أبجديات أهداف التنمية المستدامة وموقع السودان منها .. الهدف الثاني: القضاء التام على الجوع (2 من 17)

 


 

د. حسن حميدة
27 October, 2023

 

يعرف الأمن الغذائي وفقا لاتفاق خلص إليه مؤتمر القمة العالمي للأغذية الذي عقد في روما، بإيطاليا في العام 1996، بأنه الوضع الذي يتحقق فيه تمتع كل الناس، في الأوقات جميعها، بإمكانية الحصول المادي والاقتصادي على أغذية كافية وسليمة ومغذية، تلبي احتياجاتهم الغذائية وأفضلياتهم الغذائية، من أجل حياة نشطة وصحية. وللأمن الغذائي أربعة أبعاد رئيسية وهي: التوفر المادي للغذاء، الحصول المادي والاقتصادي على المواد الغذائية، الاستفادة من المواد الغذائية، واستقرار الأبعاد الثلاثة المذكورة بمرور الوقت. ويقاس انعدام الأمن الغذائي بمساعد مؤشر الجوع العالمي (جي إتش آي)، كأداة إحصائية متعددة الأبعاد، لوصف حالة الجوع في البلدان، والذي يحدد موقفي التقدم والفشل. ويتم تحديث مؤشر الجوع العالمي مرة واحدة في نهاية كل عام، لتحديث الجهود العالمية المبذولة لمكافحته.

ووفقا لتقرير منظمة الأمم المتحدة للعام 2022 فيما يخص الأمن الغذائي العالمي، فإن هناك حوالي 828 مليون شخص يعانون الجوع المزمن في العالم. ومقارنة بالعام 2021، كان هناك حوالي 782 مليون شخص قد عانوا الجوع المزمن، أي بزيادة 46 مليون شخص في ظرف عام واحد فقط. وتعزى هذه الزيادة في عدد الجوعى عالميا، وعلى الرغم من الجهود المبذولة للحد منها، إلى جائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية، التي زادت حدة الجوع إلى مستويات غير مسبوقة. ونتج هذا عندما تركت كثيراً من الدول الزراعية، زراعة المحاصيل الغذائية الأساسية التي يعتمد عليها، وتوجهت نحو الاعتماد على القمح المستورد واستهلاكه محليا، عوضا عن الاعتماد على مصادرها الغذائية الذاتية. وفي كثير من الدول نتج الجوع عن طريق سوء التخطيط الاقتصادي والاداري، والاهتمام بالمحاصيل النقدية، على حساب المحاصيل الغذائية الأساسية لمواطن الدول المعنية.

وتنقسم الأسباب المؤدية للجوع إلى قسمين أساسيين هما، أسباب طبيعية كالجفاف والتصحر وفتك الآفات الضارة بالزراعة ونمو النباتات، وأسباب من صنع الإنسان كالركود الاقتصادي في الأسواق وغلاء الأسعار وعدم التوزيع العادل. ومن أسباب تدهور الأمن الغذائي من صنع الإنسان أيضا المشاكل الداخلية والحروب الأهلية والحروب مع دول الجوار. الشيء الذي يؤدي إلى عدم استقرار المناطق الزراعية والرعوية المنتجة. وغالبا ما يترك المزارعون والرعاة مناطقهم بسبب الحروب ولعدم استتباب الأمن في مواقع عملهم، للنزوح لمناطق أخرى آمنة حفاظا على أرواحهم. وفي كثير من الأحيان يفقدون ممتلكاتهم ومعدات عملهم البسيطة بسبب النهب تحت تهديد السلاح، ثم يتلوه التهجير القسري. وتكون المحصلة هنا، فقدان الفئات المنتجة التي تساهم عمليا في تأمين الغذاء للشعوب، وهذا ليس فقط للإنسان كمستهلك محلي، بل أيضا للإنسان كمستهلك عالمي.

ومن الآثار التي تترتب على انعدام الأمن الغذائي، سوء التغذية الذي يتشعب إلى عدة أنواع، منها النقص أو الزيادة أو عدم التوازن في الطاقة أو المواد الغذائية المتناولة يوميا. وسوء التغذية يتشعب تعريفيا إلى ثلاثة أنواع وهي: نقص التغذية الذي يتضمن حالات الهزال (قلة الوزن، مقارنة بطول القامة)، والتقزم (قصر القامة مقارنة بالعمر)، ونقص الوزن (قلة الوزن، مقارنة بالعمر). ويكون نقص الوزن عند المواليد الجدد، وحسب تعريف منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة (دبليو إتش أو)، وزن جسم أقل من 2.5 كيلوجرام. ويحسب نقص الوزن بعد الولادة عن طريق مقارنة متوسط الوزن والعمر (زد اسكورس) بمساعدة جداول النمو الجسدي المعدة للأطفال، أو عن طريق قياس محيط منتصف الذراع الأعلى، بمساعدة شريط (مواك). ويحدد سوء التغذية عند البالغين عن طريق حساب مؤشر كتلة الجسم (بي إم آي)، الوزن مقارن بطول الجسم ، ويكون موجود بتحديد مؤشر كتلة جسم تقل عن 18 كيلو جرام/ متر مربع. الشيء الذي يعني نقصان الطاقة أو البروتينات أو المغذيات الدقيقة، أو التمازج في النقص بين المغذيات المذكورة أو وجود أمراض ذات صلة بالتغذية، لكنها أمراض نفسية المنشأ، كفقدان الشهية العصبي (أنوركسيا نيرفوزا).

هناك أنواع أخرى لسوء التغذية التي ذات الصلة بعدم اتزان المغذيات الدقيقة في الجسم، أو بسبب حدوث السمنة ذات الارتباط بالنظام الغذائي اليومي. وهناك أنواع أخرى لسوء التغذية، تنتج لأسباب عضوية، كالامتصاص الجزئي أو عدم الامتصاص الكافي للمغذيات الضرورية للجسم. ويمكن أن ينتج سوء التغذية بسبب أمراض أخرى، كالإضراباتت الهضمية لعدم تحمل الغلوتين كمركب بروتيني يوجد في دقيق القمح، أو بسبب متلازمة كرون، أو بعد بعض العمليات الجراحية للجهاز الهضمي كالاستئصال الجزئي للمعدة أو للمصران. ولسوء التغذية آثار ضارة وبعيدة المدى على صحة الأطفال، الشيء الذي يعطل النمو في مراحله الأولية، ويمهد لحدوث الأمراض المزمنة في سنوات لاحقة. وتبدأ هذا الآثار مبكرا، وتتمثل في غياب المواد الغذائية الضرورية لخلايا الجسم، والنمو العقلي والبدني.

وهنا على سبيل المثال ذكر ثلاثة عناصر ضرورية، ولا يمكن الحصول عليها إلا عن طريق التغذية المتوازنة، كالحديد ذو الأهمية لوظائف الدم وربط ونقل الأوكسجين لمختلف أعضاء الجسم، والزنك ذو الأهمية لعمل لأنزيمات وعمل جهاز المناعة وتفادي الالتهابات في الجسم، واليود ذو الأهمية في تكوين هرمونات الغدة الدرقية ونمو خلايا المخ. ويؤدي النقص المزمن لمثل هذه العناصر الضرورية للجسم، وعناصر بناء أخرى ضرورية لنمو الأسنان والعظام كالكالسيوم والفوسفات، بل أيضا نقص الفيتامينات كالفيتامين ألف أو دال، لتغيرات جسدية وخيمة العواقب. يمكن أن تطرأ هذه التغيرات على الحواس كالعين أو الجلد، أو العظام والعضلات والأعصاب وغيره من خلايا وأنسجة وأعضاء الجسم المختلفة). والأخطر من كل ذلك أن هذه التغيرات قد تزامن الطفل، إذا لم يتم درؤها منذ طفولته، وتؤثر في صحته العامة حتى في أوقات لاحقة من العمر، وبعد بلوغ سن الرشد والشيخوخة.

حاليا يقبع العدد الأكبر من أهل السودان بسبب هذه الحرب اللعينة في حالات من الجوع الخفي (ذا هيدن هنجر)، والذي ينذر بأكبر مجاعة قد تكون مرت بهذه المنطقة. وهذا إذا لم يلتفت للأمر في هذه الحرب المنسية من قبل المجتمع الدولي. ويتوقع حدوث هذه المجاعة في بداية الصيف القادم، إذا لم يحل بأرض السودان سلام تام. وتأتي مثل هذه المجاعة التي لم يعرفها التاريخ القريب، عندما تتعطل حياة الناس في السودان بغياب السلام والأمن والعمل والأجر بالإنتاج من أجل الحياة. هنا نرى وبكل بجلاء التمهيد لبناء طريق معبد لتفشي المجاعات عبر الحرب، في قطر غني بثرواته وموارده البشرية والطبيعية، وفي قطر غني عن المساعدات الإنسانية، إذا أنعم عليه بالسلام يوما (السودان يحتاج أولا سلام دائم).

وحتى إذا عم السلام ربوع السودان الحبيب، لا بد أن نذكر بدراسات العالم البريطاني والمختص في علوم الأوبئة، البروفيسور الراحل ديفيد جيمس باركر (1938-2013)، أو بنظريات باركر المشهورة التي توضح علاقة سوء التغذية والجوع في سن الطفولة والشباب، في نشوء واستفحال الأمراض المزمنة لاحقا. والذي يؤكد أن وضع اللبنات الأولى للأمراض ذات الصلة بنقص التغذية يأتي في سنوات الطفولة المبكرة، وأحيانا تضع هذه اللبنات في فترة تكون الجنين الأولى بنقصان المواد الغنية بالطاقة، والبروتينات والمواد الغذائية الدقيقة والضرورية لحياة الخلية لكي تنمو وتتطور. وبغياب اللحم والحليب، وبنقصان السعرات الحرارية المتناولة في كل يوم، وبعدم تنوع الغذاء الصحي الذي يحتوي على العناصر الكيمائية الضرورية للحياة كالمعادن والفيتامينات، يتأثر جسم الإنسان على المدى البعيد ويصاب بالأمراض المزمنة التي تكون سبب في تأثر آداء المصاب عمليا، وبه تأثر البلدان اقتصاديا، بجانب غلاء نفقات العلاج للفرد والأسرة والدولة ككل.

وتكون النتائج الأولية وقبل الوصول لهذه المرحلة أعلاه، والتي يتوقع حدوثها ما بين فترتي الشباب والشيخوخة: نقصان الوزن، الهزال، التقزم، هشاشة العظام، التخلف العقلي، وغيره عند الأطفال. وبجانب كل هذا، يطرأ استفحال الأمراض المزمنة عبر حرمان الإنسان، خصوصا من هو في مراحل النمو (الأطفال، الشباب) من الغذاء بسبب الحرب وتفشي الجوع المتعمد فعله. وبه يتم إهدار الطاقة البشرية المحركة لنماء الدول ورقي القارات وتطور الشعوب (الأجيال الحالية، والأجيال القادمة)، كما هو يحدث الآن في السودان من تجويع وتشريد وقهر وقتل في بلده، وعلى مرا من المجتمع الدولي. كل هذا يحدث لمواطن السوداني الذي ينشد بثورة سلمية وعفوية، حياة أفضل وحكم أمثل عبر بناء نظام ديمقراطي وتأسيس حكم مدني رشيد.

(نواصل في الهدف الثالث: الصحة الجيدة والرفاه...)

E-Mail: hassan_humeida@yahoo.de

المصدر: ترجمة معدلة من أوراق ومحاضرات للكاتب.

 

آراء