يعرف كل مدركٍ لأمور السياسة وطرائقها ألَّا مناص من وجود جمهورية مصر داخل الآلية الرباعية المناط بها إنجاح جهود إنهاء الحرب الكارثية الجارية الآن في السودان. ومع إقراري الكامل بضرورة وحتمية الوجود المصري داخل الرباعية، إلا أنني لا أُخفي رأيي في أن مصر هي الضلع الحامل للقنبلة الموقوتة، التي سوف يجري استخدامها لنسف قطار الحل الديمقراطي المستدام، في السودان؛ عاجلاً أم آجلا. فالإجهاض الذي جرى لمحادثات واشنطن قبل يومين، والذي أحاطه الفريق البرهان والإخوان المسلمون، منذ بدايته، بالأكاذيب إجهاضٌ متعمدٌ مخطَّطٌ له. وقد لعبت فيه مصر، الدور المحوري، علم من علم، وجهل من جهل، وتجاهل من تجاهل. ولا أعتقد أن شخصًا حصيفًا مطلعًا على تاريخ البلدين، وعلى مجريات علاقاتهما عبر القرنين المنصرمين، يمكن أن يظن أن أنظمة مصر العسكرية، التي ظلت إما مخططةً أو داعمةً، للانقلابات العسكرية في السودان، والتي ظلَّت معاديةً، وبشدة، لثورة ديسمبر الشعبية، منذ اندلاعها في عام 2018، سوف تُغيِّر استراتيجيتها تجاه السودان، هكذا، في رمشة عين.
نظام مصر الحالي، وارثٌ شرعيٌّ لكل مثالب ما سبقته من أنظمةٍ مصريةٍ، اتسمت جميعها بنظرةٍ توسعيةٍ تحوَّلت إلى نهجٍ استلحاقيٍّ استتباعيٍّ للسودان. بعبارةٍ أخرى، لا توجد قط في ذهن النخب المصرية الحاكمة أي مساحةٍ للتفكير في قيام شراكةٍ مع السودان تنبني على تبادل المصالح، بالصورة الطبيعية التي تجري عادةً بين الدول. لذلك، من الخطأ الشنيع، بل والقاتل أيضًا، أن يظن ظانٌّ أن مصر سوف توقف، في يومٍ ما، مقاومتها لقيام نظام حكمٍ مدنيٍّ ديمقراطيٍّ في السودان. أعني، نظامًا وطنيَّا سودانيًّا يضع المصلحة الوطنية السودانية فوق المصلحة المصرية. ولذلك، فيما يتعلق بخطة الرباعية المطروحة الآن، فإن مصر لن تقبل قط فكرة إنشاء جيشٍ سودانيٍّ جديدٍ، بعقيدةٍ جديدةٍ، في ظل نظامٍ دستوريٍّ حقيقيٍّ يجري وفقه إبعاد الجيش وسائر القوى الأمنية الأخرى عن السياسة، وعن الهيمنة على الاقتصاد، وأن يتولي المدنيون إدارة شؤون البلاد.
مصر منخرطةٌ في القتال في السودان
لقد ظل نظام الفريق عبد الفتاح السيسي في مصر، منخرطًا عسكريًا في الحرب السودانية، منذ بدايتها. وهو لا يزال منخرطًا، حتى يومنا هذا. ولكي لا أبدو كم يفتئت على النظام المصري، أحب أن أُذكِّر القراء الكرام بكلمة الفريق شمس الدين الكباشي عقب طرد جنود الدعم السريع من منطقة جبل موية. وهو طردٌ ورد أن جيش البرهان الإخواني قد استخدم فيه أسلحةً كيميائية. قال الكباشي في ذلك الخطاب، موجِّهًا شكره إلى مصر: (شكرا أوي أوي). قالها هكذا باللهجة المصرية وليس بلهجته السودانية المعتادة، ليثبت، من فرط انفعاله وغفلته، دون أن يشعر، اشتراك سلاح الجو المصري في تلك المعركة. أو، ربما تقديم السلاح الكيميائي الذي جرى استخدامه.
إضافةً إلى ما تقدم، أود أن أعرض هنا، أيضًا، الرسالة التي أرسلها وزير الخارجية السوداني الجديد، محي الدين سالم، إلى جنود الجيش ومختلف مسانديهم من المليشيات التي تقاتل معهم على الأرض، قبل حوالي ثلاثة أسابيع. قال وزير الخارجية السوداني بالحرف الواحد: (مصر، هي قوةٌ، وهي سندٌ، وهي ظهير. لذلك رسالتنا إلى مقاتلينا على الأرض بأنكم لستم وحدكم، ولكن كثيرًا من إخوانكم، وعلى رأسهم الإخوة في مصر يسندون ظهركم. فامضوا إلى الأمام بدعمٍ غير محدود). فما هو، يا ترى، هذا الدعم غير المحدود الذي ستقدمه مصر للجنود؟ هل يمكن أن يكون دعمًا دبلوماسيًا، أو سياسيًا؟ البداهة تقول: إن ما يحتاجه الجنود المقاتلون على الأرض هو الدعم العسكري؛ بالطائرات والمُسيَّرات ومختلف الأسلحة والذخائر، إلى جانب العون الفني؟
ويأتي نفس هذا الوزير بعد بضعة أسابيع ليقول أيضًا، وبالحرف الواحد، إن الفريق البرهان قد نقل عقب زيارته للقاهرة: (تأكيد مصر الثابت في دعم المؤسسات السودانية ورفض أي تدخل خارجي في الشؤون السودانية). فمصر حين تقول المؤسسات السودانية، إنما تعني مؤسسة الجيش. فهي تريد أن يكون حكم السودان حصرًا على هذه المؤسسات. وحين يتدخل النظام المصري في الحرب السودانية عسكريًّا، وبمثل هذا السفور الفاضح، نجده، لا يتحرج في أن يقول: إنه يرفض التدخل الخارجي في شؤون السودان الداخلية.
أتيت بهذه النماذج من الانخراط العسكري المصري في السودان لأشير إلى أن النظام المصري يسعى لاستمرار الحرب. ولأقول أيضًا، إن الرسالة التي أرسلها الوزير محي الدين سالم إلى الجنود هي جزءٌ من تعليماتٍ مصرية للفريق البرهان لكي يواصل الحرب ولكي يتَّبع الخطة المصرية الموضوعة لإفشال الرباعية. فمصر تكسب من إفشال خطة الرباعية في الحالتين اللتين تنتجا عن إفشالها: فإذا استمرت الحرب لأمدٍ طويل، فإن مصر ستواصل نهبها لموارد السودان المختلفة، وعلى ذات النحو الذي ظل جاريًا منذ نهايات حكم عمر البشير. وهو نهبٌ تواصل بمعدَّلاتٍ خرافيةٍ عقب وصول الفريق البرهان إلى السلطة. بل، لقد نهبت مصر في سنوات البرهان الست الكالحة هذه من موارد السودان الثمينة، ما لم تنهبه منذ غزوها للسودان في القرن التاسع عشر.
أما إذا انقسم السودان، فإن مصر، ربما تصبح مسيطرةً، تحت سلطة البرهان والإخوان المسلمين، على الوسط النيلي والشمال والشرق. وهذا ما سوف يتيح لها أن تجعل من هذا الجزء من السودان، محافظةً مصريةً إضافية، يديرها البرهان لصالحها. باختصارٍ شديدٍ، لن تترك مصر الرباعية تطبق خطتها التي من أهم بنودها وقف الحرب وإخراج الجيش من معادلة الحكم، وإسناد إدارة البلاد إلى المدنيين. خلاصة القول هنا، أن مصر تريد استمرار الحرب لأنها تكسب من ذلك على وجوهٍ عديدة. نذكر منها، على سبيل المثال، وكما سبق أن ذكرنا، الاستمرار في نهب موارد السودان الاقتصادية الثمينة. وأيضًا، الاستمرار في استحلاب جيوب ملايين السودانيين الذين يعيشون فيها. وقد شهدت شركات العقارات المصرية أن السودانيين أسهموا في ضخ بلايين الدولارات في سوق العقار المصري. يُضاف إلى ذلك، حلب جيوب السودانيين المقيمين في مصر وجيوب أقربائهم المقيمين في مختلف المهاجر ممن يعينون المقيمن في مصر. وذلك، عبر مختلف الرسوم، التي لا تنفك تزداد، لمختلف الإجراءات والخدمات. وهي رسومٌ تفتقت عنها العبقرية الاستحلابية النهبية للنظام المصري، عقب وصول ملايين السودان إلى مصر.
الإمارات ومصر وحمد بن جاسم
من المهم جدًا أن نشير هنا إلى حقيقةٍ جوهريةٍ تتعلق بتوجهات الطرفين المتعارضين من أطراف الرباعية حول مستقبل السودان السياسي بعد الحرب، هما: الإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر. فقد أعلنت دولة الإمارات العربية المتحدة، مرارًا وتكرارًا، على لسان مستشارها الدبلوماسي، أنور قرقاش، أنه لا يوجد حلٌّ عسكريٌّ للنزاع في السودان. وأن مستقبل الحكم في السودان ينبغي أن يكون مدنيًا، وليس عسكريًا. أما جمهورية مصر، فلا تنفك تردد أنها تدعم المؤسسات السودانية، وهي حين تقول ذلك، لا تعني غير الجيش. فهو المفضل لديها لحكم السودان. بل لقد تآمرت مصر مع الفريق البرهان للإطاحة بحكم المدنيين بعد عامين فقط من توقيع الوثيقة الدستورية الحاكمة للفترة الانتقالية. وهذا يكفي، في تقديري، لفرز توجه الدولتين؛ أيهما إيجابيٌّ وأيهما سلبيٌّ؛ فيما يخص قيام نظام ديمقراطي في السودان بقيادة مدنية. ولو وضعنا ما قاله المستشار أنور قرقاش إلى جانب ما قاله الشيخ، حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس الوزراء القطري السابق، عن أن العسكر هم أس مشاكل السودان، يتضح جليًّا أن النظام المصري أصبح يغرد خارج السرب، ضمن أنظمةٍ عربيةٍ قليلةٍ داعمةٍ للدكتاتوريات. خلاصة القول، لايريد النظام المصري قيام أي نظامٍ في السودان لا يقدم مصلحته هو على مصالح السودان. وقد ظلت الأنظمة المصرية المتعاقبة تجد، وللأسف الشديد، من النخب السودانية المتنفذة؛ من عسكريين ومدنيين، ما يعينها على استدامة تلك الهيمنة.
البرهان والإخوان المسلمون والمليشيات الأخرى
لقد فرحت غالبية السودانيين باجتماعات الرباعية في واشنطن. وهذا هو رد الفعل الطبيعي لكل إنسانٍ له ضميرٌ يقظٌ ووجدانٌ سليمٌ يستحق بهما صفة “إنسان”. فقد رأينا، جميعًا، من ويلات هذه الحرب ما لم نحسب في يوم من الأيام أننا سوف نراه. لكن، كعادته دائمًا، سلب جيش البرهان الإخواني من السودانيين تلك الفرحة. ومن يستمع إلى خطاب الفريق البرهان الأخير، بعد تحرير مدينتي بارا والفاشر تباعًا، يصل إلى نتيجةٍ واحدةٍ، وهي أن الفريق البرهان لا يرى سوى شيءٍ واحد، فقط: فإما أن يكون هو، ومن ورائه الإخوان المسلمون، في السلطة، وإما ألا يكون هناك سودان. وهذا هو عين ما سبق أن قاله الفريق الكباشي قبل أعوام: (إما سودان بفهمنا، أو مافي سودان)!
يجلس الفريق البرهان الآن على كرسيٍّ متهالكٍ مهترئٍ، تتناوشه فيه السهام من كل حدبٍ وصوب. تعلى قدرَه أبواقُ مرتزقة المؤتمر الوطني، من الصحفيين، والصحفيات “القونات”، ممن صنعهم في الداخل، وفي الدوحة، وبورتسودان، وغير ذلك. وتعمل على شيطنته، وابتزازه، وتهديده، من الجهة الأخرى، الأبواق الإنقاذية المستضافة في إسطنبول وفي القاهرة. وإلى جانب ذلك، تتحرك في النطاق الجغرافي الذي يسيطر عليه البرهان عسكريًّا أكثر من عشرين مليشيا متضاربة الأهداف والطموحات، بينها جميعًا ما صنع الحداد. ويمثل هذا، في نظري، بزوغ فجر لوردات الحرب؛ في الوسط النيلي، والشمال والشرق. هذا الحلف المتناقض، المكوَّن من الفريق البرهان، والإخوان المسلمين، ولوردات الحرب، هو ما سوف يُشكِّل المشهد الجديد، الذي سوف يعقب نسف مصر والإخوان المسلمين لمحادثات واشنطن الأخيرة، وسقوط مدينتي الفاشر وبارا.
الطور الجديد للحرب
أتوقع أن تنطلق في القريب العاجل مُسيَّرات أكنجي وبريقدار التركية، من قاعدة جوية في شرق منطقة العوينات في أقصي جنوب غربي مصر، مستهدفةً مدنَ ومدنيِّي دارفور. وهو فعلٌ سبق أن رصدته مصادر أمنية دولية، قالت إن مرتزقةً أتراكًا وأذربجانيين، إضافة إلى ضباط سودانيين قد مُنحوا تلك القاعدة المصرية لهذا النوع من النشاط العسكري. ومن الناحية الأخرى، أتوقع أن تعمل كلٌّ من إيران وتركيا ومصر في مد الجيش الإخواني المهزوم بالسلاح. كما أتوقع أن تتدفق المليشيات ذات الأهداف الخاصة من إريتريا لتدخل غمار هذه الفوضى العارمة الشاملة. وفي أتون هذه المعامع الحامية المتوقعة، سوف يتوالى سقوط المدن في دارفور وكردفان في يد قوات تحالف تأسيس.
الشاهد، ربما يكون هناك فصلٌ جديدٌ أكثر شراسةً من فصول هذه الحرب. هذا ما هو متوقع، ما لم تلقِ الإدارة الأمريكية بكل ثقلها القُطري والدولي، لفرض السلام، وقفل الباب أمام تلوُّنات النظام المصري وحيله، وأمام مراوغات جيش البرهان الإخواني وحيله القديمة، المتآكلة، المُعادة. وعلى تحالف تأسيس، من الجانب الآخر، أن يبقى متنبِّهًا وجاهزًا لمواجهة احتمال ألا تدير الولايات المتحدة خطة الرباعية على النحو المطلوب. وأن تضطر لأي سببٍ للتراجع، لأي سببٍ من الأسباب، عن بنود الخطة صممتها وأعلنتها. خلاصة القول، إن الخروج من هذه الحقبة المظلمة، لن يكون في نهاية المطاف، إلا بيد الوطنيين السودانيين الثوريين الحقيقيين الذين يضمهم تحالف تأسيس.
elnourh@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم