متى ينزعُ الإعلاميون أزياء رجال الإطفاء؟؟

 


 

 

ملاحظاتٌ حول أداء وأفق الإعلام فى ربع قرن: 
متى ينزعُ الإعلاميون أزياء رجال الإطفاء؟؟
عبد الحفيظ مريود
maryood@gmail.com
كان د.خالد المبارك، أستاذ الأدب الإنجليزىّ، والعميد السابق للمعهد العالي للموسيقى والمسرح، عائداً للتوّ من لندن، حين قال عبارته " الإنقاذ ظلمها إعلامها". كان قد أنهى زيارةً إلى حقول البترول والمصفاة وبعض المنشآت. لعلّها – الزيارة والعبارة – التي أنهتْ خصومته مع حكومة الإنقاذ، حتّى جلس ملحقاً إعلاميّاً، نشطاً، فى لندن. قال الطيب صالح شيئاً شبيهاً من ذلك. تشابه قلبا الرجلين، إثرَ زيارتين إثنتين للسودان. الطيب صالح الذى أثنى على الرئيس البشير، رفض مسألة المحكمة الجنائية برمّتها، فى حوار شهير لتلفزيون السودان أجراه معه خالد الإعيسر فى منزله بلندن، ونشره فى كتاب، لاحقاً.
شهادتا الرجلين ليستا بِدْعاً من الشهادات. ثمّة ما يمسكُ بتلابيب الإعلام، يخنقه، ويكاد يقضى عليه. حتّى لَيمكنُ سماع حشرجاته اليائسة المقلقة. سيمضى المنظرون إلى أنّ الإعلام ينالُ فقط 2% من الميزانيات فى أحسن تقدير(ميزانية هذا العام مثلاً)، ويقبضُ– فعليّاً – فى يده أقلّ من ذلك بكثير، بعد شدّ وجذبٍ وطول شجار. ذلك صحيحٌ بقدرٍ كبير. ولكنّه ليس كافيّاً، بلا ريب. هناك أزمات جوهريّة تتعدّى مسألة الإنفاق الحكومىّ على الإعلام، منها تصميمُ خطابه، وضعُ إستراتيجياته، هياكله ومؤسساته، وكادره المنفّذ، وأشياء أخرى.
حين كتب د. عبد الوهاب الأفندىّ كتابه "الثورة والإصلاح السياسىّ فى السودان"، منتصف التسعينات، نافحَ د. أمين حسن عمر – بحججٍ لا يعوزها المنطق الشكلىّ – عن تهمةٍ كان الأفندىّ قد جعلها أسَّ الداء، الذى ينخرُ فى "بناء الثورة"، وهى "سياسةُ القبضة الأمنية المحكمة". غير أنّ د. حسن عمر يحبُّ أنْ يؤكّد فى مناسباتٍ كثيرة، إنّ الإعلامىَّ كما عرّفه لنا أساتذتنا فى أمريكا هو : The Gate Keeper)حارسُ البوّابة). فهل ثمّة وجهٌ للشبه بين الإعلامىّ وضابط الأمن، الجيش؟؟
تتأسّس دعامات الخطاب الإعلامىّ للإنقاذ على أرضية الحجب والسيطرة. لامشكلة ههنا، بحسب ميشيل فوكو، فكلُّ خطابٍ هو إستراتيجيةٌ للحجب والسيطرة. وحين يعتمد د.حسن عمر على نظرية "حارس البوابة"، لأنّها ضمن مستويات ضابط الأمن، لايخالف مشاربه الأكاديمية، كما أنّه لا يخالف الأيديولوجيا التى تتبنّاها الحركة الإسلاميّة التى توغل، يوماً بعد يوم، فى ذرائعيتها. ويتّسق ذلك تماماً مع إستخلاصات الأفندىّ القاضيّة بسيطرة القبضة الأمنيّة، التى لا تعنى – ههنا – أنّ الإعلام يتحكّمُ فيه جهاز الأمن والمخابرات الوطنىّ، بقدرما، توحِى التوصيفات المنهجيّة تلك، أنّه لا خلاف جوهرىّ بين الإعلامىّ وضابط الأمن من حيث المهام الموكلةِ لكليهما.
يتوافقُ ذلك، قطعاً، مع فقه "سدّ الذرائع" فى كلاسيكيات المعارف الإسلاميّة. وهو فى إطار حملات الإستنفار الواسعة التى إلتزمتها الإنقاذ، لأوّلِ عهدها، بعبارة العرّاب الأكبر، يعنى من كافة الجهات ألاّ يتخلّف الإعلام عن الإصطفافل "سدّ الذرائع"، جنباً إلى جنب مع كافة قطاعات الإنقاذ، فى خندق الدّفاع أمام المخاطر والتحديّات المحدقة بالبلاد من كلّ صوب. وهى حربٌ قاسيّة على كافة المستويات، كان يمكنُ لأىّ جبهة منها أنْ تطيح بالنظام، لولا صلابة ومناجزة عناصره الثقيلة. هل يكفى ذلك تبريراً لأنْ يظلّ الإعلام الإنقاذىّ رهينَ ذلك الخندق، حتّى مع التحوّلات الحادّة التى طرأت على المنهج؟؟ على الرّغم من "المؤتمر القومى حول قضايا الإعلام"، ومن الإستراتيجيّة القوميّة الشاملة؟؟
لقد بدا كما لو أنّ البقاء فى الخندق طويلاً يورث نزوعاً للإلفة غير المبرّرة. حتّى لتحتاج الفصائل إلى برامج طويلة ومكثّفة من " نزع السلاح، وإعادة الدمج" بحيث تصبحُ مؤهّلةً لأداء مهام مدنية تلتزم البناء، تبشّر بالقيم، وتطلق لنفسها عنان التطوّر، مع أنّ الحرب هي السياسة بوسائل أخرى حسب مقولة الاستراتيجي البروسيكلاوزفيتزفى سياق آخر. ذلك أنّ التحوّل الأوّل المهم فى مسيرة الإنقاذ حدث عام 1997م، حين وقّعت إتفاقيّة الخرطوم للسلام، مع د. رياك مشار، المنشقّ عن الحركة الشعبية لتحرير السودان، بقيادة قرنق، والتى تزمنت – بنوعٍ من التجوّز – مع إتفاقية فشودة، وهو تحوّلٌ سياسىّ عميق فى مسيرة الإنقاذ، ستتبعه تحولاتٌ كبرى، لن تعود بعدها الإنقاذ، هى هى. ستكون شيئاً آخر. سيتحرّكُ خطاب الإنقاذ الإعلامىّ والسياسىّ، تبعاً لهذا التحوّل، بإتجاه تخفيف إكراهات المنع. باتجاه تحرير الإعلام من الذهنيّة الأمنيّة.
بدأ الخطاب السياسىُّ يفسحُ مكاناً ضيّقاً للآخر. إفساحُ مضطرٍ لا طبع. ولأنّ من دخل الخندق تأتيه النيرانُ من كلّ إتجاه، عددٍ من الجبهات الداخليّة مفتوحة، ولا تقلُّ عنها جبهات خارجية مع ضعف فى تقديرات قوة الذات وقوى الآخرين، فقد تمّ تصنيف كلّ ما هو خارج الخندق عدواً، كلّ من يتحرّك يستحقّ نيراننا. وهو شيئٌ أثّر بصورة واضحة فى تمييز الأصدقاء، والأصدقاء بالإمكان، كما يقول المناطقة. حتّى لم يعد هناك أحدٌ غير متّهم. لذلك جرى التعامل مع القادمين ضمن إتفاقية الخرطوم وإتفاقية فشودة، بحذرٍ طارد. لكنّهم – فى الوقت ذاته – يستطيعون أنْ يقدّموا خدمات جليلة على مستوى إعادة رسم صورة الإنقاذ، وعلى مستوى ضخّ دماء جديدة قد لا تجرى فى الشرايين، ولكنّها أكياس دمٍ معلّقة. لا سيّما وأنّ سنوات الخندق تلك (الخندق هنا لا علاقة له بكتاب فتحى الضو)، قد صرفتْ مفرداتٍ كثيرةَ وصكّتْ تعابير ذات حمولات أخلاقية باترة، ضدّ الحركة الشعبية وأحزاب المعارضة الشمالية كلّها. مما سيعقّد مهمات الإعلام الإنقاذى – لاحقاً – حين تنجزُ تحولاتها السياسيّة الكبرى، إنطلاقاً من قرارات الرابع من رمضان، توقيع بروتوكول مشاكوس، إتفاقية السلام الشامل، إتفاق القاهرة، إتفاق الشرق، إلخ. بحيث ظلّتْ الآلة الإعلامية المؤسّسة، والمتخندقة فى الخطاب التأسيسىّ متناقضةً، حييةَ وهى تلتقط صور (المتمردين والخونة والعملاء) السابقين الذين دخل بعضهم القصر، والوزارات والمجلس الوطنىّ وغيره. فصار الشخص يحمل الصفتين فى ذات الآن (الدستورى – الخائن)، (الدستورىّ – المتمرّد)، (الدستورىّ – العميل)، كما وصف الفرنسىّ جيرار برونيه صاحب كتاب (دارفور: إبادة جماعية غامضة)، وصف علاقات عرب دارفور بعرب الشمال والوسط، بأنّهم "أبناءُ عمومتهم، وعبيدٌ فى نفس الوقت". فقد بدا جميع من كان خارج الخندق، فى تحوّلات الإنقاذ الحاسمة إبتداءً من 2005م، أسيراً لذاك التناقض.
كنتُ أحدَ أربعةٍ يتعاقبون على ديسك تحرير الأخبار بالتلفزيون القومىّ. كانتِ الحركة الشعبية قد قرّرت إنهاء تعليق نشاط وزرائها فى حكومة الشراكة، وكان علىّ أنْ أعطىَ خبر أداء وزرائها القسمَ أمام رئيس الجمهورية المساحة التى يستحق. لم يؤدّ الوزراء القسم، مع أنّهم حضروا إلى القصر، واجتمعتْ مؤسسة الرئاسة. لكنّ مدير الإدارة العامة للأخبار آنذاك (الآن شخصٌ مهم فى مؤسّسة إعلامية كبرى) توقّف فى نشر تصريح للدكتور لوكا بيونق يوضّحُ فيه لماذا لم يؤدّ الوزراء القسم. قال – موجّهاً – "لا تبث هذا التصريح". وحين وصلتُ معه إلى طريق مسدود، أذعنتُ مضمراً نيّةَ أنْ أبثّه، وقد فعلت. يقيناً منّى أنّ الرجل ما يزال بذهنية الخندق، وأنّ إستحقاقات التحوّل تقتضى "شراكةً حقيقية"، فضلاً عن أنّ الإنقاذ إذا كانت ستسقط، وعلينا أنْ ندافع عنها، فنفعلَ ذلك بشرفٍ ووقار، فضلاً عن أنّ تصريحاً لبيونق لن يسقطها، وقد قاتلتْ حكومته – مدعومةً بالخارج – قرابة العشرين عاماً، دون أنْ تحتلّ جوبا.
الحادثة الصغيرة أعلاه – على تفاهتها – هى أنموذج متكرّرٌ باستمرار، حتّى الآن. ليس على مستوى الأجهزة الرسميّة أو القنوات والإذاعات المحسوبة على المؤتمر الوطنىّ، وحسب. وإنّما على مستوى الصحافة المقروءة ووسائل أخرى. ذلك أنّ المنهج والتوصيف "حارس البوابة" ما يزال سارياً، يلازم قادة ومسؤولىْ الإعلام فى الإنقاذ، وكوادرهم الوسيطة. كأنّما هو لوثةٌ مرضية تستعصى على الجراحة الفكرية العميقة.
لذلك فحين تهجم الكوارث السياسيّة والإقتصاديّة والأمنيّة، يتحوّل الإعلام إلى ما ظلّ يجيده باستمرار، إمّا متخندقاً فى كاكىّ الدفاع الشعبىّ، أو فى زيىّ رجال الإطفاء يغطى النّار بالعويش، كما يقول المسيريّة. ينجح – بقدر – فى الأزمات. لكنّه يعجز فى تقصير مهنىّ مخجل عن أنْ يكون رائداً للخطاب السياسىّ، مبشّراُ بالحوار، التسامح، السلام الإجتماعى، ناشراً ومعرّفاً بالثقافات والتداخلات المنتجة. تماماً مثلما يفشل فى إبراز إنجازات الحكومة على مستويات التنمية، البنىْ التحتيّة، وغيرها. حتّى ليتفاجأ رجلٌ مثل د.خالد المبارك أو الطيّب صالح.
تدأبُ رويترز وبى.بى.سى، وغيرها فى سجن دارفور كلّها فى لقطات مدروسة بعناية من معسكرات النازحين، أوّل ما بدأت، أو معسكرات اللاجئين فى تشاد، طوال فترة أزمة دارفور وما تزال، بحيث لا يعرف العالم عن دارفور إلاّ ذلك، بل الكثير من السّودانيين، فيما يعجز الإعلام الإنقاذىّ عن تقديم صور راهنة واقعية لدافور الناهضة، يعجز عن متابعة طريق الإنقاذ الغربىّ الذى وصل إلى الفاشر، ولا عن مستوى الأمن أو النهضة العمرانية التى تشهدها جميعُ مدن دارفور.
تستوجب مهمّة "حارس البوّابة"، أو رجل الإطفاء مواصفات محدّدة، يشترطُ توفّرها فى الكادر الذى يشغل المواقع القيادية والتنفيذية. ليس هو الرائد بأىّ حال من الأحوال. لذلك ولكثير غيره، تتقاصر أسقفنا الإعلاميّة يوماً عن يوم، وتتناقص فرص الرأى الرّصين العارف، وينشغل "الكبار" بالسياسة "الكبيرة"، لنقتات الغثاء اليومىّ، هذا.
/////////

 

آراء