mustafabatal@msn.com أتفهم تماما حالة الحماسة والاندفاع، والهياج احيانا، التي تنتاب بعض السوادنة في أمر تبعية حلايب والنزاع القائم بشأنها مع الشقيقة مصر . لكن الحقيقة النجلاء تبقى وهي أن السودان ومصر كانتا دولة واحدة تحت التاج المصري فانقسما الى دولتين، وكان شمال السودان وجنوبه دولة واحدة ايضا فانفصلا الى كيانين. ثم أن هذه الحدود السياسية التي يقع السودان في اطارها لم ترد في القرآن ولا في الانجيل. بل هي في الاصل حدود استعمارية وضعها الاستعمار البريطاني.
ولو كانت بريطانيا قد توافقت مع ايطاليا على ان تكون كسلا والقضارف تبعاً لاثيوبيا وضمن حدودها، أو تواضعت مع فرنسا على ان تكون نيالا والفاشر جزءاً من تشاد، لكان هذا هو حالنا يوم الاستقلال في الفاتح من يناير 1956 وحالنا اليوم ايضا، فإنما كان أمر الحدود كله من شغل محمد على باشا واولاده، وتدبير المستعمرين الاوربيين من بعد ذلك، ولم يكن في وسعنا غير السمع والطاعة.
الغريب ان كينيا كانت قد انتزعت من السودان أرضاً عزيزة، تحمل في كتب الخرائط السياسية اسم "مثلث أليمي"، وهي مساحة مقدرة تفوق في وجه الخارطة حلايب وما جاورها بما لا يقاس، وظل هذا المثلث السوداني، وما يزال، تحت قبضة الدولة الكينية منذ استقلال السودان وحتى استقلال الجنوب بنفسه كدولة مستقلة في العام 2011. ومع ذلك لم اكن قد رأيت او سمعت مهتاجاً واحداً يهدر باسم مثلث أليمي هذا ويدعو للحرب مع كينيا لاسترداده، تحت دعاوى انصاف كرامة السودان وشرفه وكبرياء شعبه، كما نرى من حال في أمر حلايب!
الخلاف مع مصر حول تبعية حلايب لا ينبغي ان يكون محلاً للدعاية والاستعراض السياسي والتظاهر بالوطنية، كما نرى عند بعض الاحباب. الفصل في أمر حلايب ستحدده في نهاية المطاف الحقائق التاريخية والوثائق والمستندات والمعاهدات الاستعمارية، وليس المقالات والأعمدة الهتافية. ونحن نعلم ان نزاع حلايب لم يكن اول ولا آخر نزاع حدودي بين دولتين في منطقتنا ولا في العالم كله بطبيعة الحال.
في العالم العربي وحده عشنا وشاهدنا مسارات النزاعات الحدودية في مرحلة ما بعد الاستعمار بين عدد كبير من الدول من بينها عمان واليمن والسعودية، والجزائر والمغرب، ولبنان وسوريا، والعراق والكويت وغيرها. جرى حسمها جميعا بالتفاوض والتحكيم والتنازلات في اطر الحقائق الموضوعية الجغرافية والتاريخية، باستثناء النزاع العراقي الكويتي الذي جعل منه صدام حسين سيركا بهلوانيا ومحلاً للمزايدة والاستعراض، فانتهت به مزايداته وهرجه الى حبل المشنقة.
المفصل الضعيف في هيكل النزاع السوداني المصري بشأن حلايب هو ان القانون الدولي يتطلب ان تقبل الدولتان المتنازعتان اللجوء الى التحكيم، فلا بد اذن من الموافقة والتفويض المشترك. موقف حكومتنا هنا موقف عاقل ومشرف وحضاري، وهو الدعوة لنقل نزاع حلايب الى هيئة قضائية او تحكيمية دولية، والقبول بما يفضي اليه التحكيم من نتائج.
وفي المقابل فإن موقف مصر يتسم بشئ من التعنت، بل وربما كثير منه، إذ ترفض حكومتها التفاوض او التحكيم وتتأبي عليه، وتستعصم وتتمترس داخل اعلانها الرئاسي رقم 27 لسنة 1990 الذي يقرر ان اقليم حلايب يقع تحت السيادة المصرية. ولكن علينا ان نذكر بأن ذلك الموقف المتعنت كان هو ذات موقف كثير من الدول الاخرى التي وجدت نفسها في قلب منازعات حدودية شبيهة، إذ استبدت بها النزعات الاستعلائية أول أمرها فركبت حصان التشدد، ولكنها عادت في ظل متغيرات مستجدة ضاغطة فصححت مواقفها وثابت الى عدل التحكيم الدولي.
وستعود مصر ان عاجلا او آجلا الى رشد التفاوض حالما يتخلق على الارض واقع جديد يعزز موقف السودان ودوره كطرف فاعل وقوي ومؤثر في المنطقة. وفي يقيني ان العامل الاوفر قدرة والاكثر تأثيراً في اعادة تشكيل المشهد ليس هو الموقف المصري الجامد المتعنت، وهو في نهاية المطاف جمود وتعنت لم يأت من فراغ، وانما انتجته خارطة تقدير موقف تستند الى واقع سياسي مفتوح يمنح مصر مجالا واسعا لحالة المكابرة وتصعير الخد الراهنة. بل سيكون العامل الحاسم في تقويم المعادلة هو الواقع الوطني في السودان،وما عسى ان يشهده من تحولات سياسية واستراتيجية في المدى المنظور. التغيير سيكون من هنا، من عندنا. لا من هناك، عند اهل المحروسة.
المطلوب إذن ليس التباري في لغة التحدي والتلاحي والشعارات مع حكومة مصر وشعبها واعلامها، ولو كان التحدي والتلاحي ينجز غرضاً او يحرز هدفاً لكانت حلايب اليوم بين ايدينا، وانما تلك سكة المخابيل قصار الفعال.
الطريق واحد فقط ولا بديل له، وهو الاستقواء الوطني والنهوض بالواقع السياسي والاقتصادي لبلادنا، ورفع قيمة السودان المادية والمعنوية في سوق الدول. وهو ما لن يكون في ظل التشرذم المزري والاقتتال العبثي واستنصار البعض منا بحملة السلاح من المتمردين، وارتهان اخرين بين ظهرانينا للأجنبي بأمل ان تتحقق احلامه في الوصول الى الحكم على ايدي القوى الخارجية.
وكيف لا تحل بنا الزراية ونحن نرى، ويرى العالم من حولنا، حشود السوادنة التي أرادت ان تحكم السودان بالقوة الغاشمة، قبل ان تنكفئ على نفسها وقد تحطمت اغلب عظامها على يد الجيش وقوات الدعم السريع، ولكنها ما فتئت تحمل السلاح من خلفها مشايعيها من معارضي الشمال، يطوفون العواصم الاجنبية ويتكففون الدول، يمدون ايديهم السفلى في خزي ومهانة، ويضعون انفسهم في خدمة الأجندة التي يرسم خطوطها ويغزل خيوطها، من وراء الحدود كل من تأبط شرا.
وها هي مخابرات مصر الشقيقة وقد فرغت لتوها من تدبير ورعاية التفاوض بين باقان اموم ومجاك أقوت وربيكا قرنق وكوستي مانيبي، وبين وفد جنوبي مُناظر يمثل حكومة جوبا عينه سلفا كير، بعد ان جمعتهم في مقرها بالقاهرة، فأطعمتهم وكستهم، ثم أوصلتهم الى اتفاق وقعته حكومة سلفا والمعتقلون السابقون، وعينت نفسها، اي المخابرات المصرية، ضامنة للاتفاق الذي يرجى منه ان يعيد باقان اموم الى موقعه أمينا عاما للحركة الشعبية. كل ذلك ومصر لا ترتجي من جهدها إلا تكريس وجود عناصر معادية للخرطوم في حكومة الجنوب ترعى ديمومة التوتر وتحقق استطراده بين الجارين التماسا لإضعاف السودان وكسر شوكته اتساقا مع مقتضى ومصالح استراتيجيات الأمن القومي المصرية.
ثم ما لبثت حكومة مصر، بعد ان فرغت من أمر تأمين الكيد الجنوبي، إلا ريثما ادارت وجهها نحو الحركة الشعبية شمال (حشش) فوجهت الدعوة الى زعماء فصائلها المتناحرة للتوافد على القاهرة. حيث رتب بصاصو المحروسة للقاء جامع بين الفرقاء تحت راية جهاز المخابرات المصرية في مطلع ديسمبر، وذلك بغرض الإعانة على مصالحة المتناحرين وتوحيدهم من جديد في مواجهة الدولة السودانية فيظلون شوكة في خاصرتها، او هكذا تأمل.
ستتحرر حلايب عندما تتحرر معارضات الارتزاق من مذلة الاستنصار بالاجنبي والعمالة له والارتهان لارادته والخضوع لأجندته.