قراءة في ملامح الذات السودانية وتحديات الهوية
عرض وتقديم: محمد نور احمد
في زمن تتزاحم فيه الأسئلة حول الهوية والذات والذاكرة الجمعية، يأتي كتاب «الشخصية السودانية بين الواقع والأسطورة» للدكتور عادل عبد العزيز حامد كمحاولة فكرية جريئة لفهم النفس السودانية في تشكلها التاريخي والثقافي، وفي تناقضاتها الظاهرة بين الأصالة والمعاصرة، بين البساطة والتعقيد، وبين الخضوع للعوامل الخارجية والقدرة على التكيف والمقاومة.
الكتاب لا يُقدِّم مجرد تأملات انطباعية أو مقاربات اجتماعية سطحية، بل يسعى إلى بناء تصور شامل عن الإنسان السوداني بوصفه كائناً تاريخياً وثقافياً تشكّل في بيئة فريدة من نوعها، تداخلت فيها العناصر العربية والأفريقية، وتمازجت فيها الديانات والمعتقدات والأساطير الشعبية، حتى صار هذا الخليط المعقّد هو ما يمنح الشخصية السودانية فرادنها وتميّزها في العالم العربي والإفريقي على السواء.
بين الجغرافيا والتاريخ.. ملامح التشكل الأول.
يبدأ د. عادل عبد العزيز حامد كتابه باستقراء الجغرافيا الطبيعية بوصفها قاعدة لفهم النفس الإنسانية. فالسودان، بامتداده الشاسع وتنوع بيئاته من الصحراء إلى النيل، كان مسرحاً لتفاعل طويل بين الإنسان والمكان. هذا التفاعل – كما يوضح المؤلف – أنتج شخصية تميل إلى التأمل والسكينة حيناً، وإلى الصبر والمواجهة حيناً آخر.
ثم ينتقل المؤلف إلى دراسة التحولات التاريخية الكبرى: من ممالك النوبة القديمة إلى الإسلام وانتشار الثقافة العربية، ومن ثم تأثير الاستعمار الحديث وبناء الدولة الوطنية. ويرى أن كل مرحلة تركت أثرها العميق في السلوك الجمعي، وأن الشخصية السودانية ظلت عبر هذه التحولات تبحث عن توازنها بين الانتماء إلى جذور إفريقية عميقة والارتباط بالعالم العربي والإسلامي.
الأسطورة والواقع.. حين يتحول الخيال إلى ذاكرة جمعية
من أبرز ما يميز هذا الكتاب هو اعتماده على منهج مزدوج يجمع بين التحليل النفسي الاجتماعي والرمز الثقافي الأسطوري. فالكاتب يرى أن كثيراً من تصرفات السودانيين وردود أفعالهم اليومية تُستمد من موروث رمزي قديم، تتوارثه الأجيال في شكل حكايات وأمثال وأساطير.
يقدم المؤلف أمثلة من التراث السوداني، مثل قصص الأبطال الشعبيين، وأمثال الحِكمة الريفية، والرموز النيلية التي تختزن في داخلها فكرة الصراع بين الحياة والموت، والخير والشر.
ويذهب إلى أن الأسطورة هنا ليست نقيضاً للواقع، بل هي ذاكرة جمعية تحفظ التجارب وتُعيد صياغتها بلغة رمزية، تجعل الفرد يعيش في توازن بين عالمين: العالم الواقعي المادي، والعالم الرمزي الروحي.
التنوع الثقافي.. من التناقض إلى التعايش.
في أحد الفصول المهمة، يناقش د. عادل عبد العزيز حامد التعدد الإثني والثقافي في السودان، ويصفه بأنه «نقطة القوة ونقطة الضعف في الوقت نفسه». فهو يمنح الشخصية السودانية ثراءً وتنوّعاً في التعبير والعادات والموسيقى واللغة، لكنه أيضاً يخلق حساسيات وصراعات حين يُساء توظيفه سياسياً أو يُستغل في خطاب التفرقة.
ويرى المؤلف أن تجاوز هذه الإشكالية يتطلب وعياً وطنياً جديداً يعترف بالاختلاف دون أن يحوله إلى انقسام، وأن الثقافة يمكن أن تكون الجسر الأوسع بين المكونات السودانية المختلفة، لا السلاح الذي يُشعل الخلاف.
وفي هذا الإطار، يدعو إلى إعادة قراءة التاريخ الثقافي السوداني بطريقة نقدية تُبرز المشتركات وتستعيد التراكم الحضاري المنسي الذي صنع وجدان الأمة.
الإنسان السوداني.. معادلة بين الحلم والواقعية
من أكثر المقاطع تأثيراً في الكتاب تحليله لسمات الشخصية السودانية في بعدها النفسي والاجتماعي:
فهي شخصية مائلة إلى التواضع والزهد، لكنها مفعمة بالكبرياء الداخلي؛
تتصف بالوداعة والكرم، لكنها تتحول بسرعة إلى الصلابة في مواجهة الظلم؛
وتعيش بين الانفتاح على الآخر والتمسك بجذور القيم التقليدية.
ويُرجع الكاتب هذه الازدواجية إلى طبيعة التجربة التاريخية للسودان، حيث عاش الإنسان في ظل أزمات متكررة جعلته يمزج بين الحلم والواقعية، وبين الإيمان بالقدر والقدرة على مقاومته بالفعل والعمل.
ويخلص المؤلف إلى أن فهم الشخصية السودانية لا يمكن أن يتم إلا من خلال النظر إليها ككائن روحي قبل أن تكون كائناً اجتماعياً، لأن القيم الدينية والروحية تشكل في وعي السودانيين أعمق مستويات السلوك الجمعي.
الكتاب كدعوة للتأمل وإعادة البناء
يتميز أسلوب د. عادل عبد العزيز بلغة تجمع بين الأدبية والبحثية، مما يجعل القراءة ممتعة وغنية في آن واحد. فهو لا يكتفي بالسرد، بل يستخدم التحليل والمقارنة، ويستشهد بالموروث الشعبي والنصوص التراثية والأمثال، ليُظهر كيف أن الهوية السودانية مشروع مستمر في التشكل، لا حقيقة جامدة.
ومن خلال هذا الكتاب، لا يقدّم المؤلف إجابات نهائية بقدر ما يثير أسئلة عميقة حول من نحن؟ وكيف نرى أنفسنا؟ وكيف نُقدِّم صورتنا للعالم؟
وهي أسئلة تجعل القارئ السوداني يعيد النظر في ذاته، وتجعل القارئ العربي يكتشف عمق التجربة الإنسانية في السودان بعيداً عن الصور النمطية السطحية.
خاتمة
إن كتاب «الشخصية السودانية بين الواقع والأسطورة» ليس مجرد دراسة أكاديمية، بل هو رحلة تأمل في الذات السودانية، ومحاولة لتصالحها مع تاريخها وتنوعها.
يُقدّم د. عادل عبد العزيز حامد عملاً نادراً يوازن بين التحليل العلمي والروح الإنسانية، ويفتح أمام الباحثين باباً واسعاً لفهم الشخصية السودانية بعيداً عن التبسيط أو التعميم.
هذا الكتاب يُعد إضافة نوعية للمكتبة السودانية والعربية على حد سواء، لأنه يجعل من الهوية مشروعاً للفهم والتطور، لا سجناً للماضي أو مادة للخلاف.
ومن خلاله، يتجلى صوت المثقف السوداني الذي يسعى إلى بناء وعي جديد يقوم على المعرفة والتسامح والاعتزاز بالذات.
نبذة عن الكاتب
الدكتور عادل عبد العزيز حامد
باحث ومفكر سوداني، يُعد من أبرز الأصوات الفكرية المعاصرة في مجالات الهوية والثقافة والسياسة. له مؤلفات تناولت قضايا السودان الفكرية والإنسانية برؤية نقدية عميقة تربط بين الماضي والحاضر.
*تمت كتابة هذا المقال بالاستعانة بالذكاء الاصطناعي بتصرف.
*
mohamedelkhr@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم