الأديب الألمعي الطيب صالح (1929-2009م): ماذا قالوا عنه بعد رحيله؟

 


 

 

 

ترددتُ كثيراً في كتابة هذه السطور، لأن علاقتي بالأديب الطيب صالح لا تلامس أطراف صداقته مع الأستاذ طلحة جبريل الذي يصفه الطيب بابنه الروحي، وطلحة يفخر بهذه البنوة ويعتز بأبوة الطيب الروحية له، لدرجة جعلته يلمَّ بكل شاردة وواردة عن أستاذنا الطيب، ويدوِّن شذرات من سيرة الراحل قبل عقد من الزمان بعنوان "على الدرب مع الطيب صالح ... ملامح من سيرة ذاتية"، ويزكَّيه الأستاذ بشير محمد صالح (الأخ الشقيق للطيب) بأنه أفضل من يكتب عن الطيب، وذلك قبل أن يوارى جثمانه الطاهر ثرى مقابر البكري بأمدرمان. ولا ترقى معرفتي الأكاديمية بأدب الطيب صالح إلى مراقي معرفة المتخصص في الأدب العربي البروفيسور عامي إلعاد بوسقيلة، الذي درس أدبيات الطيب دراسة فاحصة أهلَّته لأن يتولى زمام ترشيحه لجائرة نوبل في الأدب، ولا تقارب معرفتي الأدبية بالراحل نواصي مقاربات البروفيسور عبد الرحمن الخانجي "القراءة النقدية لروايات الطيب صالح"، أو البروفيسور إبراهيم محمد زين "شكل التعبير الديني في روايات الطيب صالح"، أو البروفيسور محمد المهدي بشرى "الفولكلور في إبداع الطيب صالح"، أو الدكتور الأديب حسن أبشر الطيب "الطيب صالح روائياً وشاعراً ومبدعاً"، أو الأستاذ خالد موسى دفع الله "اللامنتمي في أدب الطيب صالح". وفوق هذا وذاك لم تكن بضاعتي في النقد الأدبي من عيار النُقَّاد الراسخين في العلم أمثال عباس بيضون، وعبد المنعم عجب ألفيا. لكن أستميحكم عذراً يا هؤلاء أن أصنِّف نفسي في قائمة المعجبين بعطاء صاحب موسم الهجرة إلى الشمال، والمحبين لقراءة شخصياته الدائرية وأنماطها المحلية، وبين هذه وتلك فإن الطيب ابن قرية (كرمكول) وأنا ابن قرية (قنتي) مثله، وبين القريتين فراسخ أميال تُعدُّ، ووشائج قربى تُحصى، وصلات رحم تُوصل. وأخال أن هذه الأخيرة تستحق مني لمسة وفاء لابن "دومة ود حامد" الرمز، وتؤهلني لكتابة بعض الحواشي على متون أدبياته الثاوية، وتدوين بعضها من بقايا مداد على نصوص الذين قالوا عنه ما قالوا بعد رحيله.

كيف عرف العَالم الطيب صالح؟
يقول الأستاذ طلحة جبريل أن أول عمل أدبي ألفه الطيب صالح هو "نخلة على الجدول"، وذلك عام 1953م بعاصمة الضباب لندن، والقصة في مجملها كما يصفها المؤلف نفسه بأنها "بسيطة، كتبتها ببساطة شديدة جداً... كانت القصة تعبيراً عن حنين للبيئة، ومحاولة لاستحضار تلك البيئة". وبعدها انقطع الطيب عن الكتابة لمدة سبع سنوات، ثم أنتج تباعاً "حفنة تمر"، و"دومة ود حامد". ويروي لنا الأستاذ علي أبوعاقلة أبوسن عن "دومة ود حامد" قائلاً: "إن الطيب صالح قال له ذات مرة إنه كتب قصة قصيرة، ويريد رأيه فيها. كان ذلك عام 1961م، فأعجبته القصة، وطلب من الطيب صالح نشرها، لكنه رفض فكرة النشر، وحاول نزع المُسودة من يده، ولكن أبوسن رفض إعادة القصة إليه إلا إذا وافق على نشرها، وبعد ثلاثة أيام جاءه الطيب صالح ضاحكاً، وقال: "يا سيدي خلاص أنا وافقت، لكين منو البينشرها لينا؟". وفي العام نفسه، حسب رواية طلحة جبريل، نشرت مجلة أصوات اللندنية "دومة ود حامد"، ثم ترجم دينيس جونسون ديفيس النص العربي إلى الإنجليزية، ونشره في مجلة انكونتر (Encounter) الأدبية، وكانت عملية نشرها في هذه المرحلة الباكرة من عُمْر الطيب ، ومع كُتَّاب مرموقين أمثال الكاتب الأمريكي نورمان ملير ، بمثابة ميلاد حقيقي لأدبينا الطيب صالح، وفتح أدبي جديد في مساراته الأدبية. وعندما شجعه "ديفيس" على مواصلة الكتابة قال له الطيب صالح في سخريته المعهودة: "يعني أتحول إلى كاتب ... هذه مزحة، لقد كتبتُ ما عندي ... وخلاص". وبعد الصدى الذي أحدثته "دومة ود حامد" في الأروقة الأدبية، كتب الطيب رواية "عُرس الزين" ، إلا أنه أحجم عن نشرها ولم يطلق سراح نصها الأدبي إلا عام 1964م، حيث نُشرت الرواية ملحقاً في مجلة الخرطوم الثقافية، ولكن لم يحفل الناس بها كثيراً، ثم أردف ذلك بعمله الروائي الرائد "موسم الهجرة إلى الشمال" الذي نشرته مجلة حوار البيروتية عام 1966م. ويقول في هذا المضمار الدبلوماسي سيدأحمد الحاردلو أنه كان في زيارة إلى قاهرة المعز صُحبة الأستاذ محمد أحمد المحجوب، وفي تلك الأثناء اشترى خمس نسخ من مجلة حوار البيروتية، وأعطى منها نسخة للأستاذ رجاء النقاش الذي قرأ رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" بعين فاحصة-ناقدة، وكتب عنها مقالاً بعنوان: "الطيب صالح عبقري الرواية العربية". وحسب الأستاذ الحاردلو وآخرين إن ذلك المقال هو الذي وضع الطيب صالح على قمة الروائيين العرب منذ عام 1968م، وجعل الناس يعودون الكرة لقراءة أدبياته السابقة، ويتشوقون لمطالعة إسهاماته اللاحقة.

لماذا موسم الهجرة إلى الشمال؟
يجيب عن طرفٍ من هذا السؤال الأستاذ عبده وزان بقوله: عندما نُشرت رواية موسم الهجرة إلى الشمال في بيروت عام 1966م "كانت بمثابة الحدث الروائي الذي كان منتظراً"، لكنه بدلاً أن يأتي من القاهرة، أو بغداد، أو بيروت، جاء من الخرطوم الرمز. "استطاع الطيب صالح في هذه الرواية الفريدة أن يقدم مشروعاً روائياً جديداً، يحمل الكثير من علامات التحديث، شكلاً، وتقنيةً، وأحداثاً، وشخصيات". فضلاً عن أن إشكالية الرواية المحورية كانت تقوم على جدلية الصراع بين الشرق والغرب، أو بين الجنوب والشمال. وهنا نحتاج إلى وقفة مع الأدبيات التي تناولت هذه الإشكالية من زوايا مختلفة، وتأتي في مقدمتها رواية الكاتب البولندي جوزيف كونراد "قلب الظلام" الصادرة عام 1902م، والتي أشار إليها الطيب صالح في ثنايا روايته، واستأنس ببعض مفرداتها، لأنها تمثل ضرباً من ضروب الاستعمار الأوروبي وأنماطه الاستغلالية في إفريقيا؛ وتلت هذه القراءة الخارجية قراءة داخلية تصدى لها الكاتب النيجري "شنوا أشيبا" في روايته الموسومة بـ "تتساقط الأشياء" الصادرة عام 1958م، والتي حاول من خلالها - الكاتب النيجري - أن يعطي قراءة داخلية لما هو سائد في مخيلة المستعمر الأوروبي عن إفريقيا السوداء، منطلقاً من فرضية مفادها أن المجتمعات الإفريقية مجتمعات ذات حضارة، وليست بدائية صرفة، أو متخلفة إلى النخاع، تخلفاً لا يلامس أطراف آدميتها، كما يصورها المستعمر الأوروبي، ليفرض عليها قيمه المستوردة، ويفرغ موروثاتها المحلية من محتواها. وفي السياق ذاته جاءت رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" لتعكس إفرازات "نظرية ما بعد الاستعمار"، تلك النظرية التي وضع لبناتها فرانز فانون، وتناول بعض جوانبها متأثراً بقراءة الطيب صالح الدكتور إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق"، ووثق طرفاً من مشاهد تلك النظرية وحيثياتها بيل اشكرفت وآخرون في كتابهم المعروف بـ "الإمبراطورية ترد كتابةً".
وبهذه الكيفية حاول الأديب الطيب صالح أن يطرح سؤال الهوية العربية-الإفريقية وسؤال العلاقة المصيرية مع الغرب، ملقياً بذلك حجراً في بركة الأفكار النمطية الآسنة التي نشرها الاستشراق الغربي، وعزز حضورها في الأوساط الأكاديمية، وكذلك في أذهان العامة من مواطني الدول الغربية. وعند هذا المنعطف تبرز أهمية رواية موسم الهجرة إلى الشمال، التي يصفها الكاتب فخري صالح بأنها الرواية الوحيدة التي استطاعت أن تطرح أسئلة معقدة عن تجارب الشعوب المستعمَرة، ومستقبل العلاقات بين الشمال والجنوب أو الغرب والشرق، وبذلك أثارت "الكثير من الجدل والأسئلة التي جعلتها هدفاً للتحليل والتساؤل حول الرسالة التي تحملها، وطبيعة العلاقة بين بنيتها الروائية ومحمول هذه البنية."
ولا شك أن الأستاذ فخري صالح محقٌ فيما ذهب إليه، لأن رواية موسم الهجرة إلى الشمال قد تم اختيارها ضمن مائة أثر أدبي متميز عام 2002م، حيث انتقاها مائة أديب وشاعر، يمثلون ثقافات العالم المتنوعة، وبينهم أربعة من "النوبليين"، كما يرى الدكتور منصور خالد، وهم وولي سونيكا (نيجريا)، ونادين قولدمر (جنوب إفريقيا)، وف. س. نايبول (ترينداد)، وشيموس هيني (إيرلندا). وبين هؤلاء العملاقة أيضاً رجال ونساء من العرب والمسلمين، لا يُنكر إسهامهم في الحقل الأدبي، وهم: آسيا جبار (الجزائر)، وأمين معلوف وحنان الشيخ (لبنان)، ونور الدين فرح (الصومال)، وصنع اللّه إبراهيم ونوال السعداوي (مصر)، وعبد الرحمن منيف (المملكة العربية السعودية)، وسلمان رشدي (الهند)، ويشار كمال (تركيا)، وفؤاد التكرلي (العراق)، وسيمين بهبهاني (إيران). ويثمن الدكتور منصور خالد ذلك الاختيار بأنه اختيار نخبة "ذات حس وزكانة" لأنها استطاعت أن تنتقي موسم الهجرة إلى الشمال ضمن مائة أثر أدبي منذ أن عرف الإنسان الكتابة.

تركة الطيب صالح وبقايا مداد لم ينضب:
كتب الأديب الطيب صالح طوال مسيرته الحياتية خمس روايات، هي: "دومة ود حامد" (1961م)، و"عُرس الزين" (1964م)، و"موسم الهجرة إلى الشمال" (1966م)، و"ضو البيت" (1978م)، و"مريود" (1978م)، ومجموعة قصصية قصيرة، شملت "حفنة تمر"، و"نخلة على الجدول"، و"هكذا يا سادتي"، و"الرجل القبرصي"، و"هكذا يا أستاذ"، و"رسالة إلي إيلين". وذلك فضلاً عن المقالات التي نشرها في بعض المجلات والصحف، وجمعها مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي (أم درمان) بالتعاون مع دار رياض الريس البيروتية للطباعة والنشر في تسعة أجزاء عام 2004م، ونشرها تحت عناوين جاذبة، نذكر منها: "منسي: إنسان نادر على طريقته!"، و"المضيئون كالنجوم: من أعلام العرب والفرنجة"، و"للمدن تفرد وحديث: الشرق"، و"للمدن تفرد وحديث: الغرب"، و"في صحبة المتنبي ورفاقه"، و"في رحاب الجنادرية وأصيلة"، و"وطني السودان"، و"ذكريات الموسم"، و"خواطر الترحال". وفي يوم رحيل الطيب صالح أفاد الأستاذ رياض الريس الصحافية سوسن الأبطح بأن الجزء العاشر من مختارات الطيب صالح سيرى النور قريباً، وبين دفتيه ثلة من الرسائل الرائعة التي تبادلها المؤلف مع رهط من الأدباء والنقاد.
وبذلك يكتمل عقد منشورات الأستاذ الطيب الروائية، والقصصية القصيرة، والمختارات، التي احتلت مكانتها المرموقة في دواوين الأدب، وذلك تثميناً للغتها السردية، وشخصياتها الروائية، ومسارحها المتعددة التي أُسست على رباط ظاهرة الغريب الحكيم الناظمة لبعض مفرداتها، وجدلية الصدام البيئي بين القديم والحديث، وحراك التعدد الثقافي والعرقي الذي تتجلى فيه قيم الوحدة والتنوع، وحوار الحضارات، وفوق هذا وذاك دعوة الطيب صالح القائمة على المحبة والتصالح بين الناس، وحل مشكلات الحياة بطريقة حوارية. فلا جدال أن صاحب مثل هذه التركة العامرة بالعطاء النوعي لا يموت معنوياً وإبداعياً، لأنه قامة مهمة ومؤثرة في المشهد الروائي والقصصي، بل أن رحيله يمثل ولادة جديدة لأدبه، لأن هناك من يقرأ نتاجه برؤية مختلفة، وبروح متجددة، وبذلك يضحى رحيله تحريضاً للتجديد. ويرى القاص إبراهيم مبارك أن مثل هذا المشهد ... قد حدث بعد رحيل الروائي الكبير والحائز على جائزة نوبل في الأدب، "نجيب محفوظ، فقد زاد الإقبال على قراءة أدبه للتعرف عليه من قِبل جيل آخر، لذا فإن موت القامة المبدعة هو ولادة للقراءة." وتمضي في الاتجاه ذاته القاصة نجيبة الرفاعي، وتقول: "ولكن عزاءنا أن الرحيل هو مصير كل إنسان، وما أروع أن يرحل الإنسان وقد ترك وراءه إرثاً نافعاً، يستمر عطاؤه حتى ولو رحل صاحبه، وقد ترك الطيب صالح إرثاً أدبياً لا يُنكر، وسيبقى اسمه يذكر في كل المحافل واللقاءات الأدبية، وستبقى أعماله مرجعاً قوياً لكل من يريد أن يسلك درب الأدب بخطوات قوية مدروسة، ولذلك فإن رحيل هذا الكاتب الكبير يعطينا معنى أن يكون الكاتب ذا ضمير وذا تأثير، فكثير من الكتاب والأدباء قد رحلوا ولكن لم يحزن عليهم أحد، وقلة من كان لرحيلهم وقع الصدمة والألم، لأن رحيلهم يخلق فجوة من الصعب أن تملأ بأحد غيرهم."
إلا أن بعض قُراء الطيب صالح الحصفاء لم يكتفوا بهذا العطاء، بل أضحوا يلحون على الطيب صالح في حياته، ويسألونه عن الجزء الأخير من ثلاثية "بندر شاه". وردَّ الطيب صالح على أحدهم بقوله: "دع الأخبار لحين حدوثها، لكني أملك مشروعاً روائياً لم يكتمل، أسأل الله أن يمد لي في الأجل لأفرغ منه، وهو مشروع "بندر شاه"، الذي أعدَّه من أهم ما صنعت على علاته، "ضو البيت" و"مريود" في تقديري المتواضع أهم من موسم الهجرة إلى الشمال، فهناك جزء، أو جزءان، أو ثلاثة، سأكون سعيداً لو خلصت منها." وعند هذا المنعطف يصدق استفهام الأخ الصديق البروفيسور إبراهيم محمد زين الذي أعد مقالاً جيد الصنعة بعنوان "أين الجزء الأخير من ثلاثية بندر شاه؟"، ودفع به للنشر ضمن وثائق الاحتفال بالعيد الثمانيني للأديب الطيب صالح، إلا أن رياح المنية جاءت بما لا يشتهي السَفنُ، وأخيراً نشر البروفيسور إبراهيم المقال مسلسلاً في صحيفة الأحداث بعد يومين من رحيل الطيب صالح. وتقوم حصيلة هذا المقال على فرضية مفادها أن قراءة المختارات كنص واحد مكتمل تعطي القارئ إشارات مباشرة وغير مباشرة لمعالجة مشكلة الجنوب وما بعدها، وذلك في إطار سرد روائي للتاريخ الثقافي من منظور الطيب صالح. وثقل السرد الروائي للتاريخ الثقافي لمشكلة الجنوب يتبلور في الجزء الرابع من المختارات، وثنايا الجزء الأول عن "منسي"، وحوارات الطيب صالح في واشنطن وأصيلة. وبذلك يخلص البروفيسور إبراهيم إلى القول بأن "لا حاجة للطيب بأن يكتب الجزء الأخير من ثلاثية بندر شاه. فإن الجزء الأخير من الثلاثية هو ليس أحدوثة حول "الضحية"، ولكنه "الضحية" في صراع الهوية والانتماء والوطن." وبذلك يحاول كاتب المقال أن يقدم اقتراحاً للقراء بإعادة قراءاتهم لمختارات الطيب صالح وحواراته التي لم تدون، ليستوعبوا مفردات الجزء الغائب من ثلاثية بندر شاه.

البُعد الإنساني في ثقافة الطيب صالح:
في إحدى المحاضرات التي قدمها في دار الثقافة بالخرطوم عام 1940م، تحدث السير دوجلاس نيوبولد ، السكرتير الإداري آنذاك، عن البُعد الإنساني للثقافة، وحدد السمات الإنسانية المكملة لشخصية المثقف في رحابة الخيال، والتسامح، والبساطة، وروح الدعابة. واتفق مع الدكتور حسن أبشر الطيب أن السمات الإنسانية التي ذكرها السير نيوبولد تنطبق قلباً وقالباً على أستاذنا الراحل الطيب صالح، لأن الإنسانية كانت تمثل مركز شخصيته اللامعة، والثقافة كانت بمثابة الكواكب السيارة التي تدور حول ذلك المركز بانتظام. ونجد هذه العلاقة الثنائية بين الثابت والمتحرك في روايات الطيب صالح وأحاديثه، وفي شهادات الذين صحبوه في أصيلة، أو الجنادرية، أو المربد، أو أولئك الذين سامروه في حله وترحاله. وأستأنس في هذا المقام بقول الأستاذ محمد المكي إبراهيم الذي صحبه في إحدى زيارته إلى أصيلة، ويشهد ود المكي نفسه قائلاً: "يتميز الطيب صالح بتواضع طبيعي، جذب إليه القلوب، وليس ذلك تواضع الرجل محدود المعرفة الذي لا يحسن الخروج من مجالات الأدب إلى مجالات العلم والتفكير المنطقي الدقيق، فواقع الحال أن له نظرات في السياسة والاجتماع حيرت بدقتها أفهام المتخصصين. وفي أصيلة التي شهدتها معه تحدث في جلسة عن أزمات العالم العربي، فاتني حضورها للأسف، ولكنني صحبته عقب تلك الجلسة في جولة في المدينة، وكان الناس يستوقفونه أينما مضى ليأخذوا صورة له، أو صورة معه، ويشيدون بما قاله بالأمس حتى ارتفعت حرارة فضولي، فسألته: ماذا قلت في ليلة الأمس، وأي كلام بهرت به كل هذه الأسماع؟ فكان رده الساخر: كلام أيه ... دا كلام ترابلة ساكت". ويقول عنه صديقه العزيز الذي قاسمه همومه وأحاسيسه، الوزير محمد بن عيسى، الطيب صالح: "لا يعادي، ولا يحاسب، ولا يلوم. وهو كل كامل، لا ينافق، ولا يحابي، قنوع لدرجة إهمال حقوقه ومستحقاته، دؤوب بقهقهته، وتقاسيم وجهه، وشرود نظراته. كل شيء لدى الطيب ملفوف في الحشمة، والتقشف، ونكران الذات. وليّ صالح دون عمامته." ويصب في الاتجاه ذاته قول الروائية اللبنانية رشا الأمير: الطيب صالح "رجل لا يحب الضوء، بل يهرب منه ويتحاشاه. ومن البديع أن الناس كرَّموه دون أن يطلب، أو حتى يبحث عن ذلك، بل كان زاهداً ومتعففاً. هذا جيل آخر، غير جيل الأدباء الجديد الذي يستجدي الشهرة ويطاردها، الطيب صالح كانت النجومية هي التي تطارده." وبهذه النماذج المختارة من الشهادات المنبسطة في أريحية حول إنسانية الطيب صالح وتواضعه أكتفي، وأوجز القول بالمقولة المأثورة لأسماء بنت عبد الله العذرية: "لا عطر بعد عروس".

أحلام العودة إلى السودان:
كانت أحلام العودة إلى السودان هاجساً معششاً في مخيلة الطيب صالح، لا يفارقه في حله وترحاله. لذا فإن الدكتور منصور خالد لا يطلق عليه صفة المهاجر، أو اللاجئ، أو المنفي، "لأن الأوطان ليست ظواهر جغرافيا، فالأوطان ترحل في قلوب أصحابها." ويؤكد صدق هذه الفرضية قول الطيب نفسه رداً على السؤال الذي طرحه عليه الأستاذ خالد الأعيسر في حوار تلفزيوني: "ألم يحن وقت هجرة الطيب صالح جنوباً للاستمتاع بدفء العشيرة والأهل، بعيداً عن بلاد تموت من البرد حيتانها كما وصفتها؟ فجاء رد الطيب عليه رداً حزيناً، أبكى المجيب أولاً، قبل أن يبكي مستمعيه: "أنا دائماً أقول حين أواجه بهذا السؤال بأنني أحمل السودان بين أضلاعي... ولست في حاجة إلى أن أعود إليه لأنني عايش فيه... وفي هذا الزمان أصبح الوجود الجسماني لشخصي في مكان جغرافيَّا ما مهم، ولكنه ما هو مهم جداً.. في فترات كنت أزور السودان كثيراً، وكان الناس الذين أعزهم في السودان أحياء ... فقلُّوا، الموت ما قصر أخذ كثيرين من الأعزاء، لكنني أحب جداً أن أتمكن من زيارة السودان على فترات قصيرة، الآن لا أستطيع أن أسافر، هذه العلة التي أعاني منها، لأني أنا مرتبط بغسيل الكُلى ثلاث مرات في الأسبوع، ولا أستطيع أن أسافر، لكن عندي أمل قوي إن شاء الله قبل ما نودع هذه الدنيا، نزور البلد، ونشم هواها، ونشم تربتها، ونرى ما بقى من الأصحاب."
ويتجدد هذا المشهد في كل روايات الطيب صالح، لأن الراوي عاش في قريته كما يعيش أهلها، وظل يعتقد جازماً "أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب، أو مبدع، يوجد طفل قابع في أعماقه، والإبداع نفسه فيه البحث عن الطفولة الضائعة." ويقول الطيب أيضاً "حين كبرتُ ودخلتُ في تعقيدات الحياة كان عالم الطفولة بالنسبة لي فردوساً عشتُ خلاله متحرراً من الهموم، أسرح وأمرح كما شاء لي الله، وأعتقد أنه كان عالماً جميلاً ... وذلك هو العالم الوحيد الذي أحببته دون تحفظ، وأحسست فيه بسعادة كاملة، وما حدث لي لاحقاً كان كله مشوباً بالتوتر."
ويقول الأديب المرهف في أحد مقاطع أدبياته الروائية القصصية: "استيقظتُ في فراشي، وأرخيت أذني للريح. ذاك لعمري صوت أعرفه. سمعت هديل القمري، ونظرتُ إلى النخلة القائمة في فناء دارنا، فعلمتُ أن الحياة ما زالت بخير. أنظر إلى جذعها القوي المعتدل، وإلى عروقها الضاربة في الأرض، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة. أحس بأنني لست ريشة في مهب الريح، ولكني مثل تلك النخلة مخلوق له أصل، وله جذور، وله هدف."
وفي زيارته الأخيرة إلى السودان عام 2005م يقول الطيب: "وعندما حلَّقت الطائرة فوق مروي، وشفتُ النيل والمزارع والنخيل، حدث لي شعور عظيم." ويبدو أن ذلك الشعور كان أشبه بما حدث له قبل خمسة عقود عندما زار قرية ود حامد (كرمكول) الرمز، وسطر تلك المشاعر الجيَّاشة في فاتحة "موسم الهجرة إلى الشمال" بلسان الراوي: "عدتُ إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد، كنتُ خلالها أتعلم في أوروبا. تعلمتُ الكثير، وغاب عني الكثير، ولكن تلك قصة أخرى. المهم إنني عدتُ، وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل. سبعة أعوام وأنا أحنُّ إليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة، أن وجدتني حقيقة قائمة بينهم، فرحوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسستُ كأن ثلجاً يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس، ذاك دفء الحياة والعشيرة، فقدته زماناً في بلاد تموت من البرد حيتانها."
والمشهد التالي يحكي عن موقف للراوي الذي لم يكن قشة في مهب الريح، بل إنسان له مواقفه المرتبطة بجرس الأرض التي ينتمي إليها، وعزة أهله الطيبين، وفي هذا يقول الراوي على لسان أحد شخصياته الروائية: "وقتين طفح الكيل، مشيت لأصحاب الشأن، قلت ليهم خلاص. مش عاوز ... رافض ... أدوني حقوقي، عاوز أروّح لي أهلي، دار جدي وأبوي ... أزرع وأحرث زي بقية خلق الله، أشرب الموية من القلة، وآكل الكسرة بالويكة الخضرا من الجروف، وأرقد على قفاي بالليل في حوش الديوان ... أعاين السما فوق صافية زي العجب، والقمر يلهلج زي صحن الفضة ... قلت ليهم عاوز أعود للماضي، أيام كان الناس ناس، والزمان زمان.."
ويبدو أن هذه المشاهد اللامعة وتلك المشاعر المتدفقة قد دفعت الدكتور حسن أبشر الطيب والأستاذ محمود صالح عثمان صالح وآخرين فضلاء بأن يقوموا بجمع بعض المال لشراء بيت للطيب صالح في السودان، ولكن لتعذر المسعى بعض الشيء يقول الطيب: فسألني حسن أبشر ماذا نفعل، وخطر لي في الأول إرجاع الفلوس للمتبرعين، لكننا فكرنا والأخ محمود صالح عثمان صالح ... وقلنا: "والله كويس نخصصها لجائزة، وهم من اقترحوا أن تكون باسمي، مع إني كنت أفضل لو أنها كانت باسم التجاني يوسف بشير مثلاً، وختينا القريشات دي عشان تبقي نواة لهذه الجائزة."
لا غرو أن فكرة الجائرة كانت فكرة طيبة، والشكر موصول لأصحابها، لأن فيها تخليد لاسم الأديب الطيب صالح بين أهله وعشيرته، وفيها نوع من التقدير والعرفان الذي يستحقه ذلكم الرجل النخلة، لأنه بفضل عطائه السابل قد منح السودان اسماً عظيماً في المحافل الأدبية والفضائيات، بعيداً من إرث الحروبات، ونزوات السياسة البغيضة في السودان.

بين دومة ود حامد والبكري وشائج قربى:
عاد الطيب صالح عودة أبدية إلى السودان الذي أحبه، وذلك في يوم جمعة حزينٍ وباكٍ، يوافق العشرين من فبراير 2009م، إلا أن عودته لم تكن كما كان يتصورها الدكتور حسن أبشر الطيب، والأستاذ محمود صالح، ورهط من الصحاب بأن تكون إلى بيت كُتب على ناصية مدخله الرئيس المطل على المشرق "منـزل الأستاذ الطيب صالح"، ليكون ذلك المنـزل داراً للأدب وتواصل الأدباء، بيد أن المنية كانت أسرع من تصور هؤلاء، وأحلام العودة إلى الجذور. وعندما نعنى الناعي خبر وفاة الطيب صالح في يوم 17 فبراير 2009م شمر الأستاذ حمور زيادة وآخرون عن سواعدهم، ونادوا بضرورة دفن جثمانه في مقابر الدواليب بقرية كرمكول، لأن ذلك فيه إكرام لـ"دومة ود حامد" الرمز، إلا أن وجاهة هذا الطلب لم تقف حائلاً أمام دفن جثمان الفقيد في مقابر البكري. ونقول لحمور زيادة وصحابه لكم العتبى حتى ترضوا، فبين مقابر الدواليب بكرمكول ومقابر البكري وشائج قربي، لأن أجداد البكري ينحدرون من دبة الفقراء المجاورة لكرمكول، فرمزية "دومة ود حامد" ستظل في البكري رغم سعة البون بين المرقدين. فضلاً عن ذلك فإن السيِّد مصطفى البكري بن السيِّد إسماعيل الولي الذي سُميت عليه المقبرة كان عالماً صالحاً، ومشهوداً له بالورع والزهد والتقوى، توفي بأم درمان عام 1892م، وكان البكاء ممنوعاً في أيام الدولة المهدية، ولما سمع الخليفة عبد الله الصياح قال: جاز البكاء على مثله. وقياساً يجوز البكاء على الطيب صالح والدعاء الصالح له، لأنه انتقل للدار الآخرة، ومعه صلاته، وزكاته، وصيامه، وحجه، وهجوده، وسجوده. وفوق هذا وذاك سينادي المولى عز وجل يوم ينادي المنادي، قائلاً: "عبدك المسكين الطيب ود محمد صالح ولد عائشة بنت زكريا يقف بين يديك خالي الجراب، ومقطع الأسباب، ما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة". فنسأل الله أن يجعل المحبة التي عاشها الطيب طولاً وعرضاً في ميزان حسناته الراجح، لأنها كانت محبة منبسطة للجميع، لا يسعها حيز جغرافي، ولا تحدها روابط صلب وترائب، بل كانت منداحة بقدر اندياح صاحبها في حب الآخرين، الذين بادلوه حباً بحب، لأنه أمتعهم وآنسهم، وأبدع إليهم وأروعهم، وشرفهم وناب عنهم في كثير من المحافل الأدبية، وأخيراً جعل لسان حالهم يودعه إلى مثواه الأخير بأبيات رثاء تنسب ليحيى بن سلام الأبرش:
لعمرك ما الـرزية فقد مال . . . ولا فرس يموت ولا بعـير
ولكن الــرزية فقد حــر . . . يمــوت لموته خلقٌ كثير

منقول من المصدر: أحمد إبراهيم أبوشوك، السودان: السلطة والتراث، الجزء الثالث، أمدرمان: مركز عبد الكريم ميرغني، 2010، ص: 297-316.


ahmedabushouk62@hotmail.com

 

آراء