من أزاميل الزمن- مجموعة قصصيّة:
لم يصدِّق أحد التماسك الذي لازمني و اليقين الذي هبط عليَّ و أنا أتلقى خبر وفاة الوالد، عليه رحمة الله، بل كان التوقع من الكثيرين أن أنهار فور سماعي النبأ، و معهم حق: لأن علاقتي بوالدي كان خليطاً معقداً و طيفاً لا حدود له من الصداقة و الزمالة... كنّا نأنس لبعضنا أنسا حميماً و نضحك ملء شدقينا، كالمجانين، على أمور لا يمكن أن تثير و لو الرغبة في الإبتسام لدى الكثيرين، و كان إذا ما بدأ جملة أكملتها له، و ما جالت بخاطره فكرة إلا واستوعبتها على الفور، و كان ذلك يريحه، و بلإضافة إلى ذلك كنت ألبي رغباته الصغيرة و أفهم بسرعة ما يودني أن أفعل من اجله، دون أن أحوجه للكلام، و في هذه الحالة فقد كان يكتم الإبتسام، في تعبير يميزه، عن الرضا...
هذه العلاقة الإستثنائيّة، لم تأتي من فراغ، و أغلب الظن أن وفاة أمي في طفولتي الباكرة، و التي جعلته أما و أبا لي في آن، بل الكل في الكل قد أثمرت هذا الإرتباط الخرافي... و الإنتماء المتين.
و في الحقيقة، أنني لم أكن متماسكاً بقدرما كنت غير مصدقاً لموته... و كنتُ، خلال أيام العزاء و ما تلاها، استعرض أشرطة الذكريات، و أتملَى، مواقف لا تُنسى، ماضية... و ألوذُ بالسرحان و أنا أرى أبي أمامي، رغم صخب حركة الضُّيوف المعزين...
في أوّل الأمـــــــر، كنتُ أقرب للسُخرية من الشُكر لأولئك المُعزين، فقد كان موتُ أبي حدثاً أكبرُ من أن أصدقه، و كنتُ أراهنُ على أنه سيأتي، و لو في صيوان العزاء، هاشّاً باشّاً... و سنسخر معاً، أنا و هو، من المناسبة، و سأعرف منه: لماذا عاد من الموت؟... و كيف كانت المغامرة؟... و أسأله عن: هل شرعوا في حسابه في القبر؟... و بماذا أجاب؟ و نضحك أنا وهو مرات و مرات على ردوده الساخرة من السائلين...
و لكن، رُويداً... رُويداً، بدأتُ أهضِمُ فكرةَ غيابِ أبي، و مع ذلك فقد تملَّكني شُعُورٌ غريب: (بأن أبي من الممكن أن يكون قد: دُفن حيّاً!)... و لم أجد من أسره بالخاطرة، و لم أستطع أختيار من سيعاونني على فتح القبر للتأكد من وفاته، و وجدت أن جميع من استعرضتهم سيتهمونني بالجنون، في أحسن الفروض... فلذت بالصمت، بشكلٍ ملاحظ، و أديت واجب الضيافة و الشكر بآلية و ميكانيكية... و الجميع في استغرابهم من تماسكي و صلابتي غير المتوقعين، و جلدي فوق العادة الذي تحليت به حتى رفع الفراش.
و تلت رفع الفراش ليالي آنسة، ظل فيها البيت عامراً بالضيوف و الأقربين، الذين بدأوا في التناقُص، حتى جاء اليومُ الذي صرتُ فيه: وَحدي!... في الصالُون، حيث كانت تدور ونساتنا و تعمر جلساتنا و تُجلجل ضحكاتنا، أنا و الوالد...
و كانت، في تلك اللحظات التي صرت فيها وحيداً، كانت إضاءةُ الصالون خافتةً، و فرشُه مُبعثراً قليلاً، و في تلك اللحظة، بالذات، أدركتُ رحيل أبي: دُفعة واحدة، و بكلِّ أبعاده، و أيقنتُ أنني لن ألتقيه مرّة أخرى، سوى فتحت القبر أم تركته على حاله، و تكوَّمت بداخلي: كُرةٌ من اليُتمِ و الكَرَب!...
و وجدت نفسي دون أن أشعر أبكي بصوتٍ هادرٍ، مُطلــــــــقٍ: كنهيق الحمير... و ألوذ بأقرب ركن في الصالون، و أفرغ أمعائي دَمَاً أحمراً، قانياً، بمذاقٍ ظننته طعم الموتِ و الفُراق.
amsidahmed@outlook.com
/////////////////