من اسبولدنق لترمنغهام: عاصفة على الفونج: (العقل الرعوي 19)
رأى دكتور النور حمد أن دولة الفونج فصمت عرانا عن حضارة كوش. فقامت السلطنة على تحالف للفونج والعبدلاب رعوي وفوضوي حتى النخاع لا يقيم وزناً للحضارة وأسبابها. وبدلاً أن يأخذنا النور إلى دليله على هذه القطيعة المزعومة اختار بغير تسويغ أن يحلل قطيعة السلطنة عن تعاليم الإسلام. ومعلوم أنه قلت الدول، بما فيها الإسلامية، التي ستصمد للمطاعن عليها من زاوية تعاليم الإسلام. وسمعت من د. حسن الترابي أن قيام دولة إسلامية ملتزمة بحرف طهر التعاليم الإسلامية من سابع المستحيلات. ومن نافلة القول إن دولة كوش وحضارتها، اللتان يزكيهما النور وينتظر أوبتهما من الغيبة الطويلة، سيتطايران حجراً حجراً تحت وابل تعاليم الإسلام. ويكفينا أنهما على الوثنية ومحجة الإسلام توحيدية.
من رأي النور أننا غالينا في الضرب على إسلامية السلطنة انسياقاً وراء العاطفة "ورهاب مفارقة القطيع والمجاملة". فنظام حكمها وإدارتها وطقوسها ضعيفة الصلة بتعاليم الإسلام. فلم يكن الهدف من حلف الرعاة، الذي كون دولة الفونج، نشر الإسلام الذي لو تركوه لحاله لانتشر في علوة بغير حاجة لخراب رعاة الفونج والعرب لعامر المسيحية النوبية ومعمارها وكنائسها وزروعها. ودلل النور على ذلك ناظراً إلى عادات الفونج وتقاليدهم البعيدة كل البعد عن تعاليم الإسلام.
واستغربت للنور ذي الهوى الأفريقي يستهجن أفريقية دولة الفونج ويحاكمها بثقافة من الفضاء الشرقي الذي ذمه واستنكر الحاقنا به بغير إرادة منا. فمن رأيه أن شخصية الفونج أفريقية الثقافة مما تؤكده كثير من العادات والتقاليد والطقوس والممارسات "التي لا تعكس التعاليم الإسلامية، بقدر ما تعكس طقوس الديانات الأرواحية الإفريقية. "
فتتضح مفارقة الفونج لتعاليم الشريعة الإسلامية أكثر ما تضح في زي النساء. فلبس النساء الفونجيات العوام، خلافاً لسيدات قصور السلطنة، غير محتشم. فلا يستر عوراتهن غير رحط من سيور جلدية تشف ولا تخفي. فلم يكن ماذوناً لهن الستر عن ما يزيد عن ما بين الخصر والركبة. وظلت فتيات السودان في الريف على هذا العري إلا قليلا إلى وقت قريب. ومعلوم في قول النور إن مثل "هذا الزي مخالفٌ، تمام المخالفة، لتعاليم الشريعة الإسلامية". واستغربت للنور ذي الهوى الأفريقي يستهجن أفريقية دولة الفونج ويحاكمها بثقافة من الفضاء الشرقي الذي ذمه كما سبق القول.
ولم تكن الفونج إسلامية برغمنا. فتلك الممارسات الوثنية الأرواحية، التي كانت تمارس على مستوى قيادات الدولة، كافية جدًافي نظر النور لتجعلنا نعيد النظر في "إسلامية" سنار، وفي "عروبة" ساكنيها، على النحو الشائع في أوساطنا اليوم. فالقتل الطقسي عند الفونج مما خالف الإسلام في قول النور. فمتى اختار الفونج ملكهم وجب عليه قتل أخوته ليخلو له الجو من منافس محتمل ذي شرعية. وكذلك قتل الملك الطاعن في السن، أو المريض، الذي كان يمارسه العبدلاب. وفي فعل العبدلاب مطابقة حرفية لطقوس قتل "الرث"، لدى قبيلة الشلك. و"هو مما لا يمت إلى الإسلام، بأي صلة". وعاد النور للقول إن ذلك الطقس مخالفٌ للقرآن الذي يقول: "ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ("سورة الإسراء 33).
وعرض النور ل"قشرية" عروبة الفونج من جهة ركاكة لغة التأليف بالعربية في مثل كتاب طبقات ود ضيف الله والشعر الوارد فيه ذي اللغة الضعيفة المتعثرة. واستنتج بذلك أن الأعراب الذين اجتاحوا السودان "كانوا رعاة أميين، لا يعرفون كتابة الفصحى". وكانت لغتهم "بدويةً شفاهية اختلطت بالمفردات النوبية وغيرها من مفردات اللغات السودانية". فغلب على النصوص الواردة في كتاب الطبقات خطأ النحو والوزن العروضي والبناء الشعري.
وبناءً على ما تقدم يمكن القول، وبوثوق كبير، حسب النور، إن سلطنة الفونج في سنار، والتي يُنظر إليها بوصفها جذراً ل "عروبة السودان واسلاميته"، بحاجة إلى الكثير من إعادة النظر في أوضاعها عبر تدقيق علمي، ومساءلة للنظرة الرومانسية العروبية الحالمة، التي ظل كثيرون منا يرونها بها سلطنة "عربية إسلامية".
ولن تستقيم هذه المراجعة المطلوبة من النور في حال اختطاف المعرفة الغربية الاستشراقية لنا. فالبادي أن النور، الداعية لمراجعة تاريخنا الوهم، ضحية طائعة للسلطان المعرفي الغربي. فقد بدأ مقالاته في تشريح العقل الرعوي بعبارة عن عالم الغرب بمثابة الإجازة للخوض في ما هو بصدد الخوض فيه. وهذا مظهر من مظاهر ما اسميته "سلطان المقتطف الغربي". وتجلى هذا السلطان في نقله عن زائر لسنار في القرن السابع عشر وصف سلطانها بالمسلم ولكن "ليس لديه قوانين وشرائع المسلمين". وهنا موضع لوقفة. نعلم عن النور أنه من مدرسة إسلامية لا ترى غضاضة في الحكم بلا إسلامية غيرها من الجماعات الإسلامية. ولكنه أبعد النجعة هنا بجعله هذا الرحالة الأجنبي حكماً على حسن إسلام الفونج. فكيف لكافر مثله القول الفصل في دين جماعة من المسلمين؟ وكيف ساغ للنور تكفير هذه الرجل من خارج الملة لسلطان مسلم؟ هذا شطط كبير.
وأغرب من ذلك قول النور، آخذاً من الأكاديمي الأمريكي اسبولدنق، باتصاف دولة سنار بالتسامح الديني والاعتراف بحقائق التنوع الثقافي لرعايا الدولة. وقالا إن هذه السماحة الفونجية ظلت لأزمان لم يطلها التغيير. ومن رأي اسبولدنق ، الذي اتفق فيه النور معه، أن في احترام دولة الفونج لهذا التنوع مخالفة "من وجهة النظر الموضوعية، الكثير من قيم وتعاليم الإسلام الرسمية". وقال إن في بقاء هذه التقاليد الليبرالية الفونجية شاهد على أن تعاليم الإسلام "لم تكن تشكل واقعًا داخليًا لتلك المجتمعات". وفي رأي اسبولدنق استشراق بغيض وددت لو طهر النور لسانه منه.
العود على بدء في التاريخ ( revisting) من دعوة النور هي جوهر التأرخة. وهي ليست "إعادة كتابة التاريخ" التي ساغت في بواكير استقلالنا لشبهة تدوين المستعمر لذلك التاريخ. ولكن سرعان ما اختطفتها الأنظمة المستبدة ليكون لها سلطان في هذا الباب. فالمؤرخون لم يكفوا عن كتابة التاريخ متى استجد أرشيف، أو مزاج، أو زاوية للمقارنة، أو نظرية ما. ولكن أول لزوم العود على بدء في التاريخ أن نتحرر من استضعافنا نتوكأ على المقتطف الغربي لا نولي على شيء أرشد. ودعوة النور لطرد اشباح الوهم من غرفنا الفكرية دعوة غراء. والسبيل إليها أن نكف عن الخضوع لسلطان المقتطف الغربي كما رأيناه يفعل في تشريح العقل الرعوي فيظلم الأفارقة والعرب والمسلمين والرعاة والفونج.
بدا لي ختاماً أن النور قد "كفّر" دولة الفونج. ولا يقع هذا التكفير في اختصاص الباحث الأكاديمي. وكان بوسعه رد ما أخذه من عيوب في الفونج إلى حوار أكاديمي طويل حول تلقي الأفريقيين الإسلام واعتناقهم له مما لخصته في مقدمتي لكتاب "إغواء الصفوة" الصادر عن دار التنوير المعرفي بالخرطوم قبل سنوات قليلة. بدأ الأكاديميون بمثل قول النور بضعف سعة الأفارقة للإسلام مما اضطرهم إلى توثينه. ومن المروجين لهذه الفكرة بالطبع سبسنر ترمنغهام في كتاباته عن الإسلام في أفريقيا. ثم تطور الجدل حتى انتهى إلى نظريات تحسن الظن بإسلام الأفارقة. فمن رأي لأكاديمي البريطاني همفري فشر أن حضانة الافارقة للإسلام تممت على ثلاث مراحل: هي "الكرنتينة" ف"الخلطة" ثم"الإصلاح". ففي طور الكرتنة يكون المسلمون جماعة وافدة من التجار والدعاة واللاجئين غالباً من شمال أفريقيا. فاحتفظوا ب"أثوذكسيتهم" لأنه غرباء عن ثقافة المحيط. ثم يبدأ الأفارقة في اعتناق الإسلام. وهذا طور الخلطة يتعبد الأفارقة المحدثون فيه على بعض صحيح الإسلام وبعض عوائدهم من دينهم التقليدي. ثم يأتي طور الإصلاح ينهض فيه رجال "مهتدون" أو مهدويون" يردون المسلمين إلى ما يعتقدونه صحيح الدين من مثل عثمان دان فوديو والحاج عمر ومهدي السودان.
لم يكن النور إذاً بحاجة إلى "تكفير" الفونج لو اتصل بدراسات حضانة الأفارقة للإسلام. فقد بدأت هذه الحضانة للدين بمثل ما رأى عند الفونج ثم حسن إسلام أهلها بالصورة المذكورة. وربما كان الصوفية الذين قال إنهم أخرجوا الفونج من الوحشية للأنسية هم هؤلاء المصلحون الذين ذكرهم فيشر نفعوا وانتفعوا. وعليه فلا حاجة للنور بعرضهم كما فعل كنقيض للفونج بدلاً من كونهم طوراً أعلى من أطوار أسلمة السلطنة. فأقام مفارقة بين سلطنة الفونج والمتصوفة. فقال إنه لم يؤذن سقوط سوبا بدخول الإسلام السودان كما استقر في أذهاننا. بل جاء الإسلام متأخراً نسبياً إلى سلطنة الفونج على يد الصوفية الذين نجحوا في ترسيخه في شد وجذب مع الحكام. فهذا التأخر في الأخذ بأسباب الإسلام، الذي عابه النور على الفونج، من طبيعة الأشياء في المثاقفة، أي أخذ ثقافة عن أخرى.
ونعرض في الحلقة القادمة لموضوع دور العرب المسلمين في خراب سوبا الذي قال به النور عن ابن خلدون.
IbrahimA@missouri.edu