يوم صفينا الجامعة الإسلامية في 1969: هل الحداثة شفاء أم تشفي؟
(دعا الدكتور حيدر إبراهيم في مقال أخير لنتخلص بالثورة من الجامعات الدينية: الجامعة الإسلامية، وجامعة القرآن الكريم، وجامعة أفريقيا العالمية. وأعادني هذا إلى أيام بعد قيام انقلاب 25 مايو 1969 أرجعنا جامعة أم درمان الإسلامية إلى بنيتها الأولى قبل أن تصبح جامعة في 1965، أي كلية للدراسات الإسلامية والعربية هي المعهد العلمي. ولم يدم ترتيبنا الحداثي ذاك بعد انقلاب 1971 وكسرة الحزب الشيوعي. فأعادها نميري سيرتها وأخذ الشكرة وصار حل الجامعة الإسلامية ذنباً معلقاً في جنبنا وحدنا مثل التأميم والمصادرة، ومذابح أبا وود نوباوي، وتطهير جامعة الخرطوم وغيرها.
في حالة من حالات النفس اللوامة راجعت موقفنا الحداثي من الجامعة الإسلامية في ورقة لمؤتمر في التسعينات عنوانها "داحس الغردونيين والمعهديين وغبراؤهم: تخفيض قوام الجامعة الإسلامية عام 1969" نشرتها لاحقاً في كتابي "الشريعة والحداثة". وفيها قلت إن ذلك التخفيض للجامعة لم يكن خطأ سياسياً بحق آخر مغفوراً ربما فحسب، بل هو خطأ غير مغفور بحق مشروعنا الحداثي نفسه.
ورأيت، والنقاش قد يتجدد حول ماذا نفعل بالجامعات الإسلامية بثورة ديسمبر، أن تكون كلمتي عن خبرتنا مع الجامعة الإسلامية في 1969 عظة وعبرة بيد من أراد النقاش في الأمر الجديد. ووقفت في الكلمة الماضية عند مشروع المرحوم الدكتور كامل الباقر، مدير الشؤون الدينية ومؤسس الجامعة الإسلامية، لتحديث المعهد العليم بأم درمان صعداً ليصير جامعة هي جامعة أم درمان الإسلامية. وسنرى كيف أجهض قرار دولة مايو الأولى برد جامعة أم درمان الإسلامية إلى المعهد العلمي مشروعاً حداثياً لطلابه خاصة ليتحول إلى جامعة مثل سائر الجامعات)
ورغم ما يبدو في الظاهر من أن فكرة الجامعة قد تعود إلى حقبة الستينات في السودان إلا أن تطورها بشكلها هذا لهو بفضل د. كامل الباقر أحد خريجي المعهد المنتسب إلى عائلة الرئيس الأزهري الدينية المشهورة. ومن المؤكد أن كامل الباقر كانت تراود خلده فكرة تطوير المعهد وإصلاحه منذ أن كان طالبًا فيه في نهايات الثلاثينيات وبداية الأربعينيات كما أسلفنا سابقًا. ولوعيه بضعة حال الجاهل باللغة الإنجليزية في بلد سادته الإنجليز، وحقيقة أن إهمال تدريسها هو المعوق الأساسي للمعهد، فقد انتسب كامل الباقر وهو صبي لم يتعد عمره الثانية عشرة بعد إلى مدرسة حديثة (الأحفاد) لتعليم الإنجليزية فيما واصل دراسته العادية بالمعهد.
والتحق كذلك بعضوية الجمعية الثقافية بالمعهد مشاركًا في نشاطاتها المختلفة بهدف إصلاح المعهد. ثم نال منحة دراسية مصرية في الأربعينيات ليدرس في دار العلوم، وبعدها تحصل على درجة الدكتوراه في التربية من جامعة أدنبره في عام 1953م. وعند عودته للسودان في عام 1956م أصبح مديرًا لوزارة الشؤون الدينية حديثة التكوين آنذاك.
ومن موقع السلطة والنفوذ هذا أخذ كامل الباقر على عاتقه إنزال حجته وفكرته المحورية من أن ازدواجية التعليم، التي ترتب تعليماً حديثاً ودينياً، لا أساس لها في الإسلام بحيث أن تسمية مثل " التعليم الإسلامي" هي تسمية خاطئة معنىً ومبنى، وخطط الباقر لتطوير معهد أمدرمان فعليًا على مراحل ثلاث: أولها مرحلة تطوير المعهد نفسه (1958 -1963) وفيها تم تنفيذ خطة تحديث المعهد المتوارثة بكاملها فأصبح كليتين لتدريس العربية والعلوم الإسلامية. وتلت هذه مرحلة تطوره الكلية الجامعية الإسلامية (1963 -1965م) استعدادًا للدخول إلى مرحلة الجامعة الكاملة.
على أن حقيقة منشأ الجامعة الإسلامية تكمن في مكابدة طلاب مدارس المعاهد الدينية الثانوية للمشاق والنضال المستمر ضد التعليم التقليدي الذي خضعوا له وأضر بفرصهم في الحصول على فرص العمل في الاقتصاد الحديث. وكانت معركتهم ذات منحيين، فهم كانوا من ناحية يضغطون على الحكومة المتمنعة لتقبل حقهم في الدراسة والجلوس للامتحانات في قطاع المدارس الحكومية لنيل الشهادة الثانوية التي يتوسلون بها للدخول إلى مؤسسات التعليم الحديث كجامعة الخرطوم. وأفلحوا في نيل مبتغاهم في حوالي عام 1960 حينما سُمح لهم بالجلوس لامتحانات الدخول للكليات السودانية مثلهم مثل بقية طلاب المدارس الحكومية. وتوجوا نضالهم للتساوي مع المدارس الحكومية بقرار الحكومة إلغاء نظام المعهد العلمي التعليمي مرة واحدة واستيعاب طلابه في التعليم الحكومي القومي.
ومن ناحية أخرى كان طلاب المعهد قد ضاقوا بهيئة العلماء الدينيين والمدرسين المحافظين المشبعين إيمانًا بتقاليد المعهد لكونه آخر معقل للدين في البلاد. فقد قاوم هؤلاء المشائخ ما وسعهم التخلي عن المعهد العلمي من أجل رخصة تمنحها لهم الحكومة عطية لمزاولة العمل. وكان طلاب المعهد، على نقيض هؤلاء المشائخ، يتطلعون لأن يفتح لهم تحديث المعهد أبواباً للتعليم الجامعي ذي الشهادات العصرية الموثوق بها.ولاقى طلاب المعاهد العلمية الثانوية أولى بشائر نشوء الجامعة الإسلامية بالدخول في إضراب عام مساندة منهم لهذه الفكرة حتي لا يقبرها المحافظون المتربصون. فقد ارتاب الطلاب في لجنة تكونت على تلك الأيام لمراجعة أوضاع المعهد وغلبت فيها العناصر المحافظة التي كرهت تحول المعهد إلى جامعة حديثة. وقاتل هؤلاء المدرسون ذوو الميول المحافظة بعناد لا يلين لإبعاد مذمة التحديث عن المعهد. ورغم التحولات المهمة في مسيرة المعهد إلا أن أولئك المحافظين تشبثوا بما بقي حتى من أطلال معهد أمدرمان العلمي إلى سنة 1984م. وأدمجت تلك الأطلال لاحقاً في كلية القرآن الكريم التي تأسست عام 1982م إرضاء لخاطر هؤلاء العلماء. وقد أصبحت كلية القرآن الكريم جامعة في عام 1990م.
لقد استغلق أمر المعهد على الغردونيين استغلاقاً قادهم إلى قصر النظر وانسداد البصيرة. فاعتقادهم في تضاد المعهد مع التحديث بحيث أصبح "المشكلة" المعروفة لديهم، جعلهم عرضة لإيمان ساذج بوجود طريق أو وسيلة واحدة للتحديث. وفي واقع الأمر فإن نشوء الجامعة الإسلامية نفسه مما يقف دليلاً على أن التحديث مشروع لا مناص منه وإن اختلف الناس في طرائق فهمه وتبنيه.وقد سهر على تحديث المعهد طلاب استسخفوا الفكرة الاستعمارية التي فلقت التعليم بشكل اعتباطي إلى تعليم ديني منقطع للمعاد وآخر حديث تجهيزي للتوظيف والمعاش. ولم يقف بهم شغفهم بالحداثة عند تلك المحطة فحسب. فقد جاء وقت في السبعينات طالبوا فيه بالتعليم المختلط في الجامعة الإسلامية التي كانت قد خصصت كلية منقطعة للبنات. ولم يعجب ذلك المشائخ حتى ممن انتصروا لقيام الجامعة أول أمرها. وهذا بيان في أن التحديث غلاب والسبل إليه شتى.
كان تخفيض قوام الجامعة الإسلامية إلى سابق عهد المعهد العلمي خطلاً جانبه التوفيق في نواحٍ عديدة. فقد أظهر جهلاً "تقدميًا" لا يغتفر بالحقل المعرفي الثقافي والسياسي للتعليم الديني الذي أوى إليه أبناء الفقراء والريف والمعلمين الله. فليس يصح للتقدميين أن يصعروا خدهم لمطلب هؤلاء المحرومين في تعليم حديث يؤمن لهم الرزق ويفتح أمامهم فرص الترقي في الحياة. ومع ذلك فالجهل الذي أحاط بالمعهد وأحواله هو جهل متعمد وليس به سذاجة الجهل أو براءة المقصد. ويصدق على مثل هذا الجهل القاصد قول الأنثربولوجي الفرنسي بيير بوردو عن "الجهل المستنير". فكتابات الغردونيين عن التاريخ الوطني في مقاومة الاستعمار، أو عن الفترة التي تلته، إما تجاهلت المعهد بالكلية، أو أبرزته في صورة لا تسر الناظرين. فناصر السيد في رسالته حول تاريخ التعليم الحديث لا يذكر المعهد إلا مقترناَ "بمشكلة تعريب" التعليم. غير أن الدكتورة سعاد عيسى تميزت عن أضرابها بإحقاق المعهد حقه حتى أنها انتقدت قرار تخفيض قوام الجامعة ووصفته بالتخبط التعليمي.
أما كتابا الدكتورين مدثر عبد الرحيم (1969م) و د. محمد عمر بشير (1974م)، اللذان هما العمدة في تاريخ الحركة الوطنية مكتوبة من زاوية غردونية، فهما مثال في تجاهل دور المعهد عند سرد تاريخ تلك الفترة. وهو تجاهل اتفقا فيه على ما بينهما من اختلاف الفكر والسياسة: فمدثر إسلامي راسخ، ومحمد عمر- رحمه الله - كان علمانياً ذكياً. واتفاقهما إذاً هو أثر من الولاء للمؤسسة الغردونية والتشرب بعقائدها وحزازاتها. فقد أشار محمد عمر بشير إلى المعهد بثلاثة هوامش فقط مقارنة بأربعين إشارة خص بها كلية غردون وروادها من السلف الصالح ومؤتمر خريجيها اللوامع، بل والأعجب من هذا أن إشارته للمعهد كانت استخفافية. في حين لم يكلف مدثر عبد الرحيم نفسه حتى عناء إدخال اسم المعهد في فهرس الأسماء وإن أشار إلى مؤسسه، الشيخ أبو القاسم هاشم، بخصوص تعاونه مع السلطة المستعمرة.
فبتخفيضهم لقوام جامعة أم درمان الإسلامية فإن دُعاة التحديث واليسارية سلكوا مسلكًا متعجرفًا بحسبانهم الأوصياء الخلص على التحديث ومسيرته. وكان نتيجة ذلك مجانبة وإزدراء لنظام تعليمي كان يلبي حاجات تنورية شحيحة لمسحوقي البلد. وبافتقار التحديثيين اليساريين للتحليل السياسي المستوعب لحال المعهد نجدهم غضوا الطرف عن النضال التاريخي لطلاب المعهد من أجل نيل نصيب من التعليم الموصوف بالحديث. وخلافاً لخطاب التحديثيين التقدمي لفظاً فانهم، بما فعلوا بالمعهد، وجدوا أنفسهم طرفاً متطوعًا في تحالف مع من يتهمونهم "بالرجعية" في مملكة التعليم التقليدي. فقد تلاقت فكرتهم في خفض الجامعة الاسلامية إلى كلية للدراسات العربية والاسلامية في 1969 مع فكرة غلاة المشائخ الذين لم يريدوا للمعهد أن يترقى إلى جامعة يضمر فيها تخصصه التاريخي في الدراسات الإسلامية والعربية. أما عن مردود تخفيض الجامعة الإسلامية سياسيًا على التقدميين ففادح. فقد أبرزهم في مسوح الآخذين بثأرهم ممن ظلمهم بعد تهافت ثورة أكتوبر 1964. كما طبعهم بطابع من يتعامل برد الفعل. وهي صورة لا ينبغي لأي داعية إصلاح وتحديث أن يوصم بها.
IbrahimA@missouri.edu