كمبالا 1979: انفد بجلدك يا أخي . . ! بقلم: جمال محمد إبراهيم

أقرب إلى القلب : 
  jamalim@yahoo.com
فصل من رواية “دفاتر كمبالا” قيد النشر
إهداء خاص إلى الصديق شوقي بدري 
          قلت ليوسف : التقيك في “حانة الخفاش” هذا المساء ، فوافق  . .
        “حانة الخفاش” هذه الليلة ، في غربي كمبالا ، هي ملاذي الآمن ، وملجأي الأخير ، وأنا مثقل بالشكوك والريب ، تحاصرني الأقاويل والشائعات من كل اتجاه . .  أزعجني صديقي “كريس” هذا الصباح حين واجهني بالشائعات التي تدور في أوساط الطلاب حول شخصي .  قال لي أنه سمع همساً عما سماه ” تورطاتي” مع السيدة “كريستينا ” .
– أكون صريحاً معك : إنني أحبها . . !
صاح في وجهي بما لم أتوقع :
– تحبها . . ؟ اسمعني أيها الصديق : أنا أخشى أن تنهار القلاع الوهمية  عليك وحدك . عندها لن تجد من يعيرك نظرة إشفاق أو رثاء . . !
لا . . لن أمضي في جدال  غير مجدٍ . هربت بجلدي من “كريس” .
         في “حانة الخفاش” ، كان ينتظرني صديقي السوداني يوسف . حينما طلبته للقائي هذه الأمسية ، كانت استجابته فورية ، لكنه كان  قلقاً ومنزعجاً بلا سبب ظاهر . ولأن السكن الجامعي لا يبعد كثيراً عن “حانة الخفاش” ، فإني لم أكن أخشى أية متاعب من الجنود المدججين في ناصية الشارع المؤدي إلى الحانة ، فهم يعرفونني . بعضهم من أصول سودانية ، ويحسنون معاملتي عند نقطة التفتيش ، متى ما عرضت عليهم في طريقي إلى أو من مبنى الجامعة .
        جلسنا في زاوية معتمة ، لا يلحظنا فيها أحد .  طلبت كأسين كبيرين من الجعة اليوغندية ، وقلت لصديقي يوسف ،  أطمئنه :
– ليس ثمة ما يزعج . هي قصتي أنا . بلغ بي الضيق مبلغاً كبيراً  في كمبالا . .
قال يوسف ملاطفاً :
 – من منا لم يقتله الملل ؟  أنا لم أكمل إلا شهرين ، وها أنذا لا أعرف طريقاً يعيدني إلى الخرطوم من جديد . .  لكن قل لي ما الأمر . أحسّ بك قلقاً . . أهي أحوال الجامعة ، أم أحوال البلد عموماً . . ؟
– طلبتك أيها الصديق لأمرين . . نعم تزعجني الجامعة وأحوالها  ، وأحوال البلد أيضا .
          كنت على وشك الاعتراف له بقصتي التي تؤرقني ، لكني آثرت أن أحصر حديثي عن قلقي من أوضاع البلاد ، وهي على شفير حرب أهلية قد تكون طاحنة ، واضطرابات لا نعرف إلى أين تقودنا .  جئت بهواجس شخصية تخصّني وحدي ، فإذا بي أشهد هواجس القارة السوداء بأكملها تقضّ مضجعي  وتسد منافذ خروجي إلى أفق الحياة . موهت الأمر الثاني ولم أشأ أن افصح به .
– أوافقك أيها الصديق . . رؤيتي أن مخاطر حقيقية تنتظرنا ، فيما إذا بقينا معلقين حتى يهجم المتمردون على العاصمة كمبالا . إني مثل أيّ سوداني موجود مؤقتاً هنا في يوغندا ، أستشعر إنزعاجا حقيقياً . .
– تقصد بشأن تورط بعض السودانيين من أبناء “جنوب السودان” ، كحماة للنظام  الحالي ؟
رفع يوسف كأسه واضاف ، مستهينا بالخطورة التي كنت أرى بها الأمر :
– نعم .. هم من أبناء القبائل المشتركة على الحدود السودانية اليوغندية . . هؤلاء انقطعوا عن وطنهم الأم ، كما قد تعلم . . لا علاقة لهم بالسودان ، فهل  يتحمل السودان عبء هؤلاء ، أو أوزارهم ، إن أحسنا الوصف !؟
– سمعت في الجامعة شائعة عن مقتل قائد سلاح المدرعات الكولونيل “سوليا” ، في اشتباكات في المطار . هل  سمعت تأكيداً للخبر ؟
– صديقنا الكولونيل “سوليا”. . آه . . لا . . لا أظنها شائعة . كان رجلاً  شجاعاً مقداماً . . ولكن . .
– أليس هو من كان معنا  في حفل السفير في داره بـ “كولولو” ؟
         سألته ولم أنتظر رداً ، بل رأيت في عينيه حسرة وحيرة . لفّنا الصمت للحظات . تذكرت  حبيبتي “كريستينا” ، وتذكرت طلبها أن أنقل تحذيرها الغامض إلى صديقي يوسف  .  قلت له ، بلهجة من لا يعنيه الأمر في شيء ، لكنها لهجة آمرة  :
– أريدك أن تلزم الحذر ، أيها الصديق . .
          ترددت أن أبوح له بمن أبلغني التحذير . .
          لم يبدِ اهتماماً بطلبي منه اتباع الحذر. لم أعرف في حقيقة الأمر، لمه همستْ لي “كريستينا”  بذلك التحذير، ولم أرَ داعياً ملحّاً لنقل التحذير إليه بصورة جادة . .
– رأيت أن  أستشيرك في قرار مغادرتي كمبالا . .
         نظر يوسف حوله ، كأنه  يخشى أن يسمعه أحد . الحانة ملأى بالروّاد ، بعضهم من عناصر أمن ال” سي آي دي ” ، مخابرات نظام “الجنرال”. رائحة الخمر تختلط بدخان السجائر الكثيف ، وبضحكات نساء لعوبات خرجن لغواية الليل . صخب الموسيقى صار مزعجاً ، وأصوات الجالسين تعلو من حولنا ، بضحكهم وهزرهم وشجارهم . الوقت يقترب من منتصف الليل . يتواصل السهر في علب الليل وحانات العاصمة ، إلى ساعات متأخرة نسبياً ، برغم مخاطر كسر قرار منع التجوال ، إذ في هذه الضاحية ، غربي كمبالا ، لا يلتزم السكان عادة  بالأوامر العسكرية . شيء يعكس ضعف السيطرة على الأوضاع ،  إلى أبعد من وسط العاصمة .
–  الذي أعرفه أخطر بكثير مما تظن . أسمع عن أصابع انتقام إسرائيلية تحرك كل شيء . هل تتذكر تلك الطائرة التي خطفها  فلسطينيون من الجبهة الشعبية  إلى مطار  “عنتبي” . . ؟  لن ينسى الإسرائيليون لل”جنرال” حمايته للخاطفين . .
     رشف  يوسف من كأسه جرعة معتبرة ، ثم قال  :
– هذا نظام متهالك . . انفد بجلدك يا أخي . . ! 
بيروت  -2009
 

شاهد أيضاً

مرآة ذهنيتي على بندقية الوطن: الجيش السوداني في معادلة الشرق الأوسط

زهير عثمان zuhair.osman@aol.com هذه مقاربة فيها الكثير من الخيال المجنون، الذي ساقني إليه التأمل العميق …