آهٍ من قيدك أدمى مِعصمي! … بقلم: فتحي الضَّـو

 


 

فتحي الضو
19 September, 2009

 

 

faldaw@hotmail.com

 

في اعقاب توقيع رؤساء تحرير الصحف السياسية والاجتماعية والرياضية على ميثاق الشرف الصحفي يوم 15/9/2009 توقعت كل الصحف أن تكون الخطوة تمهيداً لرفع الرقابة القبيلة. ومضت إلى ابعد من التكهن، بالقطع إلى أن الإلغاء سيتم في اجتماع متوقع بين رئيس جهاز الأمن والمخابرات الفريق مهندس محمد عطا المولى واللجنة المشتركة المناط بها متابعة تنفيذ ميثاق الشرف الصحفي، وذلك بعد يومين من مناسبة التوقيع المشار إليها. لكن صحيفة (الأحداث) رأت فيما يرى الحالم أن في التطورات المذكورة ما يستحق الإحتفاء بشكل خاص واستثنائي، فصنعت من الخبر سبقاً صحفياً، وكانت الوحيدة التي صدرت في يوم الاجتماع المزمع عقده بين الطرفين المذكورين بعنوان رئيسي وجاذب في نفس الوقت (غداً صحافة بلا قيد) وزيَّنت به صدر عددها الصادر يوم الخميس الماضي 17/9/2009 ولم تخف على قرائها في صدارة الخبر إنها بَنَت حساباتها كلها على التوقعات، والتي يعلم الجميع بأنها قد تصيب مرة وقد تخيب مرات، وكانت الأخيرة أرجح، إذ خرجت الصحف مجتمعة في اليوم المتوقع فيه إنعقاد الاجتماع المفصلي بخبر تأجيله إلى يوم الأحد القادم 27/9/2009 مما يعني تعليق أمر الرقابة إلى حين، لكن السيد على شمو رئيس اللجنة قلل من مخاوف الإرتداد (الصحافة 18/9/2009) بقوله إن (تعديل موعد الاجتماع لن يؤثر على الاتجاه العام نحو رفع الرقابة، بإعتبار أن بسط الحريات امر مبدئي لا تراجع عنه) وفي ذات السياق أبدى كمال عبد اللطيف غبطة وسرور للخطوة التمهيدية (الرأي العام 18/9/2009) وذلك في رسالة لرؤساء تحرير الصحف قال فيها إن (إنفاذ مضامين الميثاق سيجعل من استمرار التواثق بين الجهات ذات الصلة كافة أمراً ميسوراً ليحل الضبط المهني الراشد والرقابة الذاتية والمعايير الصحفية محل التدخلات الإدارية والإجراءات الاحترازية للرقابة القبلية) وأضاف مؤكداً (الجميع يتفق على أنّ الرقابة القبلية استثناء في النظام الصحفي الذي جرى تأسيسه بروح رشيدة على قاعدة الحرية والمسؤولية)! وللتنويه فإن علامة التعجب من عندنا!

أياً كانت الإرهاصات فتلك مؤشرات توضح أن الرقابة القبيلة ربما تصبح في ذمة التاريخ قريباً، وريثما يحدث ذلك نتوقع أن ينهض نصراء الأنظمة الشمولية وصناع الديكتاتوريات ليحمدوا للحكومة الرشيدة مكرمتها التي جادت بها على البلاد والعباد، وسيقولوا لنا أن الخطوة جاءت نتيجة طبيعية لتطور في مسيرة ظافرة كانت حافلة بالإنجازات والإعجازات، سيوهمنا هؤلاء أن الرقابة القبيلة لم تكن ذات الرقابة التي مثلت لهم ملاذاً آمناً، مارسوا تحت سقفه كل أنواع التدجيل والتطبيل والنفاق السياسي، سيؤكد هؤلاء أن رفع الرقابة جاء نتيجة مثابرتهم المتواصلة ونضالاتهم المستمرة، ذلك ليس بغريب طالما أننا نعيش في زمن عجيب، زمن تعفَّرت فيه المثل وتعفَّصت فيه القيم، فالذين جاءوا على ظهر دبابة وداسوا على الديمقراطية بجنازيرها الثقيلة، صاروا اليوم أكثر الناس حرصاً علي الديمقراطية، لدرجة بات ينعتون فيها الذين كانوا سداتها ولحمتها يومذاك بالديكتاتوريين. والذين كانوا يوصفون عندئذٍ بأنهم غير شرعيين أصبحوا اليوم هم الشرعيون ويسبغون اللا شرعية على شرعيي الأمس. والذين كانوا ينادون بالإنفصال بالأمس وأعدوا له القوة ورباط الخيل والجند المجندة، بدأوا يوهمون الخلق أنهم هم الوحدويون اليوم في حين أن وحدويي الأمس هم الإنفصاليون. ومع ذلك ما كان ينبغي لنا أن نستعجب أو نندهش أو نستغرب، أليس نحن في أمةٍ قال عنها شاعرها الفحل المهندس على نور: كل أمريء في السودان يحتل غير مكانه/ المال عند بخيله والسيف عند جبانه!

بإسم الوطنية دائماً ما ترتكب الأنظمة الشمولية خطايا كبيرة في حق الوطن والمواطن، وهي في سبيل ذلك تنصب نفسها رقيباً على أناس خلقهم الله في الأصل أحرارا. وتجعل من الولاء للوطن ولاءاً لها، ويعتقد القائمون عليها أن الاختلاف معها معارضة للوطن بنقص في الوطنية. ولسنا في حاجة للقول إلى أن الأنظمة الضعيفة هي التي تحتمى من وراء الرقابة لتداري بها سوءاتها، ولسنا في حاجة للتذكير إلى أن الأنظمة التي قننت الفساد وجعلت له سنناً وفرائض هي التى تتوارى خلف الرقابة لأنها تخشى الحساب والمحاسبة، ولسنا في حاجة لضرب مثلٍ بأنظمة دالت دولتها لأنها توهمت بأن الرقابة تمنحها قوة مطلوبة. ولسنا في حاجة للإستدلال بأنظمة استبدادية ظنت أن الرقابة تسبغ عليها شرعية مفقودة. فالرقابة هي وسيلة العاجز وسلاح الضعيف، يسنها من يخشى دحض الافتراء بالحجة، ويقرها من يخاف مواجهة الادعاء بالمنطق، والرقابة هي  إنتقاص لحقوق المواطنة لأنها تميز فئة على أخرى. ويعجب المرء من أولئك المزايدين الذين لا يسألون أنفسهم: لماذا هم على حق وغيرهم على باطل؟ لماذا هم في المكان الصحيح وغيرهم في المكان خطأ؟ لماذا هم وطنيون وغيرهم خونة وطابور خامس؟ أليس من المحتمل بذات المعايير أن تكون الفرضية معكوسة؟ بمعنى لماذا لا يكونون هم من ضل الطريق نحو مصلحة الوطن وغيرهم أصابها؟ نعم، لقد عرف التاريخ الإنساني كثير من أنماط الحكم، ولكن أُتُفق على أن اسرعها زوالاً تلك التي توسلت الرقابة بغية الاستمرار في السلطة، ولجأت إلى البطش والقمع وتكميم الأفواه بهدف البقاء على دستها!

بالطبع لم تكن فترة الرقابة القبلية هي أسوأ فترة في تاريخ الصحافة الإنقاذية فحسب، ولكنها الأسوأ في تاريخ الصحافة السودانية على الإطلاق، ذلك لأنها مورست بطريقة عشوائية تقاصرت وتقازمت حتى عن ما درجت عليه الأنظمة الشمولية من معايير ومقاييس. إذ انه ليس سراً إنها أوكل أمر تنفيذها لكوادر أمنية لا تتمتع بالوعى السياسي والثقافي والفكري الذي يجعلها تستطيع تحديد ماهية الخطوط الحمراء التي تخشى السلطة المساس بها، الأمر الذي وضعها في أحايين كثيرة في مواقف حرجة إنعكست سلباً على هيبة النظام. وخلقت له عداوات كان في غنى عنها حتى بالنسبة لأقلام ظلت تماليه وتؤيده ظالماً ومظلوماً. ومن دون الصحفيين الذين أدركوا المأساة بعين بصيرة، فالقراء أنفسهم كثير ما إكتشفوا التناقض المريع على صفحات الصحف، فالممنوع في صحيفة مرغوب في أخري. وتبعاً لذلك ظلت المادة المحظورة هي محط أنظار القراء، بلسان حال يقول لن تستطيعوا إستغفالنا أو الاستخفاف بعقولنا! والمفارقة أن الأنظمة الاستبداية تغفل تماماً فرضية أن الرقابة لا تحجب عن المواطنين معرفة الحقائق فحسب، وإنما تحجب عنها هي نفسها معرفة اتجاهات الرأي، بحيث لا تستطيع بوصلتها تحديد مسارها أو حتى معرفة قبولها من عدمه عند مواطنيها، ولهذا نعتقد أنها تستعيض عن ذلك بتكريس آليات القهر والقمع والبطش والتجبر!

من مفارقات التراجدكوميديا أن الأنظمة الاستبداية لم تدرك أن الرقابة نفسها بتلك الصورة الكلاسيكية لم تجد نفعاً، وهي في ظل تقنية متطورة تعد ضرباً من ضروب العبث، لاسيما، فقد اتضح بما لا يدع مجالاً للشك أن المادة الممنوعة تصبح أكثر انتشاراً، وبوسع القاريء الحصول عليها من قبل ان يرتد إليه طرفه، ولن يكلفه الأمر شيئاً سوى الجلوس أمام شاشة صغيرة، ونقرة خفيفة على جهاز الحاسوب. كذلك فقد حطمت التكنلوجيا (تابو) نشر مواد بعينها وجدت ملاذاً وحضناً دافئاً في الصحافة الإلكترونية، وهي التي جعلت القاريء مشاركاً في إنجاز العمل الصحفي. وذلك إما بالتعليق المباشر في حده الأدني، أو بتوجيه الرأي العام في حده الأعلى، ولعل الأخير هذا ما حدث بالضبط قبل أشهر قليلة خلت. وذلك في المهمة التي أنجزها النظام المعروف بإسم (تويتر) وهو الوسيلة المبتكرة التي خصصت لتبادل المعلومات والأخبار بشكل فوري، فبعد أن كانت مقتصرة على تبادل رسائل عادية بين أشخاص حريصون على الارتباط ببعضهم البعض، تحولت إلى أداة أكثر فاعليه في سير وأخبار الحياة العادية. فعندما بدأ شباب التظاهر في شوارع مولدافيا في أبريل الماضي، تحوَّلت (توتير) من مجرد فضاء إلكتروني لتبادل الرسائل إلى أداة سياسية، وتكرر السيناريو في إيران مؤخراً حيث وجد الآلاف الذين نزلوا للشوارع احتجاجاً على نتائج الانتخابات ضالتهم فيه، وذلك بعد أن أوصدت السلطات الإيرانية أخبارهم بالرقابة التي فرضتها على وسائل الإعلام، فأصبحت (توتير) هي وسيلة الاتصال الرئيسية مع العالم، وساعد في ذلك أن خدمتها التي لا تحتاج حصول الشخص على بريد إلكتروني، إضافة إلى أنه يمكن توجيه الرسائل القصيرة عن طريق الهواتف النقالة أيضاً. ولعل في هذا وذاك ما يكشف خطل الرقابة بصورتها النمطية التي ذكرنا!  

إن الذين يعتقدون في تحول ديمقراطي في ظل قوانين قمعية واهمون، والذين يظنون امكانية تحول ديمقراطي في كنف عصبة لا ترى في الآخر مواطناً يشاركها الحقوق والواجبات هم حالمون، فذلك أمر لن يتأتى إلا إذا رأوا نهر النيل وقد غير مجراه وأصبح يجري من الشمال إلى الجنوب. وفي ضوء هكذا معطيات نحن براء من قوم يحسنون الظن بهذه العصبة التي لم تحسن الظن يوماً في مواطنيها. فالتحول الديمقراطي الحقيقي لا يأتي في طبق من ذهب، وبخاصة أن المخاطب لم يدر ما كنهها ولم يمتثل لها يوماً لا في أقواله ولا أفعاله. فإذا شاءت العصبة ذوي البأس تغيير هذه الصورة الكئيبة ما عليها سوى إبراز الجدية المطلوبة في إلغاء الرقابة، فهي تدرك أنه بدون ذلك لن تستطيع أن تسمع صوت الآخر إن شاءت، ولن يستطيع هذا الآخر توضيح آرائه في القوانين التي تؤدي إلى التحول الديمقراطي المزعوم طالما الرقابة مشرعة أجنحتها. بل في تقديري أن فكرة إلغاء الرقابة لن يستقيم أمرها إلا إذا تبعتها خطوات أخري ملازمة، أهمها تهيئة المناخ للصحفيين أنفسهم لإنتخاب كيان ديمقراطي حر، يمثلهم تمثيلاً حقيقياً ويعبر عن تطلعاتهم وهمومهم المهنية والوطنية، فالاتحاد الحالي يعد ذراع من أذرعة السلطة. وينفس القدر ينطبق عليه ما ينطبق على تابعه المسمى مجلس الصحافة والمطبوعات، علماً بأنه من الصعب تحديد مهامه وواجباته ووظيفته. إن جاز لنا أن نتمدد أكثر في النصح فإننا نأمل بقرار يلغي وزارة الإعلام برمتها، ليس لأنها عبء على خزينة الدولة، فتلك موبقة تشاركها فيها كثير من أجهزة ومؤسسات العصبة، ولكن لأنها وزارة لم تنجز شيئاً في تاريخها هو تكريس الديكتاتوريات وتشوبه الديمقراطيات، وفي الحالة الراهنة عاطلة تقاسمت جهات كثيرة مهامها، بل حتى وزيرها الذي يفترض أن يكون ناطقاً رسمياً بإسم حكومته، لم يجد آخرون حرجاً في أنفسهم بسلبه هذا الدور، فأصبح لا وجود له حتى في وسائل الإعلام التابعة لوزارته!

إن كينونة الانسان لن تكتمل إلا بحرية الرأي والتعبير، إننا نشعر بالخجل حينما نتحدث عن أمر تحزمت وتلزمت فيه الشعوب المتحضرة وقطعت فيه قول كل خطيب منذ مئات السنين. وما كان لها أن تبلغ تلك الدرجة الرفيعة من الرقي والتحضر إلا لأنها أكدت لمواطنيها إنسانيتهم بمنحهم حقوقهم كاملة غير منقوضة، بما في ذلك الحق النبيل الخاص بحرية الكلام والتعبير عن الرأي. ولم يكن ذلك منحة لشعوب استمطرت الرزق من سماوات حكامها، وإنما جاء ذلك عبر تضحيات جسام ونضالات مُهرت فيها الأرواح رخيصة. ففي بريطانيا يرجع بداية تكريس المفهوم إلى القرون الوسطى، أي بعد الثورة التي أطاحت بالملك جيمس الثاني عام 1688 ونصبت الملك وليام الثالث حيث أصدر البرلمان البريطاني قانون (حرية الكلام في البرلمان) وفي فرنسا تم إعلان حقوق الانسان والمواطن عام 1789 عقب الثورة الفرنسية ذائعة الصيت، ونص على أن حرية الرأي و التعبير جزء أساسي من حقوق المواطن، أما في الولايات المتحدة فوثيقة الحقوق 1791 التي تشكل العامود الفقري للدستور الأمريكي، يتضمن البند الأول فيه حرية الكلام للأبد. بيد أنه لن تجد ما هو أكثر بلاغة في تجسيد هذه الحرية من قول الفيلسوف جون ستيوارت ميل (1873-1806) الذي قال (إذا كان كل البشر يمتلكون رأياً واحداً وكان هناك شخص واحد فقد يملك رأياً مخالفاً فإن إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة) ولكن لماذا نستعين بآراء أشخاص ظلوا محط لعنات العصبة أحياءاً وأمواتاً، طالما ترك لنا سيدنا عمر بن الخطاب ما لن نضل بعده أبداً في باب الحقوق والواجبات، ذلك في قولته المشهورة التي سبقت استيوارت بمئات السنين (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) ومنَّا إلى العصبة التي تدعى الاقتداء بدين عمر بن الخطاب في الظاهر، وتهرب خلسة من دنياه في الباطن!!

 

عن (الأحداث) 20/9/2009

 

 

 

آراء