قولٌ في صراع البوشي وعبد الحي

 


 

د. قاسم نسيم
8 October, 2019

 

 

كانت محاولات الأستاذ محمود محمد طه من المحاولات الباكرة والهيكلية في تجديد الفكر الإسلامي، فقد بَكَّر بها منذ العام 1951، وأتى بمنهج في التناول الإسلامي جديد كليةً ، عصارته إقراره بالنسخ الشيء الذي أنكره جُلَّة لاحقيه، وأقرَّه غالب سابقيه، لكن تفرده في إعمال المنسوخ وإعطال الناسخ، وهذا لم يَسبق إليه أحد حدَّ علمي، وبكلمة أخرى أجرى المكي وجعله الأصل وأوقف المدني وعدَّه طارئاً، وساق إلى رأيه حججا منطقية أحسبها ذات وجاهة، ربما قلبتها بعد حين ، ونتج عن رؤيته تلك انقلاب في تصورات منهجه للإسلام غير مسبوقة، غايتها جعل الدين مواكباً لروح العصر، وهي رؤيةٌ أخالها قمينة بالتأمل والتدبر، وقد أدهش ناتجها المفكرين المحدثين في المغرب العربي والشام، الذين لم يتحصلوها إلا متأخراً جداً، وهذا حالنا في العالم العربي فلا يعتدُّ بمفكرينا وأدبائنا، وقديما قال عبد الله الطيب لاحياً على العرب إنهم يعاملوننا كإقليميين، لقد سبق محمود محمد طه هؤلاء المفكرين الإسلاميين بنحو من نصف قرن ويزيد، وما أخرجه من اجتهاد لا يبعد كثيرا عن محصلة ما بلغوه، رغم اختلاف المناهج، فله فضل نقض التصور التراثي وإبتداع تصور عصري، لا ينازعه حوز سبقه منازع، وربما هدى تصوره هذا الحداثي آخرين إلى ضرورة تحصيله وفق مناهج أخرى، فحدث الجدل فأحدث مدارس جديدة لا تزال تترى لا تنقضي.

أما قوله في الإنسان الكامل فنجد له أصداءً عند ابن عربي وعبد الكريم الجيلي الذي صنف كتابا كاملا يحمل اسم "الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل" ، فهو فيه متبع إذن.أما قوله الذي تجلى في معنى صلاة الأصالة فلم أهتدي لسابق له، وإن وجدت من المحدثين من يجعلها كيفيتين، كيفية هي إياها التي نعرفها ونقيمها وكيفية آخرى يصرفها إلى الصلة بين المرء وربه، وهي تفتقر إلى الحركات بالتالي ، ولعلهم ألهمتهم رؤيته في صلاة الأصالة إلى ما ذهبوا، لكن أكثر الناس لا يرتاح إلى التجديد في شعيرة الإسلام الكبرى وإن رضي بالتجديد في غيرها، لكن ما يهمنا هو رؤيته التجديدية في الشريعة فحسب.

وما نشهده هذه الأيام من أقوال يتصدرها بعض الدعاة عن ردته ليس ثمة جديد فيها، فهذا هو رأي الإسلام الرسمي بعامة الذي انتصر بصعود الخليفة المتوكل العباسي، وصار هو النسخة الرسمية، لذلك لا ننفك نشدو بضرورة الإصلاح الديني لضمان حرية الاعتقاد ولنتيح السوانح على الأقل لبروز نسخ أخرى، ونعيش حرية الاجتهاد، إذ أن هذه النسخة لا انفلات منها ولا محيص، فحتى أعلام الاعتدال حديثاً لم يستطيعوا منها إفلاتا في مثل هذه القضايا، فرجلٌ مثل الشيخ محمد الغزالي المشتهر بوسطيته ونقده للتزمت، بل وللتراث أيضاً وتجديداته معروفة، ما كان منه إلا أن أقرَّ بردة فرج فودة حينما اُستقدم شاهدا أمام محكمة قتلة فودة، فقد عدَّه الغزالي كافراً مرتدا، بل ذهب أكثر من ذلك إذ أفتى بجواز "أن يقوم أفراد الأمة بإقامة الحدود عند تعطيلها" وهذا يعني أنه لا يجوز قتل من قتل فرج فودة!! وأضاف الغزالي قائلا "إنهم أدوا الفريضة"، لكن ماذا فعل فرج فودة حتى يُفتى بردته، كل ما فعله أنه نقب في كتب التاريخ والتراث الإسلامي وأخرج ما حسب سوآت في هذا التاريخ يرد بها على دعاة العودة للوراء، فحكم بردته.

وفي تراثنا الإسلامي كل من قال مثل قول محمود قتل، فقد قتل السهروردي وقتل الحلاج من قبل، وطائفة طويلة تراها تقف على طريق المشانق، تحمل في أعناقها أفكارها التي جهرت بها فأوردتها المهالك، وأول شأن الأستاذ محمود محمد طه بمحاكم الردة لعله كان سنة 1968 حينما تقدم ضده أمام محكمة الاستئناف الشرعية الأمين داؤود وحسين محمد زكي، فحكم بردته القاضي توفيق أحمد الصديق، وعرفت هذه بمحكمة الردة الأولى تفريقاً بينها ومحكمة الردة الثانية التي قضى فيها، ولم يقتصر القول بردته على السودان فقد أفتى بردته المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي سنة 1395، وقبله أفتى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف سنة 1972 بردته، والأزهر يمثل مرجعية الإسلام الأشعري الذي يتبعه متبعو المذاهب الأربعة وكذلك الجماعات الصوفية على مشرب الإمام الجنيد، إذن اتفق في ردة الإستاذ محمود محمد طه كل حراس الإسلام الرسمي أشاعرة وحنابلة، أو قل سلفية وصوفية، لماذا نتحدث بهذا الشكل؟؟؟ ونورد هذه الأقوال!!! إنما نتحدث هكذا لأننا نخشى أن تستحيل القضية التي تسامعنا بها من شكوى السيدة الوزيرة البوشي ضد اتهامات د. عبد الحي يوسف لها بالردة لاتباعها منج الأستاذ محمود أن تستحيل إلى محاكمة فكر الأستاذ محمود محمد طه، ونعلم بناءً على ما تقدم من محاكمات وفتاوى النتيجة المتوقعة، ولن تخلو ملابساتها من إرهاب، نقول هذا وأعيننا تنظر لفتوى الغزالي، وما أخشاه أن يتم حشد كل تيارات الإسلام الأشعري والسلفي -وهم عامة المسلمين- ليشكلوا حضوراً وتظاهرا وضغطاً لتوجيه الحكم لصالحهم في المحكمة، وليس الحكم لصالح السيدة الوزيرة أو قل لفكر الأستاذ محمود بأهدى خشية، بل هنا إذن الخشية أكبر، فسيحمل هذا الحكم على أنه خروج عن أحكام الإسلام، ومعاداة ومحاربة له ويُسَوَّق ذلك ضد الحكومة الانتقالية بلا ريب، فإن قرأنا ذلك مع الانقسام الذي طفق ينشب بين الثوار في الشارع السوداني فستكون إذن تلك معركة ليست في صالح الثورة أبداً، لأن الناس بعامة إن وجدوا أنفسهم في معركة كهذه بين ما تعتقده عقائدهم ومواقفهم السياسية سينحازون إلى عقائدهم بلا شك، فكل معركة ضد الإسلام الرسمي خاسرة وإن انتصرت بالقانون، خاسرة –على الأقل في الوقت الراهن- لأنها ستفقدك القاعدة الشعبية التي صغتها سياسيا كثوار، وأنت في أمس حاجةٍ لها اليوم أكثر، حيث أن استحقاقات الثورة باتت معتقلة وأنت في معركة تحريرها وإنجازها، فتخلق لك معركة جانبية يكون عنصرها الحاسم العقيدة، فالرأي عندي البعد عن هذه المعارك في الوقت الراهن والتزرع بالصبر على طاعن القول.

gasim1969@gmail.com

 

آراء