وثيقة كامبل بانرمان: وتطبيقات المخطط في فلسطين والسودان

د. عمرو محمد عباس محجوب

وثيقة كامبل بانرمان (Campbell-Bannerman Report) هي وثيقة يُشار إليها كثيرًا في الخطاب العربي والإسلامي كخطة استعمارية وُضعت في مطلع القرن العشرين لتقسيم العالم العربي والإسلامي ومنع وحدته. لكن من المهم أن نوضّح أن هذه الوثيقة تُعد مثار جدل واسع بين الباحثين: فبينما يعتقد البعض أنها وثيقة حقيقية وسرّية وُضعت في مؤتمر أوروبي في لندن سنة 1905-1907، يرى آخرون أنها وثيقة مزعومة لم يُثبت وجودها في الأرشيفات البريطانية أو الأوروبية.

يُقال إن رئيس الوزراء البريطاني السير هنري كامبل بانرمان دعا سنة 1905 إلى مؤتمر سري في لندن ضمّ ممثلين عن القوى الاستعمارية الكبرى في أوروبا:
بريطانيا، فرنسا، بلجيكا، هولندا، إيطاليا، وإسبانيا. هدف المؤتمر المعلن كان دراسة أحوال الشعوب “المتخلفة” في المستعمرات، لكن الهدف الحقيقي – وفق الرواية الشائعة – كان وضع استراتيجية طويلة الأمد لضمان بقاء الهيمنة الغربية على الشرق.

النسخة الفرنسية التي انتشرت بعد الحرب العالمية الأولى ليست وثيقة رسمية بريطانية منشورة، بل هي نص مترجم من مذكّرات وتقارير يُعتقد أنها سُرّبت من أرشيف فرنسي في باريس (حوالي عشرينيات القرن العشرين) وتداولتها لاحقًا النخب الفكرية في مصر وسوريا والمغرب العربي. النسخة التالية هي النص الكامل كما ورد في تلك التسريبات الفرنسية (مترجمة إلى العربية).

“لقد اجتمع ممثلو الدول الأوروبية الكبرى بناءً على دعوة من حكومة صاحب الجلالة البريطانية، للنظر في الوسائل الكفيلة بضمان استمرار سيطرة أوروبا على العالم، والمحافظة على تفوقها وهيمنتها على الشعوب الأخرى.”

“إن البحر الأبيض المتوسط هو الشريان الحيوي للإمبراطورية البريطانية، ولأنه همزة الوصل بين الشرق والغرب، فإن السيطرة عليه تعدّ ضرورة لا غنى عنها لبقاء أوروبا مهيمنة على العالم.”

“إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا مستقبلاً ليس في قيام إمبراطوريات كبرى في أوروبا – فهذه خاضعة لتوازن القوى – بل في قيام كيان موحد في الشرق الإسلامي، لأن عناصر الوحدة متوافرة فيه: الدين، اللغة، التاريخ، والثروات.”

“إن العالم العربي، في أراضيه الممتدة من الخليج إلى المحيط، يملك مقومات الحياة والبقاء والوحدة. وإذا أُتيح له أن يتطور وفق طبيعته، فسيصبح من أقوى الإمبراطوريات العالمية. لذلك ينبغي علينا أن نحول دون تحقيق هذا الاحتمال بأي وسيلة.”

“إن الحل يكمن في تفكيك هذه المنطقة إلى دويلات وشعوب متنافرة، وأن نزرع بين جناحيها الآسيوي والأفريقي جسمًا غريبًا يفصل بينهما، يعيش على العداء معهم ويُضعف وحدتهم.”

“علينا أن نحافظ على تجزئة الشعوب الإسلامية والعربية، وأن نشجع الاتجاهات الإقليمية والمحلية فيها، وأن ندعم كل نزعة انفصالية، وألا نسمح بقيام دولة أو كيان سياسي قوي على أي جزء من أراضيها.”

“إن البحر الأبيض المتوسط يجب أن يبقى بحيرة أوروبية، وأن تبقى شواطئه الجنوبية والشرقية تحت السيطرة الأوروبية، أو في أيدٍ صديقة لأوروبا.”

“إن شعوب هذه المنطقة يجب أن تبقى في حالة من الجهل والتأخر الحضاري، وعلى أوروبا أن تبذل جهدها في تفتيت وحدتها الثقافية واللغوية، وأن تُضعف لغتهم العربية وتشجع اللهجات المحلية واللهجات القومية المختلفة.”

“كما يجب دعم الأقليات الدينية والعرقية فيها لتكون أدوات تفتيت دائمة، ولإضعاف الروابط القومية والدينية التي تجمعهم.”

“ويجب أن تكون لنا سيطرة على مواردهم الاقتصادية، وأن نحتكر استثمارها وتوزيعها، حتى تبقى خاضعة لحاجاتنا الصناعية والتجارية.”

“وعلينا أن نحول دون قيام صناعة متطورة في البلاد العربية، وأن نحصر نشاطها الاقتصادي في الزراعة وتصدير المواد الخام فقط.”

“كما يجب علينا أن نبقي التعليم في حدوده الدنيا، ونوجهه بما يخدم مصالحنا، وأن نراقب بعناية كل حركات التجديد الفكري أو النهضوي التي قد تدعو إلى الوحدة أو التحرر.”

“ولتحقيق هذه الغايات، يجب أن تُقام في المنطقة قوة غريبة عدائية التوجه إلى جيرانها، تكون قاعدة متقدمة للغرب ومركزًا لحماية مصالحه، وتمثل حاجزًا دائمًا بين شعوب المشرق والمغرب العربيين.”

تشير النصوص المتداولة إلى أن الوثيقة تضمنت جملة توصيات جوهرية، من أبرزها:

  1. منع قيام وحدة عربية أو إسلامية يمكن أن تهدد مصالح الغرب.
  2. إقامة حاجز بشري واستعماري في فلسطين يفصل المشرق عن المغرب.
  3. تفتيت المنطقة العربية إلى كيانات ضعيفة متنازعة.
  4. التحكم في منابع الثروة والطاقة، وخاصة النفط.
  5. تشجيع اللهجات المحلية والانقسامات المذهبية لإضعاف اللغة العربي

بعد انتهاء المؤتمر المزعوم بنحو عقد ونصف، ظهرت أول إشارة علنية لما يُعرف بـ”وثيقة كامبل بانرمان” في فرنسا، من خلال مقالات كتبها مؤرخون فرنسيون مثل جان بولان (Jean Paulin) في Revue de Paris عام 1922.³ ونقلت هذه التسريبات مضمونًا يتطابق تقريبًا مع ما تداوله مفكرون عرب لاحقًا، خصوصًا فكرة “زرع جسم غريب في فلسطين” و”إدامة التجزئة الثقافية في إفريقيا والشرق الأوسط”.
لم يُعثر على الوثيقة الأصلية في الأرشيف الفرنسي أو البريطاني، لكن مضمون التسريبات انسجم تمامًا مع سياسات أوروبا اللاحقة، لا سيما سايكس–بيكو (1916) ووعد بلفور (1917)، وهما التطبيقان الأكثر وضوحًا لجوهر الخطة.

تمثل فلسطين التجسيد الجغرافي والسياسي المباشر لتوصيات “كامبل بانرمان”.
فقد تحققت فيها ثلاثة عناصر مركزية من المخطط:

  1. إقامة “الجسم الغريب” وعد بلفور (1917) منح اليهود وطنًا قوميًا في فلسطين، ليكون قاعدة غربية تفصل المشرق العربي عن المغرب. هذا الكيان الاستيطاني أدى لاحقًا إلى إضعاف التواصل الجغرافي والسياسي بين مصر والمشرق العربي.
  2. التحكم بالثروات والممرات إذ ضمنت بريطانيا من خلال الانتداب (1920–1948) السيطرة على الموانئ والطرق البحرية المؤدية إلى قناة السويس.
  3. تفتيت الوعي السياسي العربي دعم الانتداب البريطاني الزعامات المحلية، ومنع قيام قيادة عربية موحدة، تطبيقًا لمبدأ “فرّق تسد”.⁴

النتيجة كانت إقامة دولة صهيونية ذات وظيفة استراتيجية غربية، تضمن استمرار تفكك المنطقة العربية وانشغالها بصراعات دائمة.

السودان كنموذج تطبيقي متكامل للمخطط: إذا كانت فلسطين تمثل البعد الجغرافي لـ”كامبل بانرمان”، فإن السودان يجسد تطبيقها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي الأكثر اكتمالًا. فبعد الاحتلال البريطاني المصري عام 1898، شرعت بريطانيا في تنفيذ سياسات تعكس جوهر الوثيقة:

سياسة المناطق المقفولة (1922) إذ أُغلقت مناطق الجنوب والنوبة ودارفور أمام التعليم العربي والإسلامي، ومنع التواصل مع الشمال، بهدف خلق كيانات ثقافية متمايزة. كان الهدف هو “فصل الشمال العربي المسلم عن الجنوب الإفريقي المسيحي”، وهو ما تحقق فعليًا لاحقًا بانفصال الجنوب عام 2011.⁵

تفكيك الهوية الثقافية والدينية: فرضت الإدارة البريطانية اللغة الإنجليزية في التعليم والإدارة، وأغلقت الكتاتيب والمدارس الإسلامية، وشجعت اللهجات المحلية والقبائلية، تنفيذًا لتوصية الوثيقة بتفكيك اللغة والدين المشتركين.

اقتصاد تابع: أنشأت بريطانيا مشروع الجزيرة (1925) لإنتاج القطن الخام وتصديره إلى مصانعها في مانشستر ولم يُسمح بقيام صناعة وطنية، ليبقى السودان اقتصادًا أحادي البنية تابعًا.

دعم الطائفية والنخبوية: رعت بريطانيا الزعامات الطائفية (الأنصار والختمية) لتكون أدوات سيطرة اجتماعية. كما أسست نظامًا تعليميًا نخبويًا (كلية غوردون التذكارية) لتخريج طبقة تدير البلاد بالوكالة عن الاستعمار بعد الاستقلال الشكلي.⁶

النتيجة التاريخية: تحقق في السودان كل ما حذّر منه نص كامبل بانرمان: تفكك الهوية الوطنية وانقسام ديني وعرقي وجغرافي وتبعية اقتصادية وهيمنة نخب مرتبطة بالمستعمر.

المراجع (أسلوب شيكاغو)
‏ 1. Henry Campbell-Bannerman, Parliamentary Papers: Colonial Affairs, London: HMSO, 1906.
‏ 2. Anwar al-Jundi, Khiṭat Kambel Banerman li-Taqsim al-‘Alam al-Islami, Cairo: Dar al-Fikr, 1980.
‏ 3. Jean Paulin, “Le Partage du Monde Oriental,” Revue de Paris, 1922.
‏ 4. Albert Hourani, A History of the Arab Peoples, London: Faber & Faber, 1991.
‏ 5. M. W. Daly, Empire on the Nile: The Anglo-Egyptian Sudan, 1898–1934, Cambridge University Press, 1986.
‏ 6. Hasan Ahmed Ibrahim, Man and the State in Sudan: Colonial and Postcolonial Legacies, Khartoum University Press, 2003.
‏ 7. Abdelwahab Elmessiri, The Encyclopedia of Jews, Judaism, and Zionism, Cairo: Dar al-Shorouk, 1999.
‏ 8. Roger Garaudy, Promesses de l’Islam, Paris: Seuil, 1981.
‏ 9. Mohammed Jalal Kishk, Wa Dakhala al-Khayl al-Azhar, Beirut: Dar al-Zahra, 1981.

عن د. عمرو محمد عباس محجوب

د. عمرو محمد عباس محجوب

شاهد أيضاً

تحولات النخبة العربية: من التبعية للغرب إلى فكر المقاومة والوحدة

تحولات النخبة العربية: من التبعية للغرب إلى فكر المقاومة والوحدة (1979–2025) (٢-٣) القسم الثاني: ما …