نيرتتي والسيولة الأمنية المريبة

 


 

 

 

التيار 7 يوليو 2020

أن يتنادى أهالي منطقة نيرتتي، من جميع قراهم ويتجمعوا معتصمين في العراء لأسبوعٍ كامل، يدل على أن حياتهم قد غدت مستحيلة، أو تكاد. تقول كل الشواهد التاريخية منذ أن أنشأ البشر ما سُمى بالدولة، سواءً كانت في صورة مشيخات قبلية، أو ممالك وإمبراطوريات، أو دولة حديثة: أنه لا وجود للدولة إن لم يكن هناك أمن. فالأمن هو القاعدة، التي ليس دونها إلا الفوضى. منذ أن عرف الناس التجارة وسيروا القوافل عبر الفلوات، حرصوا على أن تضم حراسًا مسلحين. ولقد كانت أولوية الدولة، منذ أقدم العصور، هي استئصال شأفة قطاع الطرق. فالحد الفاصل بين الحضارة والتمدن، وما يسمى "البربرية"، أو التوحش، والفوضى الشاملة، هو استتاب الأمن. فإذا انفرط عقد الأمن انفرط عقد كل شيء. فالدولة التي تفقد القدرة على فرض سلطتها وقوانينها على أي جزءٍ من أراضيها، تدخل، تلقائيًا، في عداد الدول الفاشلة. هذا هو ما أكده، منذ أكثر من ثلاثة قرون، توماس هوبز، أحد أبرز فلاسفة علم السياسة.

يعلم الجميع أن عقوبة قطع الطريق واحدةٌ من أقسى العقوبات في الإسلام، إذ تصل حد القطع من خلاف والصلب، وما ذاك الا أن الأمن العام، هو القاعدة التي ليس دونها قاعدة. من علامات التمدن أن تنعدم الحاجة وسط الناس إلى حمل السلاح، ثقةً في قدرة الدولة على حمايتهم. وأذكر أننا عندما كنا صبية، في قرى الجزيرة، كنا نشاهد الكبار يلبسون السكاكين في أذرعهم. وفي عقود قليلة اختفت هذه الظاهرة، وأوشكت الآن على التلاشي تماما. وفي فترة الإدارة البريطانية كان السلطات تصادر السكاكين ممن يلبسها من القادمين عند مداخل مدينة الخرطوم. فامتلاك سلاح شخصي دلالة على نقص التمدن، وعلى نقص الثقة في الدولة. لقد بلغ الأمر بأهل نيرتتي أن وجدوا أنفسهم غير قادرين على فلاحة أرضهم، خوف أن يُقتلوا في الحقول. وأصبحت النساء رهينات البيوت والحي خشية الاغتصاب، رغم ضرورات العمل في المحيط الخارجي في البيئة الريفية. هذا الوضع الذي تعيشه نيرتتي، هو الجحيم بعينه. وإذا لم تقم الدولة بواجبها سوف يضطر السكان إلى تسليح أنفسهم، وسيرتد نسق الحياة ردَّةً كبيرة. يدل اعتصام أهل نيرتتي أنهم يئسوا من السلطات المحلية، ولم يبق لهم سوى أن يرسلوا صيحة استغاثة إلى المركز، عسى ولعل

ختامًا، للمرء يتساءل: أين السلطات المحلية؟ أين جهاز الأمن؟ أين الشرطة؟ أين الجيش؟ وأين الدعم السريع؟ وكيف تركوا الأمر يتفاقم إلى الدرجة التي أضطر فيها المواطنون إلى إرسال صرخة استغاثة إلى مركز الدولة؟ وهل يا ترى ستكون هناك مساءلة ومحاسبة للسلطات المحلية حول هذا الأمر. أيضا لفت نظري أن الوفد الذي أرسلته الحكومة غلب عليه المدنيون. فأين وزير الداخلية؟ وأين ممثل المكون العسكري في مجلس السيادة، الذي يتصدر المشهد السياسي بحجة حماية الأمن؟ في تقديري، أن السيولة الأمنية التي تسود البلاد، الآن، تبعث على الريبة. ولا نملك إلا أن نقول: "اصح يا ترس"، فالبلاد كلها توشك أن تصبح نيرتتي. أي دولة هذه التي تتجول في عاصمتها عصاباتٌ تحمل السواطير في وضح النهار، فتعتدي على المواطنين العزل، وتسلب الهواتف من النساء. ثم حين يُلقى القبض عليهم، نكتشف أن من ألقى القبض عليهم هم لجان المقاومة؟

 

آراء