د. طبيب عبدالمنعم عبدالمحمود العربي
القمر بوبا
عليك تقيل قمر بوبا
العيون مثل الفناجين
الرقيبة قزازة عصير
ما بتشيل جردل على البير
ما بتحش قش التناجير
لابسا بت الباشا المدير
البنية الجاهلة تقدل
الجميلة بت الأصل
شتتي الشبال يا ام ضمير
خلي قلب الصبيان يطير
يا دهب شيبون النضير
فين قمر عشرين الأصيل
الغزالة الفوق في السلم
في المحطة تزيدني الألم
خيزران عودك مضمضم
البرتكان نهدك مدردم
شمعدان نفسك يا ام ختم
سلبت عقلي بقيت نساي
ما عرفت المعاي والبراي
يا قمر عشرة يضوي ليل
البوابا عليك تقيل
يا قمر بوبا
“لوحة، بل صورة حية متحركة، هكذا كان يغرد بها فنان الطنبور الرقيق إدريس إبراهيم، رحمه الله “
كنا في بواكير طفولتنا نتحلق مع الكبار حول الراديو الفيليبس يوم إذاعة برنامج ربوع السودان.ومع الفنان الرائع أحمد الرباطابي رحمه الله كنا نسعد بصحبته و نستمتع بصوته الطروب ، سياحة تنقلنا داخل ربوع الوطن جنوبا وشمالا وشرقا وغربا لا فرق، و كذلك كانت صحبتنا مع الصوت الحنون للمرحوم إدريس إبراهيم الذي كان مؤثرا ونغمات الطنبور المصاحب كانت تزيد من رقته وعذوبته. ولروعة اللحن قام كل من الفنانين الكبار سيد خليفة ومحمد وردي بأدائه مع إضافات وتعديل بعضاً من كلمات النظم الشعري.
كنا نسمع همسات هنا و هناك، تحكي قصص الوجد والعشق “بالنظر” التي كان تشغل وقت كبار الشباب في مواسم عودة المغتربين من مدن الوطن المختلفة خلال أعياد الفطر والأضحية حيث كان تكثر خلالها أفراح الأسر بزواج الشباب أو ختان الصغار. كانت حينها من الضمن أسرة تعود مرة كل سنة مع العائلات المسافرة، تتكون من زوجين وإبنة واحدة، قد يكون عمر تلك البنت بالتقدير حوالي التاسعة عشر. ونحن أطفالاً رغم صغرنا كنا بالفطرة نفرق بين الوجوه المليحة وغيرها من سمح الزي، لكن لا نعيرها إهتماما بحكم أننا كنا دون سن البلوغ. لكن كانت عدساتنا تصور وآذاننا تسمع وتسجل كل ما يدور حولنا في ذاكرة كانت هي وسيلة التصوير والتسجيل الوحيدة في ذلك الزمن. كانت تلك الشابة صفراء فاقع لونها وجمالها المميز “جمال تاجوج الما ليه مثيل” أو أكثر كان يلهم شعراء المنطقة . معظم كلمات الأغنية أعلاه كانت تنطبق على وصف تلك البنت. عيناها الواسعة كانتا مثل “الفناجين” والرقيبة طويلة ممشوقة “قزازة عصير” والرايقة أم ضمير ليست من النوع الذي يحش قش الجزير أو يشيل جردل ليملأ الزير. سلبت قلوباً متعبة ضاقت من العذاب، فتغنى بجمالها الكثيرون منهم الفنان المشهور في المنطقة “بابكر ود السافل” رحمه الله . هي ليست “آمنة ” التي شهرتها الأغنية المعروفة للكثيرين .
أتذكر زيارة والدتها ووالدها عندما يزوران والداي أثناء إجازتهما الصيفية. كنا نخاف من عيون والدة تلك البنت لكبرهما و للحور الذي ينتشر حولهما. كنا نهرب خوفا “من بحلقتها” ونختفي حتى انتهاء تلك الزيارة السنوية. والد البنت رجل بسيط سوداني عفوي الخاطر وطاهر النفس زاهدا دنياه يعمل كغيره من العمال في مؤسسات الدولة التي تعمل في قطاع النقل البري وميناء الوطن. لكن يبدوا سعيدا بسترة الحال وغنى النفس. لا يملك في الدنيا غير مهنته المتواضعة وأسرته الصغيرة. بالتأكيد هو وزوجته يعلمان أن الله قد وهبهما جمال تاجوج في شخص إبنتهما الغضة. للأسف بحكم الأمية التي كانت سائدة في ذلك الوقت إضافة إلى عدم انتشار تعليم البنات “تابو”، لم يتمكنا في إستثمار عفة وجمال إبنتهما بالتعليم أو مصاحبة المقتدرين من رجال الأعمال أو الإختلاط بأسر الموظفين في ذلك الزمن.
قبل أربعة سنوات جمعتني الصدفة بعد غياب سنوات طويلة مع أحد رفاق طفولتي وكانت تلك الأسرة تسكن جوار بيت أهله. سألته عن الحي منهم والميت وترحمنا عليهم وعلى من آثر البقاء في موطنه الجديد في السودان الواسع عوضاً عن بربر و في لمحة “فلاش” تذكرت كم نفر منهم ومن بينهم صاحبة الذكر “القمر بوبا عليك تقيل” و سألته لعها قد تزوجت وخلفت أجيالاً تحافظ بهم على جيناتها الأسطورية إ. قال لي بنبرة حزن ضارباً كفيه “والله الدنيا غلاٌبة، ظالمة، لو شفتها لا تصدق، إنها للأسف صارت إمرأة عبارة عن هيكل عجوز منحنية، يكسوه جلد “مكرمش”، تحمل “منجلاً وقفة” وتنزل كل صباح وعصر لتحش قشاً لغنيماتها، عمرها لم تتزوج ، فاتها القطار “.
جداً حزنت وتأثرت لما صارت إليه. قلت له حمداً لله على كل حال و أنها حافظت على شرفها وسمعة أهلها بالتوكل على الله والإستقامة، وليتك اختصرت و قلت لي هي بخير أو رحمها الله . هذه القصة الحقيقية عبارة عن مأساة مجتمع بأكمله . مجتمع وطن كبير يفتقد رعاية إجتماعية من الدولة “منظمة وعلى مستوى عالي من الجودة والإنضباط” و كذلك مسؤولية مؤسسات تأهيلية ترعى مثل هذه الحالة، وقديماً قالوا “صنعة في اليد أمانة من الفقر”. فالجمال وحده لا يخول الإنسان كجواز عبور ليرقي بنفسه إلى درجات عالية في الدوائر المجتمعية أو المعيشية . هكذا قد أفلّ سريعاً “قمرها الساطع ” ، شالت الجردل وردت من البير وملأت الزير وللأسف الشديد و هي وحيدة زمانها، لا قريب أو صديق، صارت “لكي تعيش عفيفة” عليها أن “تشمر” لتحفظ شرفها و تعول نفسها بنفسها، لم تسعد بعطر “الفلير دامور” الأصيل الذي تغني به “محمد وردي” يرش عليها لا في حلم ولا فرح، بل صارت الفقيرة المحتاجة زمانها كله و في آخر العمر غصباً عنها “تحش قش التناجير”. لا حول ولا قوة إلا بالله . الجمال فريد عصره حرمها من الزواج!
يا رب كما قد كرمت المرحوم بابكر ود السافل ” بحسن الخاتمة والدفن بالبقيع، أسألك أن تغفر لها وترحمها وتعوضها شبابها في الجنة، لا أعتقد أنها ستكون قد عاشت لتتحمل أكثر من صعوبات هذه السنوات العجاف نتيجة الخلافات و هذه الحرب الضروس . وحتما في السودان كثيرات من هن مثلها أو أسوأ حالا . و يا ديوان الزكاة، والله سيسألك الله عنها وعن كل من هو مثلها في هذا الوطن وكل الذين يموتون “كلالة” وفقراء .
ختاماً ملحوظة:
لم أتعرض لذكر إسمها أو أي خصوصية تخدش أحداً
القصة واقعية .ليتكم تترحمون عليها. لماذا تذكرتها اليوم؟، لأن أغلب أهلنا في الوطن اليوم في حاجة إلى دعم شديد أولا من قبل ديوان الزكاة الذي صار مضرب المثل “خارج السودان” تجربة تحتذى “لأنه قضى على الفقر في كل السودان”، وثانيا من المنظمات العديدة التي تدعمها الأمم المتحدة وثالثاً من وزارتي المالية والتعدين . على سودانايل أتابع بإهتمام مقالات السيد عبدالفتاح عبدالسلام “سردية هروبنا من أمدرمان القديمة” …. “بدأ بخطوة واحدة”، أعتبرها توثيقاً دقيقاً صادقاً لتاريخ واقع حرب وتشرد مؤلم يعيشه اليوم ملايين السودانيين، سيندثر في طي النسيان إذا لم يتشجع كل مواطن فيكتب تجربته مع تداعيات هذه الحرب اللعينة عليه وأسرته . كتاب “تاريخ حياتي” للشيخ بابكر بدري رحمه الله صار مرجعاً تاريخياً لأنه كتبه بصدق في سرد رائع ، دقيق وممتع. سردية الهروب من أمدرمان علق عليها الشاب إبن شقيقي النازح في مصر عندما بعثتها له قائلا ” والله كأنه يكتب عني أنا!. لقد عشت نفس المعاناة. ليتنا نحن الشباب نتشجع وكل واحد يكتب عن تجربته “. قلت له هذا ما نصبوا إليه ومع تطور الموبايلات يمكن إضافة الصور للمزيد من التوثيق. الشيخ بابكر بدري لو كان يمتلك آلة تصوير في زمنه لكان قد فعل، لكنه عوضا عن ذلك فقد أجاد دقة الوصف، واليوم السيد الأديب عبدالفتاح عبدالسلام مشكوراً قد أجاد كذلك وفي أسلوب أدبي رائع عكس للحاضر والمستقبل صور حال معاناة شعب بل وطن بأكمله يحتاج إلى عون عاجل، مادياً ونفسياً ومعنوياً.
عبدالمنعم
Copyright © Alarabi AA & Sudanile
aa76@me.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم