وحدة تسقط_بس غير قادرة على تحقيق شعارات ثورة ديسمبر

 


 

 

الخميس 3 فبراير 2022

جرب شعبنا وحدة القوى المدنية المبنية على اتفاق الحد الأدنى (إسقاط النظام كما في #تسقط_بس)، في "أوسع" تحالف في تاريخ السودان، قوى إعلان الحرية والتغيير، ولكن سرعان ما تخلخل هذا التحالف بعد سقوط رأس النظام وقبل الشروع الفعلي في هدم أركانه. ثم استمر تضعضع التحالف حتى انتهى عملياً إلى "أربعة طويلة" أقرب لصف المكون العسكري وأجهزته الأمنية من الشارع (من يستطيع أن ينسى أن الجماهير هتفت ضد إبراهيم الشيخ في ساحة الحرية فدافع عنه حميدتي).
أحد أهم أسباب عدم استجابة قوى ثورية عديدة (على رأسها لجان المقاومة وجماهيرها) لدعوات وحدة القوى المدنية التي تطلقها جهات وأفراد مما تبقى من قوى الحرية والتغيير (قحت) هو فقدان الثقة فيها. ورغم بيانات قحت التي أعقبت انقلاب 25 أكتوبر مباشرة موحية أنها وعت هذا الأمر، إلا أن مرور الوقت أنبأ بأن ذاك كان انحناءً في وجه العاصفة كيما تمر، ثم العودة لقديم حليمة.
الكذب الصريح، واللعب بالكلمات والعواطف، والاستذكاء والاستهبال الذي يظهر من تصريحات وبيانات ومواقف ما بقي من قحت لن يساعد على تحقيق أي وحدة حقيقية قادرة على هزيمة الانقلاب، ويجب على مسؤولي هذه الأحزاب والقوى وجماهيرها أن يسرعوا بمغادرة محطة محاولات خداع الجماهير مرة أخرى.
هذه نقاط سريعة لا أظنها خافية عن قيادات قحت.
1. ماذا بقي من قحت؟ تكونت قحت من:
أ. كتلة نداء السودان: التي تضم داخلها حزب الأمة والجبهة الثورية بالإضافة لعدد آخر من الأحزاب والقوى. الجبهة الثورية خرجت من قحت منذ منتصف 2019، وتقف معظم قواها الآن مع الانقلاب. وحزب الأمة جمد نشاطه لفترة طويلة في هياكل قحت رغم عمله المشترك مع بقية أحزاب الأربعة الطويلة عبر ترتيبات مختلفة تقترب من الشلليات انتهاءً بمجلس الشركاء. وبعد الانقلاب ما زال حزب الأمة يعمل منفرداً بعيداً عن قحت في أهم القضايا، مثل طرحه لخارطة طريق مستقلة.
ب. قوى الإجماع الوطني: لا أعلم حقيقة عدد القوى والأحزاب المنضوية تحتها ولا عدد عضويتها أو وجودها الحقيقي في الشارع بعد خروج الحزب الشيوعي السوداني منها.
ج. تجمع المهنيين: ارتضت الاحزاب المسيطرة على قحت أن تقف مع مجموعة انقلابية داخل التجمع انقلبت على ممارسة ديمقراطية نزيهة متوافق عليها، وما زال رموز الانقلاب في صدارة قحت. سيذكر التاريخ كيف أن أحزاباً عديدة داخل قحت قامت بسرعة بعد بدء مظاهرات ديسمبر المجيدة بتشكيل أجسام مهنية موازية لأجسام أخرى كانت موجودة منذ سنوات للحصول على تمثيل أكبر في قيادة تجمع المهنيين، وسيذكر التاريخ كيف قامت بعض هذه الأجسام بأدوار تخريبية بعد تشكيل الحكومة الانتقالية (مثل حملات بعض الأجسام ضد مسؤولين تنفيذيين منذ أيام تعيينهم الأولى). هذا لا يعني إعفاء تجمع المهنيين الشرعي من إخفاقاته في القيام بواجباته خلال العامين السابقين وخصوصاً في جبهة العمل النقابي القاعدي، ولكن الحقيقة أنه لا يمكن تحميله أخطاء قحت، كما لا يمكن إعفاء قحت من دورها في تحطيمه.
د. التجمع الاتحادي: معلوم للمطلعين على الأحوال هشاشة الوحدة بين التنظيمات المتعددة التي تشكل التجمع الاتحادي بما يبين أنه في أفضل الأحوال حزب قيد الإنشاء، إلا أن ممارساته وممارسات قياداته التي تنسمت مواقع قيادية في الدولة (مجلس السيادة ومجلس الوزراء وولاة وغيرهم) كشفت عن محاولة فاشلة لوراثة أسوأ ما في الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل وهو المحاصصة في الوظائف، وشراء الولاء بتوزيع الغنائم، وغياب المناهج والرؤى المتسقة.
ه. تجمع القوى المدنية: وقد خرج رسمياً الأسبوع الماضي من قحت.
المسرحية السمجة لإعادة توحيد قحت في سبتمبر الماضي لم تقنع أحداً ولم ينتج عنها بصورة عملية غير عودة حزب الأمة لقحت، وكما ذكرنا فحزب الأمة كان أصلاً مشتركاً مع قحت في مجلس الشركاء (يقابلون البرهان يشكون له بقية القوى المدنية ضمن نشاطات مخزية أخرى) وفي الحكومة، وفي غيرها. أما بقية أسماء الأحزاب والقوى العديدة التي شملها ذاك الاحتفال فقد عبر عنها الوجود المحوري لشخص مثل د. حيدر الصافي في قمة هياكل قحت ممثلاً للحزب الجمهوري، رغم تصريحات وبيانات الحزب الجمهوري الأصلي منذ 2019 بأن د. حيدر ليس عضواً في الحزب ولا يمثله، ويمكن هنا طرح الأسئلة المشروعة، ماذا وكم كان حيدر الصافي يمثل بالضبط؟ وكم هناك من أجسام وشخوص هلامية وضعتها قحت على قمة صنع القرار السياسي (على الأقل المدني) في البلاد في هذه الفترة؟
2. قحت لم تكن (وما زالت لا) تسمع صوت الجماهير، ولم تكن (وما زالت لا) تسمع أصوات شركائها ورفاقها من داخلها أو بعد خروجهم، ولم تكن (وما زالت ليست) شفافة مع الجماهير. عبرت جماهير الشعب السوداني كثيراً عن انتقاداتها لأداء قحت والحكومة التنفيذية والشراكة، وعبر شركاء قحت عن ذلك مراراً كما يتضح لكل قارئ لبيانات وتصريحات أجسام مثل تجمع القوى المدنية والحزب الشيوعي منذ بداية فترة الحكومة الانتقالية، وحتى أشخاص كالأستاذة عائشة موسى السعيد بعد استقالتها من المجلس السيادي، (دون أن ينقص ذلك من مسؤولية هذه الأجسام والأحزاب والأشخاص في مجريات ما حدث). وما ورد في هذه البيانات والتصريحات هو عين الخلل الذي شاب الفترة الانتقالية ودور قحت وحكومتها فيه، وهو نفس الذي يتحدث مستهبلو قحت الآن وكأنهم كانوا يعلمونه ويقاومونه منذ البداية. ولكن الجماهير لا يمكن أن تصدقهم وهم لم يكلفوا أنفسهم طوال سنتين بالحديث مباشرة للشعب لتوضيح تلك الأمور، بل كانت كل مخاطباتهم تتحدث عن الشراكة المندغمة المنسجمة النموذج. كنت قد كتبت في 19 أغسطس 2020 عن القوى المشكلة لقحت أنهم: "خذلوا الشعب بالاتفاق، ثم بالوثيقة، ثم خذلوه بطريقة الاختيار للمناصب، ثم بالتفرج على الوثيقة وهي تنتهك بنداً بنداً وتاريخاً تاريخاً، وخذلوه بعدم استكمال أجهزة الحكم، وبعدم تحقيق السلام، وبعدم مراقبة الأداء السياسي، وبعدم الشفافية مع الشعب، وخذلوه بغض الطرف عن كثير من مناهج العمل الفاسدة التي ورثناها عن الكيزان، وبتقديم من لا يستحق التقديم في المناصب والمنابر، وخذلوا الحكومة ورئيس الوزراء الانتقاليين بعدم دعمهما ومراقبتهما"، وبالطبع فقد زادت هذه القائمة أضعافاً مضاعفة في السنة التالية، وظهرت تفاصيل أكثر سوءً عن تلك الأحداث وغيرها.
3. الأداء الضعيف البعيد عن الشفافية الكارثي لحكومتي الفترة الانتقالية عاشه الشعب السوداني ودفع ثمنه أرواحاً طاهرة (لم يتوقف إهدارها منذ أول يوم لتولي حمدوك السلطة في بورتسودان ودارفور وكسلا والخرطوم وغيرها من نواحي السودان)، وشظف عيش تزايد من يوم لآخر. الكلام المعسول عن كيف كنا سنعبر وننتصر يكذبه حال السودانيين في جميع أنحاء البلاد، وتكذبه الأرقام الكلية الحقيقية للتضخم ولسعر الصرف، والمقارنة لأرقام الميزانيات السنوية حين وضعها أول السنة مع الأرقام المتحققة آخر السنة. الأداء الكارثي تبدى أيضاً في عدم مجابهة الفساد بحزم بل وفي ظهور بوادر فساد داخل أجهزة الحكم الانتقالي وإغماض قحت الطرف عنها. الأداء الكارثي للحكومتين يكشفه عدم البدء في أي إصلاحات حقيقية في الخدمة المدنية وأجهزة الحكم، وعدم الشفافية في التعيينات، واستمرار كوادر النظام "البائد" في كثير من مواقعهم. يكشفه التعامل بما يشبه البلاهة مع انتهاكات الأجهزة الأمنية لحقوق المواطنين السودانيين، وتبرير قحت لمغامرات عسكرية مثل (الانفتاح في) منطقة الفشقة، وانتهاج دبلوماسية سنة أولى ابتدائي مع جيران جادين ومحترفين كالأشقاء في مصر وأثيوبيا، وحتى مع دول الجوار الإقليمي الأخرى والعالم.
4. وجود رموز قيادية في قحت مواقفها أو مواقف تنظيماتها الصريحة ضد مطالب الجماهير الثورية. ياسر عرمان مثلاً نائب لمالك عقار عضو المجلس السيادي، وعضو في الجبهة الثورية التي لها ممثلون آخرون في المجلس السيادي ومجلس الوزراء. حزب الأمة مثلاً رئيسه المكلف وضح موقفه مرة بعد الأخرى بالقفز على مطالب الشارع الثوري ، ورغم اجتهاد حزب الأمة في لملمة مثل هذه الاختلافات الجوهرية، لكن يصعب إعادة بناء الثقة مع الجماهير بدون إجراءات صارمة وشفافة.
5. ما كشفت عنه جلسة مجلس الشيوخ الأمريكي المخصصة للسودان يوم الثلاثاء 1 فبراير يوضح ما كان يعلمه الكثيرون من المراقبين إما صراحة عبر معلومات موثقة، أو عبر تحليلات من أن كثيراً من القادة السياسيين الذين يتحدثون مع القوى الدولية (وعلى رأسهم رموز مهمة في قحت) يسرون لهذه القوى الدولية بعكس ما يظهرونه للشارع السوداني من التزام بمطالباته. ذكر المسؤولون في تلك الجلسة أن المسؤولين المدنيين الذين التقوهم يوافقون على وجهة نظر الإدارة الأمريكية المبنية على استحالة خروج العسكر من الفترة الانتقالية والوثيقة الدستورية الجديدة المعدلة، وأن هؤلاء المسؤولين يتفقون معهم في أن المطلوب أن يكون العسكر مشاركين (participants) لا شركاء (partners) في المرحلة القادمة، مع حديث هلامي عن ضرورة المحاسبة (accountability) للعسكر، وهو هلامي بدليل لجنة نبيل أديب. لا يستطيع مسؤولو قحت الذين يملأون الأثير بجعجاتهم التصريح بهذه المواقف للشارع السوداني، ولكن الأمريكان لا يخشون شيئاً. الحقيقة أن مثل هذه الأشياء تدعو لاحترام اتساق أشخاص مثل رئيس حزب الأمة المكلف فضل الله برمة ناصر وعدد من مناصري حزبه أو أعضائه وهم يعلنون عن هذه المواقف أو يعملون بها دون محاولة تذويقها وغش الشعب السوداني مرتين.
6. دور مكونات قحت في اختراق وتكسير محاولات العمل القاعدي طوال فترة الحكومة الانتقالية، سواءً في لجان المقاومة أو التنظيمات النقابية.
7. الصراعات العديدة بالغة الوضاعة بين بعض مكونات قحت حول المناصب والامتيازات كبيرها وصغيرها، وتآمرها على بعضها وعلى الجماهير، واستقواء بعضها بالعسكر في صراعاتها مع الآخرين.
8. عجز، أو عدم رغبة، قحت في تقديم نقد ذاتي حقيقي صادق، أو مكاشفة الشعب السوداني بتفاصيل قضايا مهمة في مسيرة الثلاث سنوات الماضية منذ اندلاع الثورة. الشعب أوعى من أن يصدق الأحاديث التي أطلقتها بعض أجسام أو قيادات قحت في الفترة الماضية، ويعلم أن الغرض من أكثرها ذر الرماد في العيون، وقول لا شيء في مقابل إعادة التقديم في الساحة بدون دفع تكلفة الأخطاء المرتكبة في حق الشعب السوداني، وأهمها عدم الإيمان به وبمقدراته، وافتراض الوصاية عليه وعلى مصيره وقراراته.

ربما أفادت دروس وحدة #تسقط_بس أن من الأفضل للجماهير والقوى الثورية المختلفة أن تتفق على ما هو أبعد من الحد الأدنى لتضمن انتصار الثورة، وتحقيق تطلعات ومصالح غالبية الشعب السوداني، وإلا فإن هذه الوحدة لن تفعل غير إعادة إنتاج فشل الفترة الانتقالية، لا سيما وإنه لا يظهر أن كثيراً من قيادات القوى السياسية مدركة لمسؤولياتها عن مآلات الأحداث، أو أنها راغبة وقادرة على تغيير سلوكها السياسي الذي تسبب في صنع راهننا السياسي. أنا طبعاً أتمنى وحدة كل القوى المؤمنة بالديمقراطية والحرية والسلام والعدالة واصطفافها في جبهة موحدة ضد الانقلاب، وأرى أهمية أن تكون جميع الأحزاب جزءاً أصيلاً من هذه الجبهة، ولكن على هذه الأحزاب أن تقوم بواجبها لاستعادة ثقة الجماهير فيها، وهذا يقتضي القيام بإجراءات جادة وجوهرية وشفافة تقنع الشعب السوداني بأنها جادة في الاقتراب منه والتواضع تجاهه، ولكني في نفس الوقت مقتنع بأنه ما لم تتحقق الوحدة بالشروط التي تضمن هزيمة الانقلاب وتحقيق شعارات الثورة، فإن الحديث العاطفي عن ضرورة الوحدة كيفما اتفق يصبح هو نفسه سبباً في إطالة عمر الانقلاب ببث مزيد من البلبلة وسط جماهير الشعب السوداني، التي تعلم أكثر من نخبنا السياسية ما تريد تحقيقه، وهي مستعدة لمواصلة النضال وتقديم التضحيات في سبيل تحقيق تطلعاتها وشعاراتها.

husamom@yahoo.com
////////////////////////////

 

آراء