أجراس الخطر والمسكوت عنه في الغزو الثقافي القادم

 


 

 



kha_daf@yahoo.com
هذا المقال يمس الثقافي وليس الديني، لذا لزم التنويه..
فيلم، ومشهد، ومجلة. وضعت هذه الوسائط الثلاثة الإطار الدرامي لمعركة تدور في الخفاء بين الغرب وأفريقيا، لأن ما يهمس به أكثر مما يقال علي الملأ.. تستخدم فيها جزرة الدبلوماسية الناعمة، وعصا الحرمان الغليظة من بذل المساعدات التنموية.ليست بسبب محاربة الجماعات الإرهابية، ولكنها معركة من نوع آخر وهي بين سلوكيات الحداثة والليبرالية الجديدة ومزاعم القيم الغربية، وبين التراث والقيم الحضارية لأفريقيا.
أما الفيلم فهو (بروانباك ماونتاين) وهو فيلم من الدراما الرومانسية للدفاع عن حقوق المثليين في العالم ، أنتجته هوليوود في عام 2005وأخرجه أنج لي، وأعيد تدشينه بداية هذا العام بصورة ثلاثية الأبعاد . أما المجلة فهي مجلة تايم الأمريكية وهي تضع في صورة غلافها عنوان بارز(أثيوبيا مقبرة المثليين).أما المشهد فهو لقاء النائب العام اليوغندي في برلين وهو يلتقي بنظيره الألماني في أكتوبر من العام الماضي. كان النائب العام اليوغندي يستمع مندهشا لأهمية أن تنفتح بلاده لحقوق المثليين حتي لا تخالف الميثاق العالمي لحقوق الإنسان.وفي حركة درامية أخرج النائب العام اليوغندي نسخة الإنجيل التي كان يحملها في حقيبته وقال لنظيره الألماني: أتؤمنون بهذا؟. فأومأ بالإيجاب.فقال له لا نجد ما تدعوننا إليه في هذا الكتاب.
لخصت إفتتاحية صحيفة النيويورك تايمز الصادرة في 11 فبراير أبعاد هذه المعركة وقالت إن ما يتمتع به المثليين وما ينعمون به من حرية في الغرب، يقابله تضييقا وإستهدافا غير مبرر ضد المثليين الأفارقة. وجاءت صرخة النيويورك تايمز عندما لمست توجهات قوية في البرلمانات الأفريقية لإصدار قوانيين تجرم المثلية الجنسية. وأتخذت من توقيع  الرئيس النيجيري علي القانون في يناير من هذا العام الذي أصدره البرلمان في أبوجا ذريعة للإحتجاج،وقالت أنه يمثل تراجعا كبيرا لمسيرة الحرية في أفريقيا لأنه يجرم ويعاقب علي ممارسة الإنشطة والترويج للمثلية الجنسية ومثلية الهوية الثقافية. وفي هذا الصدد هاجم سفير واشنطون في بوركينا فاسو رئيس البلاد لأنه قاد الحملة ضد المثليين، كما أصدر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري تصريحا ضد الرئيس الغامبي يحي جامع لأنه أنتقد المثليين وقال كيري إن واشنطون تشعر بالقلق من جراء هذا التصريح العدائي ضد المثليين من الرئيس الغامبي. ودعا ناشطون الوزير كيري الي سحب سفيريه من بوركينا فاسو وغامبيا. ومورست ضغوطا عنيفة علي الرئيس السينغالي لإبطال التشريعات القانونية السائدة ضد المثليين والتي تعاقب بالسجن خمس سنوات، إلا أنه أكد أن قرارا كهذا سيواجه بغضب شعبي عارم  ولن يستطيع أي سياسي دفع ثمنه أو مواجهة عواقبه. وحتي يكون لهذه التوجهات الأفريقية ثمنا إقتصاديا وسياسيا قالت منظمة العفو الدولية إن توجهات الدول الأفريقية في تجريم سلوك المثليين يحمل مخاطرا إقتصادية ضد القارة لأن مناخ الإستثمار يبدو غير آمن  وليس جاذبا للإستثمارات الأجنبية.
ولعل الصفعة أو الدهشة الكبري جاءت الي الغرب من تلقاء يوغندا التي تعتبر الحليف الإستراتيجي الأول للغرب في منطقة شرق ووسط أفريقيا ، وظل موسيفيني يتمتع بثقة ودعم الغرب في كل مغامراته السياسية في الإقليم. إذ وقع الرئيس موسيفيني بعد طول ترقب وتوقع قبل أسبوعين في شهر فبراير الماضي القانون الذي أصدره البرلمان اليوغندي بتجريم ومعاقبة ممارسات المثليين وإشهارها والترويج لها. وقال تقرير خاص في وكالة الأسوشيتد برس إن موسيفيني تعرض لضغوط عنيفة عبر وسائل الدبلوماسية الخفية والهادئة والتي فشلت في وقف تصاعد إصدار تشريعات تجرم حرية المثليين حسب زعمها في أفريقيا. وقابل موسيفيني قبل شهر من توقيعه القانون مجموعة من الناشطين الأمريكيين وأنضم لهم عبر الهاتف  القس الجنوب أفريقي ديزموند توتو لإثناء موسيفيني عن ذلك.وخرج موسيفيني حينها بمبررات لتأجيل النظر في أمر القانون حتي يطلع علي تقرير أعدته مجموعة مختارة من العلماء اليوغنديين والخبراء الدوليين لكشف ماهية وهوية هذه التوجه الجنساني والممارسة وهل هي مسألة جينية أم سلوكية؟.أي هل هي خلقية جينية أم سلوك مكتسب؟. وقرر موسيفيني أخيرا توقيع القانون رغم الوعود المعسولة التي بذلها لكل زائريه من الناشطين والسياسيين.وقال مبررا ذلك إن تقرير العلماء اليوغنديين أثبت أن هذه الممارسة تمثل مخاطرا جمة علي الصحة العامة في البلاد. في أول رد فعل أدانت الولايات المتحدة الخطوة التي أتخذتها يوغندا ،وهددت بوقف العون السنوي البالغ 400 مليون دولار، كما أعلن البنك الدولي تجميد مساعدات للقطاع الصحي ب 90 مليون دولار.وفي ذات الإتجاه عبرت كل من هولندا والنرويج والسويد عن إدانتها ليوغندا وهددت بالنظر في وقف المساعدات التنموية. وقال تقرير صادر من منظمة العفو الدولية أن موسيفيني وقع علي القانون لأنه يريد إعادة ترشيح نفسه في الإنتخابات القادمة مرة أخري، ويريد ضمانات المساندة السياسية من داخل حزبه وأعضاء برلمانه.
وفي إستطلاع أجرته البي بي سي البريطانية أمس الأول قال طبيب يوغندي إن القانون الذي أصدره البرلمان يعني بالأمن الثقافي لبلاده، وقال آخر إن هذا القانون لتعزيز إحترام التقاليد والإرث الأفريقي. وفي ذات البرنامج قال الدكتور جونثان مدير معهد دراسات ما وراء البحار بلندن إن قرار البنك الدولي لتجميد العون المقدم الي يوغندا بمبلغ 90 مليون دولار يعتبر قرارا غير حكيم لأن الضرر يقع علي المواطن لا الحكومة،  كما أشار الي أن الخلافات الثقافية لا تحل عبر الضغوط السياسية. وقال إن الغرب الذي كان يمثل أكبر منتهك لحقوق الإنسان قبل أقل من مئة عام أصبح الآن شرطيا دوليا وضميرا أخلاقيا لشعوب القارة الأفريقية.
توضح قاعدة البيانات التي تنشرها المنظمات الناشطة للدفاع عن حقوق المثليين أن 38 دولة في أفريقيا تحرم وتجرم هذا السلوك من اصل 54 دولة وكيان سياسي  في أفريقيا. وأن هناك 76 دولة في العالم تتبني ذات الموقف. وفي الخارطة الملحقة في قاعدة البيانات يرد أسم السودان ضمن أربع دول في المنطقة توقع حكم الإعدام علي مرتكب الجريمة،وهي موريتانيا، السعودية وإيران بجانب السودان، أما بقية دول العالم العربي فتطبق عقوبة السجن. ولكن الأمر الأهم هو العناية والإهتمام بالضحايا الذين عانوا من تشوهات نفسية حادة جراء الإعتداءات والتحرشات التي تعرضوا لها في طفولتهم.
في كراسته الشهيرة عن الأبعاد الثلاثية للثقافة الأفريقية التي يتفاعل فيها الإسلام مع الحضارة الغربية والتقاليد الأفريقية والمسيحية يقول البروفيسور علي مزروعي إن الثقافة الأفريقية الأصل تتفاعل مع الإسلام من جانب والحضارة الغربية من جانب آخر. وعليه يقر أن عملية التفاعل المركزية هي ثقافية حضارية. ويؤكد أن صراع الثقافات في المجتمعات الأفريقية يحدث عند بروز سياقين قيميين يتعارضان في الأصل والتوجه فتتم الإزاحة للثقافة الأضعف،مما يؤدي الي بروز ما يسميه (بالتخليط الثقافي) وهو الذي يؤدي بدوره الي الإستلام الثقافي إزاء الثقافة الغازية. وفي ظل هذا التفاعل فإن علي مزروعي يؤكد أن الثقافة الغازية والغالبة في المجتمعات الأفريقية تدفع بالثقافة الأضعف إما الي الإذعان والإستسلام، أو الإزاحة أو مقاومة الهزيمة والنهوض مرة أخري. وبشر مزروعي بخيار رابع أسماه الإندماج الثقافي وعرفه بأنه  تلاقح سياقين ثقافيين لتشكيل مسار وتأسيس أرث جديد في قاعدة الثقافة الأفريقية. وهذا يشير الي أن قيم الليبرالية الغربية التي تدعو الي حرية التوجهات الجنسانية وإحترام حقوق المثليين تأتي في مرحلة التخليط الثقافي وهي المرحلة التي تتمكن فيها الثقافة الغالبة من إحداث تأثيرها في ظل تراجع الثقافة الأصيلة قبل إزاحتها أو إعلان مقاومتها.
وقد كتب البروفيسور مزروعي في مقالته التي أصدرتها جامعة تمبل في كتاب عن الأصول الفكرية للتراث الأفريقي في منتصف عقد التسعين من القرن الماضي كتب عبارة كاشفة وقال إن التأثير الأكبر للقيم والثقافة الغربية علي حياة المجتمعات الأفريقية ليس في عادات الملبس ومظاهره، ولا التذوق الموسيقي ولكن يكمن في العادات الجنسية.
وعليه فإن التأثير الأكبر للغزو الثقافي الغربي علي حياة المجتمعات الأفريقية يمكن في التوجهات الجنسانية وحريتها مما فجر قضية الصراع الثقافي المسكوت عنه حول حرية وحقوق المثليين في أفريقيا. وهذه الحرية التي يطالب بها الغرب ويحاول فرضها علي الدول الأفريقية بشتي الطرق تخالف الثقافة السائدة والإرث الحي للمجتمعات والدول الإفريقية، وعليه مهما تفاقمت الضغوط السياسية والإقتصادية من تلقاء الغرب علي الدول الأفريقية كما حدث ليوغندا ونيجريا والسنغال وبوركينا فاسو وغامبيا، فإن السياسيين والبرلمانيين ومتخذي القرار في أفريقيا لن يستطيعوا مواجهة شعوبهم وفرض ما يخالف إرثهم الثقافي وتقاليدهم الإجتماعية وتراثهم الروحي . هذا فضلا عن مخاطره السياسية علي الساسة أنفسهم الذين يبحثون عن المؤازرة الشعبية والشرعية الإنتخابية. ولا شك أن الإعتراف بحقوق المثليين لأي سياسي في أفريقيا يعني مذبلة التاريخ. لقد زادت نسبة التنصير في أفريقيا خلال الخمس سنوات الماضية بنسبة 26% وفي أمريكا الجنوبية نسبة 10% وأوروبا 5%. وبعض الضغوط علي هؤلاء القادة تعود أيضا الي قواعدهم الدينية المسيحية خاصة من قبل التبشيريات الإفانجاليكانية كما في يوغندا. أما في العالم الإسلامي فان الأمر محسوم بحكم التوجهات الدينية والقيم المحافظة. وذلك ما ظلت تتبناه منظمة المؤتمر الإسلامي في مداولات مجلس حقوق الإنسان بجنيف كل عام دون تنازل. وهو ذات الموقف الذي أدي اي بروز بعض الأصوات المعارضة بعد عرض فيلم عمارة يعقوبيان للروائي علاء الأسواني الذي أحتوي علي مشاهد لشخصية أساسية تعاني إنحرافا سلوكيا.وجوبه هذا الرفض بحملة مضادة تعني وتدعو الي حرية الفن، وليس تكميمه بواسطة الفتاوي الدينية.وربما ندم عليها أيضا التيار الجمهوري اليميني المحافظ في أمريكا أثناء حكم الرئيس بوش الأبن الذي أعلن أكثر من مرة أنه سيقدم مقترحا للكونقرس لتعديل الدستور الفيدرالي ويحدد تعريف الزواج بأنه بين الرجل والمرأة.وإضطر للتنازل عن مقترحه بفعل ضغوط وإلحاح بعض القواعد الشعبية ونائبه ديك شيني الذي له إبنة مثلية وأقنعه أن يترك أمر تعريف الزواج الي الدساتير الولائية.ولكن عاد الرئيس أوباما وأيد حقوقهم وجدد سياسة الرئيس كلنتون في قانونه الشهير في الجيش الأمريكي (لا تسأل لا تجيب).
إن أفريقيا إزاء معركة ثقافية تجاه الغرب الذي يحملها قسرا ضد تراثها وتقاليدها وثقافتها للإعتراف بحقوق المثليين، وقد أدت هذه الضغوط الي تفجير موجة من الغضب الشعبي إستجابت لها بعض البرلمانات فأصدرت تشريعات لتجريم ممارسات هذه الفئة، لأنها حسب وصف البعض أنها قضية أمن ثقافي لأفريقيا. ولا شك أن المعركة الثقافية لا تحارب بالوسائل الثقافية والضغوط الإقتصادية كما حاول أن يفعل البنك الدولي وهو يجمد عون تنموي بمبلغ 90 مليون دولار ليوغندا. هذا التوجه الأفريقي يجب أن يسدد أيضا كما ذكرنا آنفا للإهتمام بضحايا الإعتداءات والتحرشات في طفولتهم. وكما قال البروفيسور مزروعي فإن التأثير الأكبر للثقافة الغربية لا يقع في عوائد الملبس وأسلوب الحياة وتذوق الموسيقي ولكن في التوجهات والعادات الجنسانية.

 

آراء