ما بعد المركز والهامش: جدلية السودان المركبة

د. هشام عثمان
hishamosman315@gmail.com
في البداية يحتقرونك، ثم يسخرون منك، ثم يحاربونك، ثم تنتصر — مقولة غاندي الشهيرة تلخص مسار أي مشروع تحرري، وما ينطبق على الحركات العالمية ينطبق على السودان الذي لا يمكن فهمه إلا عبر جدلية المركز والهامش، التي تشكل مفتاحًا لكل أبعاد الدولة الحديثة من السلطة إلى الاقتصاد والثقافة والصراع الاجتماعي. في الأصل، وُلد هذا المفهوم في سياق الرأسمالية العالمية، حيث المركز الصناعي في الغرب والهامش في بلدان الجنوب الفقيرة، لكن السودان أعاد توطين الجدلية داخليًا؛ فالخرطوم تمثل المركز، ودارفور، النيل الأزرق، جبال النوبة، والشرق هوامش مستنزفة، لتصبح الدولة المحلية وكيلًا محليًا لإعادة إنتاج الهيمنة، بحيث يتحكم المركز في الموارد والسياسة والثقافة، ويعيد إنتاج التفاوت الاجتماعي والاقتصادي عبر الطبقات والعرق.

الهيمنة في السودان لم تتوقف عند الاقتصاد والسياسة، بل امتدت إلى الثقافة والهوية، فتم فرض اللغة العربية كلغة رسمية واحدة، وإقصاء اللغات المحلية والرموز الثقافية الأخرى، لتصبح هويات الهامش غير معترف بها، ويصبح كل مطلب اجتماعي أو احتجاج سياسي صراعًا على الاعتراف والكرامة، وليس مجرد مطالب تنموية. البعد الطبقي المعرقن يكشف أن الصراع في السودان طبقي في الجوهر، لكنه يرتدي وجهًا عرقيًا واضحًا بفعل التاريخ الطويل للرق، الذي رسخ تفوق العرق النيلي وجعل العرق أداة لإعادة إنتاج الطبقية، في حين أصبحت الثقافة أداة شرعنة الإقصاء. هذا التمازج بين الطبقة والعرق يجعل الفقر في السودان ليس مجرد غياب للموارد بل تجربة حياتية يومية تشكل الزمن والجسد والمكان والرموز: في الهامش، تحدد دورة الطبيعة والزراعة والزمن الزراعي إيقاع حياة الناس، والأجساد المنهكة للأطفال والنساء والرجال تعكس غياب الرعاية الصحية، والمساكن الطينية أو المصنوعة من القش تفضح هشاشة البنية التحتية، واللغة اليومية وأمثالها وحكمها تعكس صمود الناس وثقافة المقاومة.

المركز، ممثلاً في الخرطوم، سيطر على الدولة منذ الاستقلال، ولم يعتد الاستماع لمطالب الهامش إلا من خلال القمع، فقد جاءت المشاركة السياسية دائمًا من فوهة البندقية لا صناديق الاقتراع، والدساتير المؤقتة والفيدرالية الورقية والاتفاقيات الثنائية مثل نيفاشا لم تمنح الهامش أي تمثيل حقيقي، بل أكدت أن كل مشاركة كانت شكلية، وأن الهيمنة المركزية طبقت كآلة تحكم اجتماعي وسياسي واقتصادي متكامل. المشاريع الانفصالية التي تنشأ من موقع امتياز وليس مظلومية، مثل مشروع “النهر والبحر”، تُظهر تفاهة المنطق الذي يغفل البنية المركبة للتهميش ويغاليط سنن القانون والدستور والعقلانية والاجتماع البشري.

الاقتصاد السوداني غني بالموارد لكنه فقير بالعدالة في التوزيع؛ مشاريع مثل مشروع الجزيرة خدمت السوق البريطاني، ودارفور والشرق مصدّر للذهب والماشية بلا عائد حقيقي للسكان المحليين، بينما المركز يجمع الثروة والسلطة. هذه البنية تجعل التهميش ليس مجرد حالة فقر بل نمط حياة معاد إنتاجه سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، وهو ما يوضح أن التحليل الطبقي وحده لا يكفي إلا إذا دمج بالتحليل المعرقن والأنثروبولوجي الذي يأخذ في الاعتبار أثر العرق والتاريخ والهوية على هيكلة السلطة والاقتصاد والمجتمع.

الدرس المستفاد من غاندي هو أن أي تحول تحرري يمر بمراحل التجاهل والسخرية والقمع، وأن الانتصار لا يتحقق إلا بالعدالة، والاعتراف، والمساواة الحقيقية. ما بعد المركز والهامش في السودان يعني دستورًا تعدديًا يعترف بالتعددية الإثنية والثقافية، وعقدًا اجتماعيًا جديدًا يضمن مشاركة متساوية لكل المكونات، واقتصادًا إنتاجيًا وعادلاً يعيد توزيع الموارد ويكسر الاحتكار المركزي، وهوية وطنية قائمة على الاعتراف لا الإنكار، وتكاملًا إقليميًا يقلل التبعية ويحوّل السودان من هامش عالمي إلى لاعب فاعل في المنطقة. الوعي المركب بالطبقي المعرقن والثقافي والأنثروبولوجي هو الخطوة الأولى نحو بناء السودان الذي يستحقه شعبه، السودان الواحد المتعدد المتساوي، حيث العدالة هي المركز الوحيد، وبذلك يمكن كسر الحلقة المفرغة للمركز الذي يهيمن والهامش الذي يثور، لنصل إلى وطن تتساوى فيه الفرص والحقوق والكرامة لكل أبنائه دون استثناء.

عن هشام عثمان

هشام عثمان

شاهد أيضاً

إدانة علي كوشيب …بين انعاش الأمل وخيانة الذاكرة ..

د.هشام عثمانhishamosman315@gmail.comفي خطوة وُصفت بالتاريخية، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية حكمها بإدانة علي كوشيب، أحد أبرز …