دكتور الوليد آدم مادبو
في السودان، لم يعد سفك الدم حادثةً عابرة، بل أصبح أسلوبًا للحكمٍ ومصدرًا للشرعية. صار الدم وسيلةَ السلطة حين تعجز عن الإقناع، ولغةَ الخوف حين تفقد الهيبة، وشهادةَ الميلاد لكل نظامٍ لا يملك من الشرعية سوى ما يُريقه من أرواح. من رحم هذا العبث خرج البرهان، لا ليقود جيشًا، بل ليقود أوركسترا الدم في نشيدها الأخير.
لقد كان إدخال القوات المشتركة في هذه المحرقة فعلاً سياسيًا متعمّدًا، لا نتاج ارتباكٍ أو سوء تقدير، بل مشروع تطهيرٍ إثنيّ مستتر برداء الوطنية. لم يكن الأمر سوء إدارةٍ لمعركةٍ عسكرية، بل تنفيذًا لسياسةٍ موروثة من كهوف “التمكين”، هدفها التخلص من “الزرقة” — الزغاوة تحديدًا — أولئك الذين مثلوا في الوعي الإسلاموي شبح الهامش الذي لا يُروض، وكأن الدولة لا تستقيم إلا إذا أُريق دم من يذكّرها بخطاياها القديمة.
هكذا أراد البرهان أن يغسل وجهه بالدم، وأن يبرهن للمركز أنه ما زال عبدًا أمينًا لمشروعه: أن تُبنى الدولة على أنقاض إنسانها. فكلما سال دم، تجدد عقد السلطة. وكلما مات جندي، عاش القائد يومًا آخر.
إن المأساة ليست في عدد القتلى، بل في تحوّل الدم إلى أداة لإنتاج الشرعية السياسية. فحين يعجز الحاكم عن الإقناع، يبحث عن الركام ليخطب من فوقه. وعندما تنضب الحجة، تفيض المقابر. في عالم البرهان، كل دمٍ مسفوك شهادة ميلادٍ جديدة للسلطة، وكل جثةٍ توقيعٌ على “وحدة التراب السوداني” التي لم تعد سوى اسمٍ شعريٍ لمقبرةٍ جماعية.
لقد ورث البرهان من الكيزان طريقتهم في الحكم بالدم، لا بالفكرة. من علي كرتي أخذ دهاء التلاعب بالمقدّس، ومن البشير أخذ شهوة البقاء مهما كان الثمن، ومن كليهما ورث الإيمان العميق بأن الشعب يُهزم بالخوف قبل الرصاص. لكنه نسي أن الدم حين يتجاوز حدّه، لا يُخيف بل يُحرّر. فالدماء التي أرادها لعنةً على الهامش، تحوّلت إلى نداءٍ للكرامة يملأ البلاد.
لقد أهان الإسلاميون القوات النظامية حين جعلوها درعاً لأوهامهم، وزجّوا بها في معركةٍ غير متكافئة ضد شعوبٍ لم تطلب سوى الكرامة. لم يكن الجند أعداءً، بل أبناء شعبٍ واحدٍ خُدع مرتين: مرة باسم الدين، ومرة باسم الوطن. لكن شعوب الهامش، وقد سُدّت أمامها سبل العدالة، لم تجد إلا السلاح طريقًا للخلاص، فقاتلت كمن يُحرر نفسه من أسرٍ قديم، لا كمن يُنازع على سلطةٍ زائلة.
على “القائد العام” أن يدرك أن استمرار هذه الحرب لا يعني انتصار الجيش، بل تؤكد نهايته. فتوالي الهزائم تفل من عضده المادي، تضعف روحه المعنوية، تُصيب هيبته في مقتل وتجعل الوطن عرضة للتمزق والانهيار الكامل. البطولة الحقيقية إذاً لم تعد في خوض المعركة، بل في امتلاك القدرة والشجاعة على إيقافها قبل أن يصبح السودان فريسةً تستثير شهية الأعداء وتغري أطماعهم أكثر مما هو واقع الأن.
عجبٌ من خطابه الأخير الذي شكر فيه الشعب السوداني على صبره، وكأنه يوزّع شهادات تقديرٍ على من دفنوا أبناءهم أو إخوانهم. لم يعتذر، ولم يتراجع، ولم يقدم استقالته، لأنه ببساطة لا يرى الموت جريمة بل ضرورة سياسية. في عالمٍ آخر، حين يخطئ القائد، يقدّم استقالته أو يصوّب رصاصة الرحمة لرأسه. أما في عالمنا الثالث، فالقائد لا ينتحر إلا إذا ضمن أن الوطن سيدفن معه.
إنها لحظة مفصلية في تاريخ السودان: لحظة يدرك فيها الجميع أن الكيزان لم يسقطوا، بل أعادوا إنتاج أنفسهم في صورةٍ أشد فجاجة. ما زالوا يتحدثون باسم الجيش، ويُديرون الموت كما يُدار الاقتصاد — بالعجز والربح والخسارة. وما زال البرهان، ذلك الوجه العسكري للمشروع الإسلاموي، يغنّي نشيدهم الأخير، نشيدًا من الدم والعجز والغرور.
رحم الله الشهداء من جميع الأطراف، أولئك الذين ماتوا لا دفاعًا عن طاغيةٍ أو راية، بل عن معنى الوطن الذي اغتاله الجميع. إن دماءهم ليست “عملةً” للشرعية، بل شهادةً على سقوطها.
وحين يطلّ فجر الحقيقة، سيعرف الناس أن الدم الذي أُريق لم يكن لعنة، بل نداءً إلى حياةٍ أعدل، وأن الذين ماتوا لم يرحلوا عبثًا — بل تركوا وراءهم صمتًا كثيفًا لا يقطعه إلا وعدٌ خفيّ بأن هذا الوطن لن ينوني بعد اليوم إلا بصوت الحقيقة.
October 28, 2025
auwaab@gmail.com
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم