بقلم عمر العمر
كسرُ شوكةِ الجيش في الفاشر لا يعني نهايةـ الحرب الكارثة في دارفور . ربما يوازي احتفالُ المقاتلين بالنصر اكتئابَ الجنود بالهزيمة وفق ترمو متر اللحظة العسكرية . لكنّ موازين الاقتتال لم ترّجح كفاتها بعد . معركة الفاشر ليست كما انهيار بغداد هولاكو تؤرخ لانهيار دولة كما يصورها أنصار الفاتحين .الفاشرُ ليست لينينغراد كما يحاول معسكر الهزيمة تسويق الصمود قبل الانكسار . فدارفور بأسرها مزرعة ملغومة بالثأرات القبلية النائمة والطازجة . كلها قابلة للاستيقاظ. الفوزُ المخضّب بالدم والجثثُ المهملة لا يلهمان الإحساس بالاطمئنان . كما العويل المشفّع بالاستنفار لا يحرّض على الشعور بالقدرة على الاسترداد .جبهات القتال هدأت ،ربّما لكنها لم تسكن بعد . كما ظل الجميع يثير أمر التقاطعات الخارجية داخل مرمى النار فان مصادرَ من تلك التقاطعات ترى في معركة الفاشر اختلالا لا يمكن ابتلاعه . الفاشر ليست المعركة الأخيرة من أينما بدأت قراءة الخارطة الجيوسياسة. ماكان الوضع يتطلب مسعىً دوليا اخلاقيا يرسم خطوطا حُمر ،بل يستوجب تدخلا عملياتياً.
اللجنة الرباعية ارتكبت صبرًا مركبًا إذ قدّمت المطالبة بتأمين وصول الإغاثة على مسألة وقف النار . فمرور الإغاثة لن يتأتى تحت استمرار تقاطع خطوط الاشتباك المسلح . ذلك التعويل يستند إلى أكثر من فرضية وهمية . فالحرب كشفت افتقارَ طرفي الحرب إلى الحد الأدنى من مدوّنة الأخلاقيات الإنسانية الكفيلة بتمرير عمليات الغوث المطلوبة في إلحاح . على النقيض ممارسات الطرفين موصومة بأقذع قاموس الفحش و التوحش و الفظائع إبان الحرب . أكثر من ذلك فإن التاريخ مائجٌ بشواهد على مساهمة عمليات الإغاثة في تمديد أمد الحروب حتى تحت وقف الاقتتال. تلك ظاهرة تستفحل في ظل وقف النار الهش . لذلك كان ينبغي تركيز الجهود الرباعية على إلزام طرفي الاقتتال بالقاء السلاح أولاً . تلك خطوة لا تحتمل الصبر . من شأنها تأمين مرور عمليات الإغاثة .بعدئذٍ يحين الحديث عن اطفاء الحرب . مع التقدم على هذا الدرب تتقوى إرادات كل الاطراف لجهة اسدال الستار على محنة الاحتراب ثم ارتياد آفاق السلام .
ربطُ الاغاثة بالعمل الخيري نظرة أخلاقيةٌ بحتة ،لكنها رؤية غيرُ نافذة سياسيًا . فما من يدٍ تمتد بمساعدات إنسانية في ظروف الحرب أو السلام مبرأةٌ من البعد السياسي . منطق السياسة المعاصرة يمنح المساعدات الإنسانية بغية تخفيف ويلات الكوارث وآلام الحروب بعداً ينطوي على غايات سياسية ومصالح اقتصادية .فالعمل الإنساني على الصعيد الدولي لم يعد جهدًا أخلاقيا خالصا ،بل صار صناعة سياسية. مامن سياسيٍ حالياً يؤمن بما قال الرئيس الاميركي روزفلت عقب الحرب العالمية الثانية( تعلمنا إنه لا يمكن العيش في سلام بمفردنا وإن رفاهنا يتوقف على رفاه أمم بعيدة عنا).الدول تعلّمت كيف تنشئ عبر خطوط المساعدات شبكات مصالح سياسية، اقتصادية وثقافية مع شعوب مغايرة.ذلك ليس وقفا على الدول المانحة فقط ،بل حتى المتلقية.
لسوء طالع السودان أنه بين أربعة اقطار أفريقية شهدت حروبا شرسةً عقب العالمية الثانية. عمليات إبادة ومذابح جماعية حصدت آلاف الضحايا . تلك خلفية تجعل مهلة الشهور الثلاثة الرباعية منزلقًا للغرق في أتون الجحيم . دارفور مسرح لتلك الفظائع المتوحشة طوال أكثر اثنتي عشرة سنة .في غياب الوازع الأخلاقي تستعر شهية الوالغين في الدم للاستثمار في مواد الإغاثة حال وصولها . فكل طرف مقاتل يسعى للاستئثار بما يحوز بغية تحسين حال المتعاونين معه أو حرمان خصومه . هكذا تصبح مواد الإغاثة بمافيها من الغذاء والدواء وحتى مياه الشرب موارد اقتصادية للفرقاء .كذلك تتناسل تحت غبار اللاسلم و اللاحرب أشكالٌ متباينةٌ من العنف ،الابتزاز ، التجويع والمعاناة .إنها حرب شرسة تفتك بآلاف الأبرياء من الأطفال والنساء بأسلحة ليست نارية.
التقاطعات السياسيةُ أفسدت فكرة السويسري هنري دونان بإنشاء اللجنة الدولية للصليب الأحمر في العام ١٨٦٣ إطارا للعمل الإنساني المنظّم بقوانين ومواثيق دولية. فعندما هبت أميركا لمساعدة ضحايا الحرب الأهلية في روسيا عند عشرينيات القرن الفائت استهدفت إضعاف هيمنة البلاشفة .حتى بعد نشوء وكالات متخصصة تحت مظلة الامم المتحدة وتكاثر الهيئات الأهلية متعددة الأعراق عابرة الحدود لم تنحسر ظلال السياسة.بل كثيرا ما تتخذ مثلُ هذه الظلال توصيف المؤامرة بتعزيز مواقف أحد اطراف الاقتتال . لعل منظمة أطباء بل حدود وهي واجهة خيرية تطوعية لم تبرأ من تهم عدم الحياد أو الانحياز إلى طرف بعينه .غالبا ما يفد غالبية منتسبي العمل في الإغاثة من خارج مسارح العمليات العسكرية أو من غير انتماءات أطراف الاقتتال.ذلك وضع ربما يصبغ عليهم الحياد لكنه لا يؤهلهم للتدخل من أجل إنقاذ من يمكن انقاذه.في ذلك يستوي مصدر الغوث ومنظمات الاغاثة وموادها.
كيفما جاء مصدر المساعدات الإنسانية أو بُنيت شبكات توزيعها فإن العمل الإنساني لم يعد بنجو من التسييس . أحد أبرز عناصر هذا التصنيف أن الحكومات هي الممول الأساسي في عمليات ترتيب وتمويل مواد الإغاثة وآليات نقلها وتوزيعها .رغم اقتران هذا الجهد بأهداف سياسية ومصالح إقتصادية إلا ان هناك كذلك عناصر ثقافية واجتماعية تساهم في تسييس العمل الإنساني .تلك العملية المعقدة تجعل المسألة تتجاوز مجرد اتهام التسييس إلى التآمر. مدير برنامج الغذاء العالمي أصبح أول ضحايا هذه اللعبة في دارفور .طابع الاقتتال في دارفور يستوعب كل تلك العناصر . فالدولة هي محتاجة للعون ومتلقية وتعمل من أجل احتكار المساعدات . ذلك أحد أقصر السبل في سبيل استرداد قدرتها على النهوض .هذا ما يؤكد على عدم نجاعة الرهان على تحديد ثلاثة شهور مهلة لتمرير الإغاثة .هو ليس الخيار الموفق من أجل اسكات النار .على النقيض فهو منزلق دبغ لتوغل الاقليم – ربما السودان بأسره -في مستنقع الدم!
هناك سباق محموم بين العمل الخيري والعمل السياسي من جانب وبينهما والعمل العسكري على الجانب الآخر.هناك دومًا خطوط صفر وأُخر حمراء.
نقلا عن العربي الحديد
aloomar@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم