قراءة في الجغرافيا السياسية للوهم السوداني

د. الوليد آدم مادبو

ليس في السياسة أخلاق، بل توازنات. ولكن الكارثة أن تفتقر إلى ميزانك ثم تشكو اختلال الموازين.
— محمد حسنين هيكل

من يقرأ كتاب الدكتور النور حمد الأخير “الهيمنة المصرية على السودان: الصيحة الأخيرة قبل الابتلاع“، وما تبعه من مقالات للأستاذة رشا عوض وآخرين، يدرك أن فكرة “المؤامرة المصرية” على السودان لم تعد ترفًا فكريًا، بل أصبحت سرديةً تفسيرية لكثيرٍ من أزماتنا المزمنة.

النور حمد يذهب إلى أن القاهرة لم تكتفِ باستتباع السودان، بل سعت إلى استغلاله إذا لم نقل استرقاقه؛ وأن مشروعها، منذ العهد التركي، كان قائمًا على هذا المنحى الإمبريالي. هذه الفكرة، وإن كانت جذابة في لغتها ومتماسكة في سردها، تثير سؤالًا أعمق: هل نحن فعلًا ضحية مؤامرات الآخرين، أم أسرى عجزنا الذاتي؟

أنا لا أختلف مع النور ولا مع رشا في تشخيص السلوك المصري تجاه السودان، لكني أختلف معهم في زاوية الرؤية. فالعلاقات الدولية — كما قال كيسنجر — “لا تُدار بالنوايا الحسنة بل بتقدير المصالح”. حين نُصرّ على وضع أنفسنا في خانة الضحية، نُعفي أنفسنا من عبء التفكير الاستراتيجي، ونُسقط مسؤوليتنا التاريخية عن صياغة مصيرنا. إن الدول لا تُدار بمنطق الجمعيات الخيرية، بل بمنطق الصراعات المانوية: قوى تتنازع، ومصالح تتقاطع، ومن لا يملك مشروعًا يصبح مشروعًا للآخرين.

المشكلة ليست في المصريين. فمصر، كما نعرفها اليوم، ليست دولة حرة الإرادة بقدر ما هي رهينة لمؤسستها العسكرية التي تحوّلت من حارس للدولة إلى مالك لها. هذه المؤسسة التي تشبه في تركيبتها النفسية والسياسية نظيرتها السودانية، تربطها بها علاقة “أوليغاركية” قديمة، تقوم على تبادل الولاءات والمنافع، لا على تبادل الرؤى والمصالح.

مصر، في جوهرها اليوم، لم تعد تلك القوة الإقليمية التي كانت تُخيف الآخرين. إنها دولة منكمشة، يتراجع طموحها من قيادة العالم العربي إلى حماية نظامها الداخلي، وتعاني من انهيارٍ اقتصاديٍ عميق، وتآكلٍ مؤسساتيٍّ ظاهر. لكنها لا تزال تحتفظ بشيءٍ نفتقده نحن: الوعي بالذات المركزية، وإن كان وعيًا مغشوشًا. لكنّا لا نجرؤ أن نفضحه ونحن أمة بلا قادة، ودولة بلا مشروع، بلا جيش قومي، بلا دبلوماسية محترفة، بلا فكرة واضحة لما نريد أن نكون؟

المشكلة فينا نحن. في ساستنا الذين أُغرموا بالهوية المشرقية حتى الذوبان، فتماهوا مع خطابها على حساب انتمائهم الإفريقي الأصيل. في استهانتنا بذواتنا الزنجية وإنكارنا لحضارتنا الكوشية وأصل نهضتنا الإنسانية، في نخبنا العسكرية التي ظلت تفتقر إلى رؤية وطنية تُنقذها من أسر التاريخ الكولونيالي، فبقي اقتصادنا رهينة لمنطق التصدير الخام والاستهلاك المستورد. في غياب كادر دبلوماسي قادر على الانتقال من “دبلوماسية الصالونات” إلى دبلوماسية التجارة والاستثمارات، ومن ردود الأفعال إلى صناعة المواقف.

لقد فشلنا في صياغة مشروع وطني جامع، يجعل من السودان كيانًا صلبًا لا تُخترق جبهاته بسهولة. وانشغلنا بالقضية الفلسطينية على حساب قضايانا الوجودية: الجنوب، النوبة، النوبيين، الزرقة، الشعوب الحامية في شرق السودان. ليس هذا فقط، بل أيضًا استعانت نخبنا العسكرية والمدنية على قمع الهامش بالترسانة الناصرية والبعثية، فوجد العدو فينا ضالته، وعندما واتته الفرصة، لم يتردد في تخريب اقتصادنا وتدمير بنيتنا التحتية. والأدهى، تسخير منصاته مؤخرًا لاستهداف بوادينا وتوجيه المسيرات إلى عمق أراضينا.

اليوم، لم يعد السودان مجرد بلدٍ مضطرب، بل ساحة تنافسٍ دولي ساخنة تتقاطع فيها المصالح الكبرى. الولايات المتحدة تراه ركيزة لإعادة هندسة القرن الإفريقي وضمان أمن البحر الأحمر. روسيا تسعى عبره إلى موطئ قدمٍ في الموانئ الدافئة. تركيا تبحث عن إرثها العثماني المفقود، وإيران عن منفذٍ لمعادلة عزلتها، بينما تشتغل الإمارات في الظلّ على هندسة الاقتصاد الموازي بالذهب والموانئ.
أما مصر، فترى في استقرار السودان أو انهياره معادلةً أمنية تخصّ بقاءها هي، لا جارتها.

لقد بات السودان اليوم ميدان صراعٍ استخباراتي ودبلوماسي سيُحسم، في نهاية المطاف، بقرارٍ أمريكي أو بتفاهمٍ دوليٍّ عريض. وحتى ذلك الحين، لا بدّ أن نكون واقعيين لا عاطفيين، وأن نكفّ عن الخطاب الانفعالي الذي يبدّد الرؤية. فالسياسة — كما يصفها البعض — “فن الممكن”، والممكن في حالتنا لا يُبنى إلا بالقدرة على المناورة، لا بالتباكي على المثالية.

إن أول الطريق إلى الاستقلال الحقيقي هو مواجهة الحقيقة كما هي: أن السودان لن ينهض بالعداء لمصر، ولا بالاستقواء بالآخرين، بل ببناء ذاته واستعادة ثقته بنفسه. حين نعيد صياغة مشروعنا الوطني على أساس المصلحة والواقعية والكرامة، يمكننا أن نتحاور مع القاهرة، ومع العالم أجمع، من موقع الندّ لا التابع.

ختامًا، إن الجغرافيا السياسية للوهم السوداني ليست مجرد قصة عن مصر، بل عنّا نحن: عن نخبةٍ أسكرتها الأساطير، عن وطنٍ نسي نفسه وهو يحلم بغيره. فلا جدوى من تكرار أن مصر استعمرت السودان أو أعاقت إمكانية التحول المدني الديمقراطي — فذلك تحصيل حاصل — بل الجدوى أن نُثبت أن السودان قادر على التحرر من أوهامه ومعالجة أسباب عجزه الذاتي.

ففي العلاقات الدولية لا تُدار الأمور بالمبادئ، بل بالمصالح، وهذه المصالح لا تُنتزع إلا بالكفاءة والحكمة، لا بالقوة ولا بالعاطفة. العالم لا يحترم الضعفاء ولا المتذمرين، بل يحترم من يملك قدرة الفعل ووضوح المصلحة.

‏October 23, 2025

auwaab@gmail.com

عن د. الوليد آدم مادبو

د. الوليد آدم مادبو

شاهد أيضاً

من المودودي إلى نيتشه: الدين بين الحنين والتحرّر

دكتور الوليد آدم مادبو أتتني رسالة ثانية من صديقي الإسلامي المقيم في الولايات المتحدة استحضر …