الجيش النظامي يخوض حرب القومية الشمالية ضد القوميات الأخرى المنافسة والمعادية لها ، لكنه لم يكن يخوض حرب أيدلوجيات وفصائل سياسية كما حصل في 2023 معكوساً و 1970 بالأصالة.
المسئولية عن دعم منافستها السياسية داخل مؤسسة الجيش الحكومي وإنشقاقها عن المنظومة الأمنية العسكرية ، والزج بها في متاهة معترك الثورة (إنتفاضة الخبز) الأيدلوجي والسياسي.
حين أن مثقفي الممالك الشمالية العشرة (قحت) كان بوسعهم ببساطة ، ان يتحولوا إلى فصيل مسلح يحارب Militant nationalism من أجل تحقيق قناعاته في إيجاد الدولة التي تناسب خياله السياسي Statehood والتي تأخرت منذ 1955.
مثالياً ، كان يتوجب على قوة الدعم السريع كتشكيلة عسكرية داخل المنظومة الأمنية الحفاظ على موقعها المؤسسي ، البقاء في دائرة الحياد السياسي الإجتماعي والعودة أو الإنسحاب إلى إقليم دارفور بمجرد وقوع إنقلاب 25 أكتوبر 2021. وتدخل مواقف المجتمع الدولي لرفضه. وإعلان إستقلال الإقليم فيدرالياً من هناك من موقف إجتماعي قوى ، بدلاً عن المشاركة في حرب داخل العاصمة لن تكسبها بسبب الحاضنة الإجتماعية الإثنية المغايرة أو المعادية أو الخاضعة لهيمنة الدولة.
الطريق إلى الحرب الأهلية الطويلة كانت من خلال التسلسل المنطقي لموقف تبني قُوة الدعم السريع التي كانت واحدة من التشكيلات الإجتماعية اللامركزية في الريف السوداني (الهامش) ، أنثربولوجياً.
واحدة من التشكيلات الإجتماعية الرئيسية ذات الطابع الإقليمي (القومية الدارفورية) في المسرح السياسي الرسمي ، في المؤسسة العسكرية مابعد الكولونيالية.
تبنيها بمعزل عن التشكيلات الإجتماعية الاخرى المُسلحة في الريف (الهامش) ، من خلال توقيعها وثيقة الإتفاق الإطاري (2022) وإندفاعها لتنفيذه بدون وجود تحالُف جبهة وطنية متحدة في ذات الريف ، خطاب تحالُف (البرجوازية الشمالية الكبيرة) الطبقي مع أنتلجنتسيا اليسار الشمالي إسترداد هيمنتهم على الدولة في الستينيات والخمسينيات وإستئناف ما فاته في (1954) بنزعة إنتقامية Revanchist جديدة غير ما حاولته في (1969) وتَعثر إنفاذه بسبب تسوية (1973) مع القوى الإجتماعية الفلاحية المُحافظة أو صغار الإقطاعيين الشماليين.
التسوية الإجتماعية التي قادت إلى مُصالحة سياسية شمالية شمالية بين القوى اليسارية والقوى الفاشية اليمينية في (1977) ، أعتبرها ردة أو تنازلاً عن برنامج بناء الدولة وفق رؤية أيدلوجية ذلك اليسار الشمالي (خطاب الحل الجذري غير التفاوضي) ، بما مهدت إلى ولادة نظام يميني كامل في (1989).
(4)
إعادة إنتاج الخطاب المؤسسي وتحليل بنية الهيمنة والمعارضة
تخلت قوات الدعم السريع بذلك الإنحياز في نهاية (2021) عن التفويض المهني الكلاسيكي للمؤسسة العسكرية في الدولة الوطنية مابعد الإستعمارية ، الوقوف على مسافة الحياد من الصراع الإجتماعي وحفظ السلام الأهلي من خلال دور الوساطة الإجتماعية وتفادي الإنزلاق لتبني خطاب الأطراف المتصارعة.
الأمر الذي كان يؤدي دائماً إلى مُنزلقات حرب أهلية ، كما حصل في مُناسبات تاريخية بعد 2019 و 1969 و 1989.
من نماذج مُجاورة أيضاً مصر 2013 ، تونس 2019 ، اليمن 2014 ، عُرفت مُوخراً في الشرق الأوسط كثورات مضادة لكنها في الحقيقة والعُمق المعرفي ، ليست كذلك بل هي بديل عن الحرب الأهلية الطويلة (فرملة التغيير).
حيثُ تعتقد القوى الإجتماعية الجديدة (النيوليبرالية) للربيع العربي أن الولايات المتحدة خذلت التغيير.
لكن ذلك غير صحيح ، الصحيح هو أن مراكز الدراسات البحثية التي سمحت بحدوث إنتفاضات الخبز في الربيع العربي وتحولها إلى ثورة سياسية لإعادة إنتاج القهر والهيمنة في دولة الإستقلال ، دولة مابعد الإستعمار لمصلحة قوى إجتماعية فاعلة مختلفة ، أدركت بنفسها من خلال التجريب الحُر أن هذه الثورات ستقود إلى حروب أهلية طويلة (نظرية مُبكرة).
مما حدا بها السماح ومنح الضُوء مُجدداً للقوى الرسمية (القوى السياسية) بتعبير غرامشي لكبحها وقمعها بمفردها كما في الحالة النموذجية المركزية المصرية ، أو بالشراكة مع قوى إجتماعية أخرى لا مركزية أكثر مُحافظة ورجعية (اليمن مثالاً).
ذلك التبني الآحادي (الأخرق) لوثيقة الإتفاق الإطاري بمعزل عن تنوع خريطة التركيب والتشكيلات الإجتماعية في الريف (الهامش) أو توافقها ، مثَْل فخاً أمريكياً بتوصية كمبرادورية مصرية أو محلية توسلت للمصريين ، للتخلُص من المنافسة الإجتماعية للتشكيلة الإجتماعية لقوة الدعم السريع في المشهد السياسي الرسمي ، خريطة النفوذ فيه.
لم تلتقط قيادة قوة الدعم السريع هذه الإشارة ان الولايات المتحدة لم تعد مُتحمسة للتغيير ، لوثيقة الإتفاق الإطاري ، التي تحمل بصمة المُستشرق الألماني فولكر بيرث ، الذي حاول أن يستلهم المُستشرق المحلي حسن الترابي كثيراً في تصوراته الإستبدادية لنظرية التغيير السياسي والتجمييد السياسي في السودان (خطاب تحالف الأقليات والتلاعب بسياسات الهوية ، ديكتاتورية الأقليات).
مثلما مثل تعجُل قوة الدعم السريع وتشكيلتها الإجتماعية ، تعجلها دولة الغنيمة والإستحواذ من خلال تفاهمها الإنفرادي مع اليسار الشمالي ، رغبتها في إقصاء خريطة التشكيلات الإجتماعية الأخرى في الريف والهيمنة عليها من خلال التدمير أو الإستبعاد تحت ستار (الثورة) ومِعول الهدم الثوري الصلب ، كمسار كوربراتي سلطوي إلى ممارسة الحُكم.
طيلة عامين من الحرب رفضت قوة الدعم السريع حسمها (حسم الصراع) ، من خلال آلية الإجماع الإجتماعي أو الكتلة الحاسمة للتغيير أو من خلال تقبل كلفة التطور التكنلوجي وكلفة تبني نظريات التطور الإجتماعي بما فيها الفيدرالية المُمكنة وفدرلة الهامش بتعبير نائب الرئيس جوزيف لاقو 1981 (New Cocara) أو من خلال الإعتراف بحق الشعوب الوطنية والأقاليم الأصلية السبعة قبل الإستعمار بحق تقرير المصير والإستفتاء على إجماعها الداخلي وحدودها البينية Enterethnic borders.
من خلال الإعتراف بحق تقرير مصير الأقاليم التاريخية السبعة وحريتها في إعادة تنظيم حدودها الداخلية وهيكلة مجتمعاتهم من خلال فدرلة الهامش. والإستفتاء الذاتي على إجتماعهم الإنساني.
بدلاً عن ذلك تمسكت بإحداث تغيير ديمغرافي عرقي طبقي في كل إقليم تاريخي أو ما دونه من القوميات الثقافية ، على حدة.
من خلال الحرب غير الضرورية وتدمير المجتمعات المحلية والمدن. الحرب غير الضرورية ضد النهود وكردفان والدلنج وجبال النوبا الشرقية والنيل الأزرق ومدني التي لا توجد فيها مراكز سلطة ، لإحداث أكبر قدر من التجريف الإجتماعي ، من التهجير وحتى الإبادة التي تسمح لها بإعادة ضبط الولاءات الثورية السياسية من خلال سرديتها عن مطاردة الفلول وإجتثاثهم.
دون أن تقدم تعريف سيسيولوجي بمن هم الفلول؟ و إشهار قائمة الفلول التي تطالب بها؟
أو على أقل تقدير الإعتراف بالحكم الذاتي وتقرير المصير للمنطقتين (ا) و (ب) الذين يمثلان بقية الجنوب الكبير داخل الشمال ، وتحييد مورد الجندية فيهما من الحرب.
كان ذلك مؤشراً سلبياً الرغبة في الإستحواذ على حساب كل شي.
لم يكن مُمكناً إقتلاع النظام اليميني في (2022) بدون توافق قوى الريف الثورية ، تحديداً توقيع حركتي عبدالعزيز الحلو (الحركة الشعبية) وعبدالواحد نور (تحرير السودان) على وثيقة الإتفاق الإطاري جنباً إلى جنب مع حميدتي وإنطلاق قواتهم للإستيلاء على المواقع الحكومية واحدة تلو الأخرى بالتنسيق المشترك. ومُساعدة الجيش لتنفيذ إنقلاب عسكري السيناريو (1) ، أو تفكيك الدولة نفسها إلا من خلال تنفيذ جبهة متحدة عسكرياً وسياسياً للإطاحة بالجيش وإقامة نظام جديد السيناريو (2).
تجاهُل أنثربولوجيا التغيير والهيمنة
(سلاح الهوية ذو الحدين) والبحث عن نظرية التغيير السياسي
لا يمكن أن يكون ذلك السيناريو الدموي الذي توقعه إلكس دي وال Alex de waal ، عام (2007) للاطاحة بالجيش الحكومي في السودان الشمالي آمناً بما يكفي ، الا من خلال التوافق على نظام فيدرالي مُتعدد القوميات يُحدد مجال سيطرة كل فصيل (الأقاليم).
كما حصل في العراق منذ فرض الحظر عليه (1991) وتجربة كردستان العراق الناجحة للغاية الذي صمم لتفادي الصدام بين فصائل البديل السياسي المسلحة.
التجربة التي كان يفترض أيضاً أن تتكرر في أفغانستان مع حلف الشمال وإقليمي الطاجيك والاوزبك كما الهزارة في مزار شريف الخ في مواجهة إقليم البشتون الطالباني (2002).
وهو نفسه مثال الصومال الإيطالي (1991) الذي لم تتجاوز مساحة نجاحه نجاحاته حدود إقليمي صومالاند (الإسحاقيين) وبونت لاند (المجرتين) البريطانيين.
التي كانت يفترض فيها الإفادة من سياقات الدرس الأنثربولوجي العظيم ، من تجربة الكوريتين الناجحة وتجربة جمهوريتي فيتام الفاشلة.
ويمكن أن تتكرر أنثربولوجيتها السياسية في مالي النيجر ، أقاليم الطوارق ازواد و ازواغ ، كمجال ناجح للمعارضة.
هذا الدرس الأنثربولوجي العظيم ، قائم على فهم ان نموذج الإستبداد السياسي المرتبط بالفساد مابعد الإستعمار إرتبط بتجربة فاشية ثقافية.
بحاضنة عنصرية إثنية – ثقافية للإستبداد ، تتبادل معه المنافع الميكافيلية الإقتصادية (الفساد والتمييز الإجتماعي كبديل عن الرعاية الإجتماعية الشاملة) ، مقابل مُمارسة العنف الثقافي ضد الآخرين الذين يُفترض تمردهم ويُفترض إخضاعهم (إنتاج مُركب هوية فلاحية عنيفة محاربة) Militant nationalism.
أن مثل هذه الحواضن الإجتماعية العُنصرية ذات الطابع الإثني والثقافي والطائفي الخ للإستبداد ، تقاوم أي بديل سياسي مُعارض لنموذج الإستبداد السياسي أو نموذج الدولة الفاشية العنصرية في العالم الثالث.
تقاوم أي تغيير جذري ثوري غير سطحي غير شكلاني غير إصلاحي يمُس بإمتيازاتها التراكمية (الدولة الموازية العميقة) ، وصولاً إلى الحرب الفلاحية المضادة للثورة التي تؤدي عادة إلى التقسيم على أساس الهُوية (النموذج المعقد ثقافياً) إلى الحرب الأهلية (النموذج البسيط).
هذا ما يحصل تماماً في سياق طويل من مقاومة إثنيات البشتون في جنوب أفغانستان ، الهوسا في شمال نيجيريا ، الهوسا في النيجر ، ودّاي في شرق تشاد ، الزنوج في جنوب مالي ، إثنيات وسط شمال اليمن (تعز) ، الشماليون في السودان ، الجنوبيين في الصومال الإيطالي ، الأمهرا في غرب شمال إثيوبيا ، الدينكا في جنوب السودان الخ .. ، لأي تغيير سياسي هيكلي في بنية الدولة الفاشية في العالم الثالث التي لا يمكن لأي سبب كان أن تكون الدولة الوطنية.
الفاشيون في العالم الثالث كما تاريخياً في أوربا ، لديهم عداء مفرط Political Phobia ونزعة خوف ستراتيجي Securitization مما يمكن تسميته وجود ((النماذج المناوئة)) ثقافياً أو النماذج المضادة أو تنوع النماذج الثقافية سياسياً في داخل الدولة الواحدة أو الإطار الداخلي الوطني في مقابل نموذجهم الفاشي.
لهذا يتمسكون دائماً بخطاب التوحيد Unification أو خطة الإستيعاب القسري ، هذا قبل أن يلتجأون إلى خطة الإستردادوية Irredentism للإنقضاض على النموذج الخصم ، النموذج المناوئ.
كما أن الدول الوطنيةالفاشية في العالم الثالث تشن عادة حروب على جيرانها ليس بدافع الطمع في اراضيها أو مواردها وإنما بسبب تأثير وتهديد النموذج الثقافي والسياسي المناوئ counter Political patternفي مجالها الثقافي أو جوارها لاستقرارها وخضوع سكانها لنموذجها الداخلي.
هذا ما يفسر رفض المثقفين الشماليين مثقفي الممالك الشمالية العشرة تمسُكهم بالنموذج الفاشي (الهيمنة الكاملة) الذي ورثوا وضعيته سياسياً من تجربة الإستعمار التركو مصري ، رفضهم في مباحثاتهم مع الجنوبيين الفيدرالية للاقاليم والمُجتمعات الأخرى وفي مقدمتهم مثقف إثنية مملكة الشايقية النموذج السياسي مابعد الإستعماري المعادل لنفوذ إثنية الإيبو Igbo الثقافي في نيجيريا ، في السودان عبدالخالق محجوب (1942).
رفض الجنرال عمر البشير المنحدر من إثنية مملكة البديرية الشمالية ، في حواره العاصف مع المثقف المعارض والسياسي يحي داود بولاد مُناقشة وجود مسألة قومية أو سياسية في دارفور ، (الجنوب ممكن ينفصل بس دارفور لا.. ما بنسمح) عام 1992.
قول مُثقف إثنية مملكة الشايقية أيضاً ومُوظف الدولة السابق علي أحمد كرتي عن النموذج السياسي المناوئ الذي أبرزته حركات ومجتمعات دارفور في منافستها على المسرح السياسي الرسمي منذ 2003 (دارفور أقعدت كثيراً بالتطور السياسي للشمال .. ويمكن لها وفق ذلك أن تنفصل بالحُسنى) في ندوة مُغلقة بمدينة عطبرة في إبريل 2025.
هُناك سياق طويل آخر من نماذج مُقاومة فاشية مُغايرة للنماذج المناوئة ولتعدد النماذج الثقافية في المجال السياسي الواحد. حيثُ الجنرال علي عبدالله صالح ضد اليمن الجنوبي 1994 ، مُودي ضد كشمير 2019 ، الجنرال يعقوب جون ضد إقليم بيافرا الذي أصبح آنذاك يمثل تطلعات إثنية الإيبو التي باتت متصادمة مع الحكومة الإتحادية في نيجيريا عام 1967، ضياء الحق ضد بنغلاديش 1971 ، سياد بري ضد أرض الصومال (الصومال البريطاني) 1988 ، العقيد معمر القذافي ضد تونس 1980 وضد تشاد مرتين في 1978 و 1984 الخ.
(5)
معالجة الخطاب الثقافي
إختبار نموذج الفاشية المحلية المهيمنة
خطاب تحالُف (البرجوازية الشمالية الكبيرة) التاريخي ، مع أنتلجنتسيا اليسار الشمالي منذ 1938 ، الذي يُمثل تحالفاً فلاحياً غريباً من نوعه (نادر) ، بين طبقة أرستقراطية إقطاعية مخملية من عائلات الإستعمار وبروليتاريا جهوية إقليمية ، تحت عنوان (مؤتمر الخريجين) أو مؤتمر المثقفين الشماليين المنحدرين من ممالك الشمال النيلي التسعة أو العشرة في تصنيف.
من الجنوب إلى الشمال (1)(2) مملكتي شندي والمتمة ، (3)مملكة الميرفاب في بربر ، (4)مملكة الرباطاب في ابوحمد (5)مشيخة المناصير (6) مملكة الشايقية في مروي ، (7) مملكة البديرية في الدفار (8) مملكة دنقلا (9) مملكتي المحس في دلقو و أرقو (10) مملكة السكوت.
لم تنتج عائلات الإستعمار التي مثلت ثُنائية من تحالف الإستعمار الإستيطاني والإقطاع (البرجوازية الكبيرة) Squirearchy منذ القرن التاسع عشر في جغرافية (منطقة السودان المفيد) وكانت آخرها عائلة المهدي (1899) خلال عودتها في القرن العشرين ، رغم أرستقراطيتها المخملية لم تنتج مُثقفيها طوال نصف قرن حتى ظهور التنظيم السياسي لمُثقفي الممالك الشمالية المذكورة (1945).
لكنها أنتجت ثقافياً قومية بيضاء White nationalism ، تسمى القومية الشمالية أو القومية العربية في السودان الشمالي أو السودان النيلي الخ. او نسقاً من تلك الهوية الإستيطانية.
أيضاً أنتجت إجتماعياً هوية فلاحية عنيفة ، بالتحالف مع كُتلة ميكافيلية من البوليتاريا الريفية من إثنيات وسط السودان (صغار الإقطاعيين أو صغار المُلاك) Yeomanry.
كتلة ميكافيلية معادية للتغيير السياسي و تعميم التقدم الإجتماعي ، الذي لا يخدم تفوقها أو هيمنتهما أو إستعلائها الطبقي الإثني ضد الإثنيات الأخرى (المُستغلة).
واجهت مُقاومة من أولئك المُستبعدين المُهمشين ، من تلك الهوية الإستيطانية البديلة التي أفضل تسميتها الهُوية الإصطناعية أو القومية الإصطناعية أو في الحقيقة نموذج المُواطنة الإصطناعية بإقتراض تعبيرات جان بودريار ، البديل عن نموذج المواطنة الأصلية (من الثقافة الأصلية Native culture) ، عن الهُويات الإقليمية السبعة الأصلية قبل 1820 حيث لم تكن سلطنة دارفور ولا الجنوب الكبير جزءاً من السودان.
تلك الهُوية المُقاومة هي أيضاً مواطنة اصطناعية تُنافس على إعادة إنتاج الهيمنة والقهر في القومية الإستيطانية نفسها في وسط السودان (المجال الإستيطاني للمواطنة المصطنعة) تحت مسمى القومية السوداء اي قومية الهامش.
بدلاً عن أن يعمل المثقفين الشماليين (مثقفي الممالك الشمالية العشرة) في شمال السودان بعد جلاء البريطانيين مباشرة ، على إسترداد وحدة وسيادة الإقليم الشمالي (مملكة المقرة) Makuria region الذي فقد سيادته عام 1505. وفقدت ممالكه الداخلية العشرة إستقلالها الذاتي في النظام الفيدرالي لسطنة الفونج عام 1820 إلى يومنا هذا.
بدلاً على التركيز على إنتاج دولة وطنية ديمقراطية من خلال إستعادة إقليمهم (الإقليم النوبي الشمالي) وحكمه الذاتي وإستعادة النظام الفيدرالي قبل الإستعمار.
على إستلهام تجربة شمال نيجيريا أحمد بيلو ، ماليزيا عبدالرحمن تنكو ، عبدالرشيد شارماركي في الصومال الإيطالي ، التي نبذت إنتاج الهويات الرجعية.
أعلن المثقفين الشماليين (البروليتاريا الشمالية) علناً (مثقفي الممالك الشمالية العشرة) ، وبالنيابة عنهم المدعو إسماعيل الولي الأزهري ، رفضهم حداثة القرن العشرين وتمسكهم وأشواقهم الرومنطقية إلى إعادة إنتاج ظلامية و هُوية القرن السادس عشر الإستيطانية كتجربة فردوسية غير مكتملة !!.
ركزوا على توليد دولة وطنية فاشية في مساحة إستيطانية (1938-1954) من أراضي إثنيات وسط السودان.
ولادة دولة إستعمار إستيطاني في وسط السودان تكون بديلاً فاشياً عن الأقاليم الريفية ، من خلال مارش طويل من إستنزاف الريف وإستغلاله وإبادة الهامش وصولاً إلى تشكيل هوية إستيطانية عربية بديلة ، تحل محل الهويات الأصلية (مُخطط مؤتمر المثقفين الشماليين مؤتمر الخريجين : 1942).
سبق ذلك هجومهم الحاد ضد ثقافة المواطنة المدنية التي تركها الإستعمار البريطاني عام (1924) وطرحهم مسألة الهويات الثقافية ، التشكيك في إمكانية وجود قومية مدنية سودانية ، وضداً لكل تصورات الهوية الوطنية الديمقراطية ، من خلال رفضهم لثورة اللواء الأبيض والمساجلات الطويلة ضد مثقفي حي الموردة أو إثنية الملكية (خطاب العنصرية الشمالية ضد الكريول في العشرينات).
لكن المُثقفين الشماليين (البروليتاريا الجهوية الإقليمية لممالك شمال السودان العشرة) ، لم يحفظوا الوفاء للعائلات الإقطاعية الإستعمارية التي صنعتهم كأنتلجنتسيا جهوية إقليمية وقامت برعاية تعليمهم ودافعت عنهم أمام قمع البريطانيين. بما فيها عائلات المهدي الميرغني الهندي ابو العلا الخ إضافة للعائلات الإقطاعية الدينية المختلفة في ريف شمال السودان.
كان المقابل ان عملوا حثيثاًَ بمجرد خروج البريطانيين 1954 – 1945على إنهاء هذه العلاقة الفلاحية التي جمعتهم معاً ، وتحريض جماهير الريف وبروليتاريته الرثة ، إيغار صدورهم بالحقد الجهول والحقد الأعمى والحقد المقدس ضد هذه العائلات الإقطاعية من البرحوازية الكبيرة والعمل على تشريدهم والفتك بهم وتدمير مُمتلكاتهم والإستيلاء عليها.
قام مثقفي الممالك الشمالية العشرة الذين اتاحت لهم علاقتهم الفلاحية بالعائلات الإقطاعية الإستعمارية التي يقومون بهجاءها حالياً وجحود جميلها التاريخي ، إنتاج انتلجنتسيا في الثلاثينيات ، إنتاج طبقة وسطى في الأربعينات (مدارس خور طقت ، وادي سيدنا ، حنتوب) من القرن العشرين.
اتاحت لهم أيضاً الإستيطان في وسط السودان وشمال كردفان (السودان المفيد) ، كبديل عن الظروف الإيكولوجية البيئية القاسية في شمال السودان ، حمايتهم من سياسات البريطانيين وتهديد الأهالي من إثنيات هذه المناطق.
قامت البروليتاريا الريفية الشمالية (المثقفين الشماليين) ، بإستيراد كل الأيدلوجيات المتصارعة في الشرق الأوسط (1945) كتطلع للتخلص من التنظيم السياسي للعائلات الإقطاعية الإستعمارية (المعروفة تحت عنوان الأحزاب الطائفية).
من ذلك إنشقاق مثقفي تلك الممالك الإقليمية العشرة ، تحت لواء اليسار (الحزب الشيوعي الشمالي) إلخ و الإتجاه الدستوري الإسلامي (الحركة الإسلامية للقوميين الشماليين).
في أكتوبر 1964 قام مثقفي تلك البروليتاريا الريفية الجهوية من خلال طبقتهم الوسطي الناشئة من خلال الإستيطان ، في شمال كردفان ووسط السودان ، بإنهاء تعاقدهم الإجتماعي التاريخي مع العائلات الإقطاعية الإستعمارية بما فيها عائلة المهدي و الميرغني والهندي الخ وتعبئة البروليتاريا الهامشية الرثة في مدن هذه المناطق المذكورة تحديداً مدينة الأبيض للقضاء نهائيا على نفوذ البرجوازية الكبيرة المرتبطة بالعائلات الإقطاعية الإستعمارية المذكورة والتخطيط لإبادتها سياسياً politicide ، من خلال المصادرات والمجازر الإستباقية في الجزيرة ابا وود نوباوي الخ.
من تلك الصفحات ايضاً ، اتهام الأقليات من غرب السودان (الكنابي) بالتواطؤ مع تلك العائلات الإقطاعية الإستعمارية وتعبئة إثنيات وسط السودان ضدهم 1970-1976.
يمكن القول في نهاية هذه الشهادة الأنثربولوجية المطولة ، حول السلوك السياسي للبروليتاريا الريفية لممالك شمال السودان العشرة ، الذين أصبحوا هم المثقفين الشماليين لاحقاً ، عن انتهازيتهم وغدرهم ولا أخلاقياتهم السياسية.
إن مثقفي الحزب الشيوعي الشمالي نشأوا تحت حماية عائلة الميرغني وتنظيمها (الحزب الإتحادي) ، بينما نشأ الإتجاه الدستوري الإسلامي للمثقفين الشماليين تحت حماية عائلة المهدي وحزب الأمة في الخمسينات.
ان دورة التاريخ نفسها تمضي في تمرد البروليتاريات الريفية الجهوية ضد مثقفي الممالك الشمالية العشرة وطبقتهم الوسطي الإستيطانية في وسط وشرق السودان بعد خروجهم من غرب السودان في الثمانينات (1983) بسبب الإضطرابات الي خلفتها تعبئة جون قرنق تدريجياً.
أن التلاعب بسلاح الهوية والتجرد من الأخلاقيات السياسية (توظيف خطاب الإستفزاز السياسي) Political Provocation في التلاعُب بسياسات الهوية.
ضرب الأقليات الخلاسية غير المستقرة زراعياً بالأغلبيات الفلاحية والعكس سترتد عليهم في بلد فيه تاريخ طويل من الإبادات الإثنية وثقافة الإبادة السياسية.
(6)
معالجة الخطاب الإجتماعي
من تجاهُل مخاطر سياسات الهوية إلى التلاعُب بسياسات الهوية
هل يندم السودانيون على عدم إعتمادهم النظام الملكي؟
الفاشية أو القومية الفاشية هي واحدة من سياسات الهوية أو القومية الثلاثة الأساسية ، الإنفصالية والإستيعابية والتكيفية (التوافق القسري).
واجه السودان منذ 1820 وصولاً إلى محطة 1899 مشكلتين مستمرتين لا غنيً عن طرحهما ، اعاقتا سيرورة بناء الدولة أو تفكيك الدولة التي تركها الإستعمار لصالح وطنية فاشية خاصة بمثقفي الممالك الشمالية العشرة. بما يمثل ذلك من معركة رؤيتها الأيدلوجية لإقامة الدولة Statehood.
للأسف ان نخب كثير من الإثنيات الأخرى تتنافس من أجل إكتساب تقليدها كدولة كدولة كوربراتية سلطوية (البديل السياسي لمُثقفي الممالك الشمالية).
التلاعُب بسياسات الهوية وتوظيف خطاب الإستفزاز السياسي.
وتلك هي نزعة المثقفين المشحونة بالكراهية Antagonism وإستعداء المجتمعات في الشرق الأوسط ، الذي يعيش منذ الستينات عصر النازية العربية أو النازيات الشرق اوسطية المتنافسة لتحقيق وتمجيد الأنا النخبوية.
في ذلك يبدوا ان تجاهل المثقفين الشماليين ، الطبقات الوسيطة أو مثقفي الممالك الشمالية العشرة في شمال السودان ، زعماء الإدارة الأهلية في غرب السودان لخيار إقامة النظام الملكي على يد عبدالرحمن المهدي في العشرينات بعد الحرب العالمية الأولى كان خطيئة تأسيس.
الحقيقة ان أغلب التحولات الفيدرالية أو إيجاد نظام المسافة الواحدة من القوميات المتنافسة في المسرح السياسي الرسمي (غرامشي) كما هو حال السودان الشمالي ، تمت في دول ملكية موناركية.
أن الدول الجمهورية والحركات الجمهورية المشحونة بالثورة الثقافية والتطرف العرقي (العقد الإجتماعي للقومية المتطرفة) لا يمكن اصلاحها بسهولة أو تعديل خطابها السياسي العدواني كما هو حال النموذج الإمبريالي الإسباني. لهذا تذهب إلى الإنفصال والتقسيم أكثر ما تذهب ، لا إلى الإصلاح السياسي.
(7)
مُعالجة الخطاب التاريخي
الإجابة عن سؤال منهجي : كيف تتخلص من مساومة سياسية؟
هل توجد مشكلة أقاليم؟ أم مشكلة مساومات سياسية مُنتجة للحروب؟
هناك أزمة سياسية إجتماعية أو مشكلة أنثربولوجية يمكن تسميتها ازمة المجتمعات غير المعترف بها إجتماعياً أو مؤسسياً في السودان الرسمي والسودان الشعبي. وهي أزمة الهويات الوطنية للأقليات ومساحة إستيعابها.
المساومات السياسية الطويلة في تاريخ السودان لم تكن في غالبها جهدا لإعادة هيكلة الدولة والمجتمعات بل سعياً لإنتاج نخب إصطناعية جديدة وهيمنات جديدة (خطاب تحرير لا تعمير ، no federation down colonialization) منذ مفاوضات 1954 وهلم جراً وصولاً إلى وثيقة الإتفاق الإطاري والمستشرق فولكر الذي يقلد الترابي كثيراً وحول من الإتفاق الإطاري من حوار تفاوضي على إنتقال سياسي يستبعد الأطراف الإجتماعية تحت شعار لا للإغراق السياسي ، إلى إنتاج نظام خالف جديد أو نخبة حكم جديدة بدون توافق إجتماعي سياسي من خلال تجريم المجتمعات الرافضة لتلك المساومة وشيطنتها.
النزعة التي خلقت ظاهرة تكوين الدعم السريع (الدعمسرة) RSF-ication ، بما فيه تجنيد السيد حسن الترابي لهذه الأقليات على رأس قائمتها حركات مجلس شورى إثنية الزغاوة المتعدية ثقافياً وهوياتياً لحدودها الثقافية في سبيل إقامة هيمنة وتنظيمات إقطاعية مركزية (الزغاويزم) ، تجنيد البشير لفصيلة ثقافية معكوسة منها (الجنيديزم) الخ.
ثورة ديسمبر كما أكتوبر قامت بتعبئة وتجنيد الأقليات المدنية غير المعترف بها إجتماعياً من قبل مؤسسات المجتمعات الوطنية السودانية فلاحية وشبه فلاحية ودفعها لدور الهيمنة لا المشاركة التمثيلية.
تجادل هذه النظرية انه لا توجد مُشكلة أقاليم في السُودان الشمالي ولا الجنوبي. بما في ذلك أزمة دارفور ومحاولة صناعة أزمة في كردفان الشمالية حالياً بغاية توطين الصراع السياسي في المركز والبحث عن جذور له.
بل أزمة صناعة نخب إصطناعية مركزية مزيفة من مساومات سياسية فوقية غريبة في السوق السياسي الإمبريالي في الخرطوم أو القاهرة أو نيروبي الخ عن إثنوغرافيا الواقع المحلي ، في واقع أنثربولوجي لا مركزي في بلد متعدد ثقافياً ولا يمكن أن تنجح فيه هوية مركزية غير فيدرالية بسهولة بدون حروب أهلية طويلة ومكلفة.
لهذا يبحث هؤلاء الطُرداء من المهدي النبي الأعزل الي الترابي إلى ثورة ديسمبر إلى الدعم السريع إلى مجلس شورى الزغاوة إلخ بما في ذلك نخبة الدينكا (جينقيزم) Jeingism في مساومة أديس ابابا 1971 ، عن التجذر Need for Roots في الريف السوداني والأقاليم السودانية بسلاح الدولة وإمكانياتها عن قواعد إجتماعية بعد أن لفظهم – المركز – الذي إشتراهم من قبل بماله السياسي و دفعهم نحو إستعداء المجتمعات.
لا يمكن لهم ذلك الا باقتلاع القوى الإجتماعية الخاملة في الريف. وتدمير الطبقة الوسطي فيه.
انتلجنتسيا إنتفاضة ديسمبر 2019 أو مُثقفيها الذين هم فئة من مثقفي الممالك العشرة ذاتها الي جانب نُخب هامشية أخرى من الأقليات المدنية دخلت إلى القصر من خلال مُساومة أنانية بالشراكة مع العسكر اسمها وثيقة كورنثيا وحينما لفظها الجنود Troops عادت أو قل في الحقيقة انها إلتجئت إلى الريف تبحث عن التجذر من خلال إقتلاع طبقاته وتعبئة الأقليات التي ستتخلص منها أيضا في النهاية بعد خسارة التعايش السلمي Interethnic Cohabitation المعلول في شعورهم الجمعي انه لم يكن متكافئاً بما يكفي.
تماما كما لجأ المماليك المصريين إلى ممالك شمال السودان العشرة بوصفه ريف جنوبي إلى مصر السفلي lower egypt.
ولجأ المماليك المحليين .. مماليك الممالك الشمالية العشرة كلاً من الزبير باشا رحمة ورابح فضل الله إلياس باشا ام برير إلى الريف البعيد.
إلى كردفان إلى راجا (دار البانتو السودانيين الفرتيت) في بحر الغزال و دار البرنو (كانم برنو) في تشاد ، لتحقيق اوهامهم بعيدة المنال مع الأتراك أو في الإمبراطورية التركو مصرية من خلال إقتلاع تلك المجتمعات (التي لا ذنب لها) uprooting وتدميرها.
الآن تتكرر التجربة مرة جديدة من خلال تحويل غرب السودان ، من خلال تحويل كردفان الشمالية إلى كشمير أخرى. لتحقيق طموحات هذه الأقليات أو النخب الإصطناعية من تشكيلتها الإجتماعية لا تلك المُجتمعات القارة.
في الوقت الذي يتمسك فيه مُثقفي الممالك الشمالية العشرة بعدم الإعتراف بمطالب الأغلبيات الفلاحية المستقرة زراعياً وشبه الفلاحية ، وهي السيادة على اراضيهم وإستغلال مواردها من خلال نظام فيدرالي لامركزي تفوض فيه السلطة إلى المجتمعات وتحل فيه مشكلة الأقليات devolutionary multiethnic federalism , من خلال فيدرالية مالية حقيقة تكون معولا ً للتنمية لا الزبونية السياسية والفساد. والعمل حثيثاً على إبتزاز مخاوفها في هذه الحرب بدون ثمن سياسي (معركة الإنسحابات العسكرية المتبادلة).
هذه الكلمات قاسية لكن لا بد منها بدلاً عن المارش الطويل .. ، يجب إستبدال ثورة ديسمبر أيدلوجيتها الإقتلاعية (deracinementalism) بأيدلوجيا فيدرالية تستوعب التناقُضات السياسية بما فيها الخُصوصية (الكيزانية) نفسها لبعض المجتمعات الميكافيلية والزبونية وحصارها في نطاقاتها الثقافية ، لا بد من كلمات ميليس زيناوي الأثيرة المارش الطويل لا يوصلك ولابد من مسيرة اقصر إلى (الفيدرالية المُمكنة) اليوم قبل الغد.
يجب تخطي الواقع القائم وإعلان نظام فيدرالي متعدد القوميات من خلال إستعادة التنظيم الفيدرالي قبل (1820) و (1916) من طرف واحد من هذه المجتمعات في شرق السودان وفي غربه.
يجب أن يقرر أبناء كردفان الشمالية مصير إقليمهم بعيداً عن هذه الأطراف التي تعيش هاجساً امنوقراطياً كأقليات مهددة ستراتيجياً ولا تملك أجندة سياسية إجتماعية تقدم من شأن هذا البلد دون حرمانها من ان تكون طرفاً فاعلا في النظام السياسي. ان تكون هناك ماليزيا أخرى ونيجيريا أخرى ، واعني ما اقول .. فيدرالية لاندوقراطية (landocracy).
باحث مُساهم في علم الإجتماع السياسي وسياسات الهوية.
مالك مجموعة بريدجز سودان للإستشارات الأمنية.
Sudan Bridges Advisory Group For Securatic Consulting and Communication.
Northernwindpasserby94@gmail.com