جنوب السودان: مجاعة على حواف النفط

 


 

 


تحليلات

موعد مع المسغبة
دقّ ناقوس الخطر
البحث عن ممرات آمنة
لم يخلو عقدٌ من الخمسين سنة الماضية من تاريخ السودان الحديث من كارثة تمتزج أسبابها السياسية مع البيئية والإقتصادية لتنتهي بمجاعة مهلكة، مما صوّر قناعة آخذة في الترسخ، وهي أن الحكومات الوطنية هي من تتقاعس عن الاستجابة لحل مشكلة الجفاف، بل لعلها ساهمت أيضاً في تفاقم نتيجته بالصراعات وإطالة أمد الاحتراب وعدم الإستقرار. أما الفرضية المتعلقة بالمجاعة الأخيرة التي تهدد دولة جنوب السودان والتي أسفر إنفصالها عن تغيرات بالغة الأهمية، فهي ما يتعلق بتحديد بنية الدولة السودانية. فقد تقبل السودان ودولة جنوب السودان اختيار الجنوب للإنفصال كمبدأ لإنشاء "دولتين قابلتين للحياة" ولكن ويا للمفارقة فإنّه انفصل وفي أحشائه جينات استدامة الاحتراب الجالبة للموت.
موعد مع المسغبة:
قد يكون مستغرباً أن تداوم المجاعة على ضرب بلد تمت تسميته من قبل بسلة غذاء العالم، وباستثناء مجاعات الخمسة قرون الماضية، فإنّه كانت لكل عقد من العقود الأخيرة مجاعة لا تخلف موعدها. كانت المجاعة الأولى في سبعينيات القرن الماضي، تلتها أخرى في عامي 1984-1985م وقد كانت من أشدّ المجاعات التي مرّت على السودان بل أفريقيا فتكاً، حيث نتج عنها خسائر بشرية هائلة راح ضحيتها حوالي ثمانية مليون وأربعمائة ألف متضرر. كما تأثرت بها الثروة الحيوانية فنفق أكثر من نصفها في ولايات دارفور وكردفان وشرق السودان، وتدهورت المراعي والأراضي الزراعية. وصاحب ذلك نزوح بشري واسع من المناطق المتضررة إلى المدن بحثاً عن عمالة يومية في أعمال هامشية مما تسبب في خلل اقتصادي واجتماعي وخيم.
أما المجاعة الثالثة فكانت في تسعينيات القرن الماضي، وكانت الرابعة إبان اشتعال الحرب في دارفور عام 2004م وقبل أن تدخل المساعدات الدولية وتحلّ جزءاً من المشكلة. أما بوادر هذه المجاعة الأخيرة فهي التي حلّت بجنوب السودان، وإن كان الجنوب قد فرّ بجلده من أزمات السياسة فقد لحقته كوارث الطبيعة وأزمة إدارة الدولة وكوارثها.
بالرغم من أنّ السودان يُعدُّ من أكثر الدول الأفريقية تعرضاً للكوارث حيث يقع جزء كبير منه ضمن نطاق المناخ المداري الذي يتميز بقلة الأمطار وتذبذبها ونمط توزيعها. وبالرغم من وجود أسباب ديمغرافية أخرى مثل الرعي الجائر وإزالة الغابات، وفقدان مياه الأمطار في المناطق الغزيرة بسبب التبخر والنتح، فإنّ ما أسهمت فيه نظم الحكم المختلفة بعدم مقدرتها على احتواء ظواهر التشظي والإنقسامات داخل الدولة الواحدة هو العامل الأخطر في تفاقم الكوارث وعدم احتواء أخطار المجاعات المتوالية على السودان ومؤخراً جنوب السودان.
وبهذا فإنّ النظر إلى المجاعات باعتبارها جزءاً من قوى الطبيعة فقط يُعتبر نظراً قاصراً، لأنّ المجاعات تحدث لأسباب أخرى كثيرة غير الأسباب الخارجة عن السيطرة. فهناك عوامل تدخل في نطاق اختيار شكل إدارة الدولة وتضرب بجذورها في البنية الأساسية لها. ونجد أنّه في حين فشلت دولة السودان في إدارة التنوع لتضمن وحدتها وسلامها، فشلت دولة الجنوب الوليدة أيضاً في المحافظة على شكلها بعد الإنقسام لتتولد عنه إنقسامات أخرى غذتها بالصراعات والاحتراب. لم يتعلم الجنوب من دروس الحرب القاسية التي كابدها في إطار دولة الوحدة، وها هو يذيق شعبه الأمرين بتكرار التجربة.
دقّ ناقوس الخطر:
تحول القتال بين جيش حكومة جنوب السودان بقيادة سلفاكير ميارديت ونائبه السابق رياك مشار ليشمل قبيلتيهما الأكبر بين قبائل الجنوب وهما الدينكا والنوير. وبسبب استمرار المعارك بين الطرفين اضطر أكثر من مليون شخص إلى مغادرة ديارهم ومراعيهم ومزارعهم، تاركين موسم الأمطار الذي يبدأ هذا الشهر دون الاستفادة منه في سدّ جزء من هذه الضائقة. ووصل الأمر إلى أن تدقّ الأمم المتحدة ناقوس الخطر وتعلن في تحذير رسمي من أنّ ثلث سكان دولة جنوب السودان البالغ عددهم 12 مليون نسمة، قد يواجهون نهاية العام الجاري خطر المجاعة إذا استمرت الحرب الأهلية في البلاد بين الأطراف المتحاربة.
هذا الوضع يستدعي تكثيف الإغاثة الدولية التي بدأها قرار الرئيس الأمريكي باراك أوباما بتبرع بلاده ب 50 مليون دولار لتكون جزءاً من المساعدات المفترض وصولها إلى سقف 1.3 مليار دولار بجهود المانحين الدوليين. وهذه البلاد التي تنتظر المساعدات الدولية في ظل مجاعة وأوضاع صحية رديئة، يتدفق بين جنباتها النفط، كدليل ينتصب ليثبت أنّ المشكلة في أصلها ليست مشكلة موارد بقدر ما هي عجز وفشل في إدارة البلاد، وتغذية للصراعات العرقية والقبلية.
وتبرز المفارقة هنا أنّه لما اختار أهل جنوب السودان انفصال دولتهم في استفتاء عام تم في عام 2011م، أملاً في رد المظالم التاريخية والتهميش والنقص في تنمية إنسان الجنوب وإقليمه، توقع الجميع حتى الأطراف الدولية أن تكون الغلبة للسلام وما سيتبعه من استقرار وتنمية. ولكن على عكس كل التوقعات لم يجنِ البلدان مكاسب باختيارهما لسلام مزعزع، فقد تزايدت الصراعات معلقة على مشاجب الحدود والديون ومنطقة أبيي ومرور النفط وغيرها من القضايا العالقة في حالة من اللاحرب واللاسلم. وفضلاً عن ذلك لم تنكفيء كل دولة على مشاكلها الداخلية بل أثّرت وتأثرت بزعازع جارتها، فراح نظام الخرطوم يهرول نحو الجنوب كلما اشتد النزاع في منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق، ويهرع نظام جوبا شمالاً كلما اشتدت الصراعات الداخلية بين نظام سلفاكير والمتمردين لتنزلق دولة جنوب السودان في أتون حربٍ أهلية جديدة.
وهذا التحذير الأممي ليس بجديد باعتبار أنّ خطر المجاعة كان من الممكن التنبؤ به بسهولة. ومن تلك التنبؤات كانت التقارير التي سبقت الاستفتاء على انفصال جنوب السودان وفيها إشارات واضحة من الأمم المتحدة رجّحت أن تكون النتيجة ولادة دولة فاشلة. ولم تخيّب دولة جنوب السودان هذه التوقعات بل أحاطت نظام حكمها بجيش تحرير مكون من مليشيات قبلية في مواجهة متمردين قوامهم أيضاً مليشيات قبلية مناوئة.
البحث عن ممرات آمنة:
ربطت الأمم المتحدة تلافي كارثة المجاعة في الجنوب بوقف إطلاق النار، ويبدو هذا أمراً غير يسير بالنظر إلى عوامل تغذي هذه الصراعات. هناك  أسباب أساسية تطيل من أمد هذه الأزمة في مناطق النزاع، وهي أنّ دولة الجنوب بالرغم من الموارد الإقتصادية التقليدية بالإضافة إلى تلك المكتشفة حديثاً إلّا أنّها تعيش في حزام منطقة يسودها الفقر المدقع، وهي الأكثر عرضة للصراعات والنزاع في أفريقيا، الأمر الذي يجعل الصدمات المعاكسة تدفعها نحو استمرارية عدم الإستقرار.
كما أنه يستشري استقواء أطراف النزاع بكيانات قبلية أخرى، تجتمع على اختلاف أهدافها ومصالحها، فكل يحشد من حوله أشتات القبائل مما يتعذر معه اتفاق الطرفين الرئيسين أو تنفيذ ما اتفقوا عليه. ولم يكتف طرفا النزاع بحشد الداخل وحده بل لجأوا إلى تشابك العلاقات مع الدولة الأم، فمع وجود قضايا عالقة قيد التشاور بين حكومة الخرطوم وجوبا يدخل رياك مشار في الخط بإنعاش علاقته بنظام الخرطوم. كما أنّه من الواضح ليس لدولة الجنوب برنامج سياسي متفق عليه بين الأطراف المتصارعة، مما صور رجال الدولة كزعماء حرب يمارسون العنف بدلاً عن سياسة الحكم. ولا تغيب بالطبع الموارد المتنازع عليها بين القبائل بدءاً بالمراعي والأراضي الزراعية والصراع الأضخم حول النفط.
من ينظر إلى تركيبة دولة جنوب السودان يدرك أنّ الآثار التي تركتها التقاليد القبلية الرعوية جعلت من العصي التحول من ذلك الكيان إلى كيان دولة مدنية تحكمها القوانين واحترام الحقوق.  وما فاقم من هذه الحالة هو عدم استطاعة حكومة سلفاكير خلع قبعتها العسكرية، بالرغم من التزامه كزعيم للحركة الشعبية لتحرير السودان سابقاً، أمام الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبيلو بوش الذي أقنعه عام 2006م عند لقائه في البيت الأبيض بتحويل جيش التحرير الشعبي إلى جيش محترف.
ولأنّ حكومة الجنوب ومعارضيها عهدوا بإدارة أمور السياسة إلى قبائلهم فقاموا بتسييسها وتجييشها وتزويدها بالأسلحة، جاءت المواجهات بين الطرفين في قمة العنف باعتبار أنّ القوة التي تملكها قبيلة الدينكا تؤهلها إلى السيطرة على بقية القبائل، وأن قبيلة النوير يمكنها منازلتها دون الرجوع إلى مباديء ثابتة، أو حكمة تدرأ جحيم المواجهات بين أكبر قبيلتين على حساب من هم أقل منهم مالاً ونفراً.
وهذا ما يفسّر عجز الطرفين في إيجاد أرضية يقفان عليها من أجل تحقيق سلام يهيئ طريقاً أسرع من الموت بسبب المجاعة يسلكه المانحون لتوصيل إغاثاتهم. وقد يبدو من ممارسة العنف الذي تنتهجه الحكومة تجاه مناوئيها أو رد المتمردين بعنف أكبر، أنّ الطرفين يمتلكان قوة عظمى ولكن قدرتهما تتقاصر في محك اتخاذ القرار الذي ترهن به حياة الملايين من سكان الجنوب وهو قرار وقف إطلاق النار الذي تم الاتفاق عليه وخرقه. وبذا يكون تعثر وجود الممرات الآمنة لتوصيل الإغاثة الدولية وصعوبة وصول الدعم الصحي والطبي إلى المتضررين بسبب عدم الإلتزام بوقف إطلاق النار بين حكومة الجنوب ومعارضيها، سبباً في إزهاق مزيد من الأرواح.
لقد جاء الجفاف هذا العام في وقت عامر بالاضطرابات السياسية والاقتصادية في دولتي السودان وجنوب السودان. وإن اتضحت كارثة المجاعة في دولة جنوب السودان بشكل سافر فإنّ حكومة الخرطوم ما زالت تتلفح بالتسميات المضللة مثل "الفجوة الغذائية" لوصف شبح المجاعة الذي لاح في دارفور وشرق السودان لتتوالى كارثة المجاعة في هذا الحزام  الأفريقي  في سُيريالية عجيبة.
(عن الجزيرة نت)
moaney15@yahoo.com

 

آراء