كيف لا
moaney15@yahoo.com
"سيجيء الموت وستكون له عيناكِ
هذا الموت الذي يرافقنا من الصباح إلى المساء
أرِقاً، أصمّ كحسرة عتيقة
أو رذيلة بلا جدوى".
تشيزاري بافيزي
على عكس ما يفعله ذكر الموت انتحاراً كحدث غير طبيعي يرتبط بمتلازمة الفجيعة ، وترتبط به متلازمة الحزن واليأس ، تحتفي الشاعرة اللبنانية جمانة حداد بمائة وخمسين شاعراً وشاعرة انتحروا في القرن العشرين. جاء ذلك في كتابها "سيجيء الموت وستكون له عيناك" الصادر عن الدار العربية للعلوم ببيروت عام 2007م.والعنوان مأخوذ من قصيدة بنفس الاسم للشاعر الإيطالي تشيزاري بافيزي الذي ولد عام 1908 وانتحر بحبوب منومة عام 1950م.
الشاعرة والمترجمة وصاحبة مجلة "جسد" اللبنانية ، كتبت إهداءها في فاتحة الكتاب إلى جدتها "جميلة" التي انتحرت في سبعينيات القرن الماضي.وقسمت كتابها المكون من655 صفحة من القطع المتوسط إلى ثلاثة أجزاء . في الجزء الأول "الأنطولوجيا الكبرى" الذي ضم خمسين شاعراً منتحراً أثروا الحياة الأدبية بمجموعة أشعار متميزة ، أفردت لهم الكاتبة مساحة كبيرة قدمتهم فيها مع نماذج من أعمالهم. أما الجزء الثاني المكون من خمسين شاعراً منتحراً باسم "الانطولوجيا الصغرى" فيها تقديم موجز للشعراء المصنفين في هذه الفئة مع عرض نموذج واحد من أعمالهم. والجزء الأخير المكون من خمسين شاعراً منتحراً كان تحت اسم "إحصاء الظلال" ، تكون من اسم الشاعر وجنسيته وسنة ميلاده وانتحاره مع عناوين فقط لبعض أعماله.
جاء انتقاء الأعمال في الثلاثة أجزاء متسقاً مع سيرة الموت ومنها استقت الكاتبة تقديمها لكل منهم ، وخلصت إلى أنّ هؤلاء الشعراء كانت تحوم حولهم أشباح الموت كما تحوم حولنا الآن أشباحهم :" ما أعرفه هو أننا نحن الشعراء محاطون بأشباح يخاطبوننا سرّاً". وعلى عكس تشبيه حالات التكوين الأولى للعمل الشعري بمخاض الولادة كما يحلو لكثير من الشعراء تسمية ساعة انتاج قصائدهم ، تربط الشاعرة بين الشعر والانتحار كحالة نادرة وشجاعة ، حين يقدم الشاعر عملاً وحين يضع حداً لحياته الخاصة :"مائة وخمسون شاعراً وشاعرة انتحروا في القرن العشرين. مائة وخمسون صرخوا أو همسوا: كفى".
من ضمن ما حوته "الأنطولوجيا الكبرى" وهي القسم الأول والأكبر في كتاب جمانة حداد، فقد ضم بين دفتيه نبذة من سيرة وبعض أعمال الشاعر السوداني الراحل عبد الرحيم أبو ذكرى الذي مات منتحراً برمي نفسه من قمة مبنى أكاديمية العلوم السوفياتية في موسكو 1989م.حيث قدمت الكاتبة لسيرة أبي ذكرى بمقطع من قصيدته "في الفاجعة" يقول: "من عينكِ أشرب طعم الموت" . ولا بد لنا أن نذكر في هذا المجال أن هذه الأنطولوجيا الخاصة بأبي ذكرى قد خطها من قبل يراع الشاعر والكاتب الأستاذ كمال الجزولي في كتابه (أبو ذكرى نهاية العالم خلف النافذة، كتابة تذكارية في جدل التوهج والانتحار) الصادر عن دار تراث ودار العلوم عام 2005م . وفي كتابه بالإضافة إلى منتخبات من شعر أبي ذكرى التي اختتم بها هناك رسالة خطية من الشاعر الراحل إلى الكاتب إفتتح بها بعد مقدمته الكتاب. ومن الرسالة التي تحوي بعض الصياغات الأدبية النادرة، وقصيدته عنوان ديوانه "الرحيل في الليل" تظهر بين فينة وأخرى ظلال الأشباح، التي حامت حول المائة وخمسين شاعراً المنتحرين في القرن العشرين ، تغرس طعْماً وتستنطق لغة للموت في قلوبهم.
"لحظتها قلتُ:أموت هنا
عيناك لديّ كفن
من عينكِ أشرب طعم الموت العالق
في أفق الأجفان
أتمعن فيك وأنصت: أسمع خشخشة الأكفان". أبو ذكرى
(عن صحيفة الخرطوم)